عناصر الخطبة
1/التحذير من الظلم وعواقبه 2/من الظلم حرمان الورثة من الميراث 3/التحذير الشديد من أكل ميراث اليتامى والنساء 4/من أسباب النزاع بين الورثة 5/من صور الظلم في مسائل الميراثاقتباس
ومن أسباب النزاع في الميراث: تخصيص الوالد أحد أبنائه لمعرفة أملاكه والبقية لا يعلمون، وربما أخفى الابن بعض الأموال إذا كان من غير الأمناء، أو ربما أعطى كل واحد نصيبه دون أن يعلم الورثة: كم ورثوا من ميتهم؟ أو أخَّر توزيع الميراث وقد يوجد قُصَّر يعيشون فقرًا...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
أما بعد: اتقوا الله -أيها المؤمنون-، واعلموا أن تقواه سبيل الرشاد في الآخرة والأولى؛ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[البقرة: 281].
عباد الله: لقد حَرَّم الله -عز وجل- الظلم على نفسه، وحَرَّمه على عباده، فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر الغفاري قال: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا"، والله -عز وجل- توعَّد الظالمين بالعذاب، فقال -تعالى-: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ)[إبراهيم: 42]، وقال: (أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)[هود: 18]، وشر الناس من إذا طمع سرق، وإذا شبع فسق، وإذا احتاج نهش، وإذا استغنى فحش.
ومن الظلم والجور -يا عباد الله- قضية انتشرت بين المسلمين كانتشار النار في الهشيم، ظاهرة تسببت في الكثير من المعاناة والخلافات والنزاعات بين أبناء العائلة الواحدة، حتى بات أفراد الأسرة الواحدة أعداءً متناحرين؛ مما يساهم بشكل كبير ومباشر في تمزيق المجتمع بأسْرِه، ظاهرة يشتكي منها كثير من الناس، ونشاهدها في كثير من العائلات، ألا وهي قضية الظلم في الميراث، وأكل حقوق الورثة، والتحايل عليهم.
فكم من امرأة حُرِمت من ميراثها، وكم من يتامى أُكِلت حقوقهم، وكم من ضعفاء لم يجدوا لهم ناصرًا، وكم من إخوة تواطؤوا على أخيهم أو أختهم فأجمعوا أمرهم وهم يمكرون!، ومما يزيد من الألم ويفجع الفؤاد أن يتناحر أبناء الأسرة من إخوة وأخوات بعد موت مورثهم من أجل حطام زائل، ومتاع من الدنيا قليل، يقول ربنا -جل جلاله- في محكم التنزيل: (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا)[الفجر: 19]، والتراث: هو الميراث، واللمُّ من لَمَّ الشيء إذا جمعه، فيعتدي في الميراث، ويأكل ميراثه وميراث غيره.
ومن احتال على إسقاط الفرائض والمقادير، وتغيير الأنصباء والسهام، وحرم وارثًا من ميراثه، وحبس مال التركة، فأخفى أصولها وأعيانها، وغيب إثباتها وإسنادها، واستأثر بالتصرف فيها، وماطل في قسمتها، ورام استغلالها، وألجأ الوارث إلى التنازل عن سهمه، والرضا بجزء من قسمه؛ فقد تعدَّى حكم الله وفريضته وقسمته وحدوده.
فاعلموا -يا عباد الله المؤمنين- أن أكل ميراث الغير فيه تَعَدٍّ لحدود الله -تعالى- وانتهاك لحرماته، فالله -سبحانه- بعد أن بيَّن الأنصبة قال: (فَلَا تَعْتَدُوهَا)[البقرة: 229]، ولا تجاوزوها؛ ولهذا قال -تعالى-: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)[النساء: 13]، أي: فيها، فلم يزد بعض الورثة، ولم ينقص بعضًا بحيلة ووسيلة، بل تركهم على حكم الله وفريضته وقسمته؛ (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ)[النساء: 13 - 14]، أي: لكونه غيَّر ما حكم الله به، وضادَّ الله في حكمه، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به؛ ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم، ولا شك أن من منع امرأة أختًا كانت، أم أمًّا، أم جدة أم زوجة ميراثها، فقد تعَدَّى حدود الله، وتعَرَّض لعقوبته، والله قد قسم الميراث قسمة عدل لا جور فيها ولا حيف.
وفي العدل وصل ومودة واجتماع، وفي الظلم اختلاف وفرقه، وتباغُض وتشاجُر ونزاع على متاع قليل وأطماع، والخؤون الظلوم يتحفز إلى حق المرأة واليتيم في الميراث، ففي صحيح ابن ماجه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم إني أُحَرِّج حقَّ الضعيفين: اليتيم والمرأة"(صحيح الجامع)، ومعنى "أُحَرِّج": أضيق على الناس في تضييع حقها، وأشدد في ذلك، وأحذر وألحق الحرج والإثم بمن أضاع حق اليتيم والمرأة.
فيا من وجد مال التركة سهلًا مهلًا، يا من استولى على ميراث الإناث، وأغراه ضعفهن وسكوتهن وحياؤهن، يا من استولى على ميراث الأيامى واليتامى، وغرَّه صغرهم وعجزهم وانقطاعهم: تبَّتْ يداك، وخاب مسعاك، ودام شقاك، كيف طابت نفسك أن تستولي على المال والأرض والعقار، وتسند إخوتك وقرابتك إلى الفقر والعجز والضياع؟! من الذي أباح لك أموال التركة إمساكها وإطلاقها، حظرها وإنفاقها؟! ويل لك وويل عليك، فما أنت إلا شريك من الشركاء، ووارث من الورَّاث، لك ما لهم، وعليك ما عليهم، فاحذر -يا عبد الله-.
احذر -أيها المسلم- أن تبيع دينك بقطعة أرض، أو بمال قل أو كثر؛ فإن هذا من البغي، وإن هذا من قطيعة الرحم، واسمع إلى ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما من ذنب أجدر من أن يُعجِّل الله عقوبته لصاحبه، مع ما يدَّخره له في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم"(حديث حسن، رواه أبو داود، وحسَّنه الشيخ مقبل الوادعي -رحمه الله-).
وعندما ننظر لهذه المشكلة، نجد أن سبب وجودها أمور متعددة، منها:
تساهل الكثيرين من الناس بالوصية وعدم كتابتها، وإيضاح ما لديه من أموال، وما لديه من الأموال المشتركة مع الآخرين، فقد يدعي أحد الأولاد أنه شريك لوالده أو أمه، وحينذاك لا بُدَّ مما يثبت ذلك، وإلا فتح على الورثة بابًا عريضًا من الخلافات والاتهامات، والله يقول: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)[البقرة: 180]، وقال -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ)[المائدة: 106]، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا وعنده وصيته".
ومن أسباب النزاع في الميراث: تخصيص الوالد أحد أبنائه لمعرفة أملاكه والبقية لا يعلمون، وربما أخفى الابن بعض الأموال إذا كان من غير الأمناء، أو ربما أعطى كل واحد نصيبه دون أن يعلم الورثة: كم ورثوا من ميتهم؟ أو أخَّر توزيع الميراث وقد يوجد قُصَّر يعيشون فقرًا، والتركة تغنيهم عن صدقات المحسنين، أو ربما مال في التقسيم لإخوته الأشقاء، والواجب هو تحرِّي العدل، وما أشكل فيرجع فيه إلى الشرع، والقاضي يفصل بينهم عند النزاع.
ومن أسباب النزاع في الميراث: تصرُّف الوصي في العقارات خاصةً دون إذن الورثة، أو عدم تدوين حسابات المشاريع الموروثة بعد وفات المورث، أو إخفاء الصكوك والمستندات فترةً طويلةً؛ لاستغلال بعض العقارات وخاصةً المؤجرة.
عباد الله: ومن الظلم المنتشر بين المسلمين حرمان المرأة من الميراث لخصوصية الرجال فيه دون النساء، أو المماطلة بحقها وبعضهم يجبرها على توكيله ثم يأكل حقَّها، والله -تعالى- قال: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا)[النساء: 7]، ويقول -سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)[النساء: 10]، وقال -تعالى-: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا)[النساء: 2].
وروى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي قال: "اجتنبوا السبع الموبقات"، قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات".
وإن من التعدي والظلم في مسائل الميراث أن تترك التركة بعد المورث سنين عددًا، ينتفع بها بعض الورثة دون البعض، وقد يكون بعض الورثة في حاجة وضيق، وقد يطالب بعضهم بالقسمة فما يسمع إلا الوعود الكاذبة والمماطلة، وهذا من الظلم -عباد الله- لأنك تمنع الحق أهله، وتمنع أن يصل المال إلى مستحقِّيه، بل الواجب -معاشر المسلمين- أن يقسم الميراث بمجرد موت المورث، بعد وفاء حقوق التركة.
وإن من الظلم أيضًا في مسائل الميراث أن بعض الآباء يهب لبعض أبنائه دون بعض، أو يهب لأبنائه الذكور دون الإناث، وهذا ظلم وجور، فعن النعمان ابن بشير -رضي الله عنهما- قال: "أعطاني أبي عطيةً، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطيةً، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله، قال: "أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟"، قال: لا، قال: "فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم"، قال: فرجع فرد عطيته"(رواه مسلم).
فاتقوا الله -معاشر المؤمنين- واحذروا أن تعطوا بعض الأبناء دون بعض، فإن هذا سبب من أسباب التشاجُر والضغينة بين الأبناء، وسبب من أسباب عقوق الأبناء للآباء، وسبب من أسباب وقوعك في الظلم والزور وعدم العدل.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- واستقيموا على طاعته، وابتعدوا عن معاصيه التي منها أكل أموال اليتامى والأرامل والضعفاء وغيرهم، فالقصاص يوم القيامة يكون بالحسنات والسيئات، واعلموا أن الميراث وما يُخلِّفه الميت من المال يجمع الأسرة ولا يُفرِّقها، ويقوِّيها ولا يُضعِفها، وحب المال لا يُقدَّم على حب الإخوة والأخوات، فمن يظن أن أخًا يشتكي أخاه في المحاكم، ومن يظن أن الإخوة والأخوات بعد اجتماع ووصال تفرقوا وتهاجروا وتباغضوا!، ترى لو علم والدهم ومورثهم أكان هذا يرضيه؟ بل ربما تمنَّى لو مات فقيرًا معدمًا أحب إليه من ترك الملايين لورثته المتنازعين.
فبادروا -عباد الله- بقسمة الميراث، وأعطوا كل ذي حقٍّ حقَّه، واحذروا الظلم؛ فالظلم ظلمات يوم القيامة، والله المستعان.
التعليقات