الطلاق عذب أم عذاب؟

د عبدالعزيز التويجري

2022-11-21 - 1444/04/27
عناصر الخطبة
1/الفتن وأثرها في بناء الأسر وهدمها 2/من أهم أسباب الخلافات الأسرية هو ترك العمل بما يوعظون به 3/فساد الأسر سبب لفساد المجتمع وانحلاله 4/ما سبب ظاهرة الطلاق المخيفة؟ 5/الحكمة في جعل الرجل قواما 6/طلب الكمال في الحياة الزوجية مثالية ونوع من الوهم 7/متى يكون الطلاق حلا؟

اقتباس

إن الطلاق على هذه الشاكلة عبثٌ وحمق، وفصلٌ لعرى الزوجية التي تمت بكلمة الله، وقامت على أمانة الله، وكأن الطلاق عقوبة أو كأنه سيفٌ مصلت يهدد به هذا الأحمق زوجته وأم أولاده وربة بيته، يهدد بالطلاق، أو يتلفظ به في أمور صغيرة وأشياء حقيرة، اتخذ...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ‌نَفْسٍ ‌وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)؛ أما بعد.

 

الأسرةُ كيانُ بقاءِ الأمةِ، وروحُ قوتِها وصمامُ أمانِها، ولا تهدمُ صروحُ الفضيلةِ ويتشتتُ شملُ الأسرةِ إلا حين تهبُ عواصف رياحِ الفتنِ والمغرياتِ؛ فتُخلخلَ جدرانَ تماسكِ البيوتِ، وحين يلهثُ ربانُ سفينةِ البيتِ خلفَ شهوةِ زائلةِ، أو ترويجِ لدعايةِ مغريةِ، أو تُصغيَ لحاسدٍ ونمامٍ، عندها تتصدعُ جدرانُ قناعةِ الزوجينِ ببعضِهما؛ فتتولدُ المقارنةُ، وترتفعُ دعوى المطالبةِ بالكمالِ والمثالية؛ فينتجُ عنها التراشقَ بالاتهاماتِ أو عدمِ القيامِ بالحق الأمثل، وتحضر الأنفسُ الشحَ، ويتربعُ الشيطانُ على الأفكارِ، حتى يتفاقم الأمر، ويشتعل فتيل النزاع والخلاف؛ فلا ينتهي إلا على أبواب المحاكم، أو تُكسر العلاقة عند باب المنزل؛ فتهتز ثقة الأبناء بالأبوان، وتُغادر قرةُ عين الأسرة بيتا طالما احتضنها، وزوجاً كان أياماً أنيسها، ويُتنازع في الأطفال أيهما أحق بهم.

 فيا لطفل أضاعه والـــداه *** في طلاق لم يدركا عقباه

 لم يمت والده لكنه أمسى *** يتيما يجتر طعم أســــاه

 إن حنت أمه عليه فضمه *** لديها فقد أضاع أبــــاه

 وإذا ما أبوه أمسكه لم يلق *** أما ما مثلها يرعــــاه

 

هذه عواقبها؛ (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا)، وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ حين أرشدهم معلم الأمة ونبي العدل -عليه الصلاة والسلام- بقوله: "لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ"(أخرجه مسلم)؛ فإن كان فيها تقصيراً في الخدمة، لكن فيها جمال وعفة، وربما كان عندها شيء من عدم الفطنة؛ لكنها رفيقة متحببة.

 

وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ؛ فلم يصغوا لكل حاسدٍ ونمام، وكلِ مفسدٍ مخببٍ بالتصويرِ وتنميق الكلام (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ).

 

وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ؛ فغادر الزوج البيت عند الغضب، وتوضأت المرأة وتعوذت بالله، لهدأت النفوس وولى الشيطان وحضرت الحكمة، اسْتَبَّ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-؛ فَغَضِبَ أَحَدُهُمَا، فَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى انْتَفَخَ وَجْهُهُ وَتَغَيَّرَ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً، لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ"(متفق عليه).

 

(وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا)..

 

إن ارتفاع نسب الطلاق ليس فساداً للأسرة فحسب؛ بل هو فساد للمجتمع بأسره، أو شقاءً لأفرادها فقط، ولكنه فسادٌ للأمة كلها، ودمارٌ للبشرية جميعها؛ بل كم من حضارةٍ هوت لانهيار كيان الأسرة فيها، واختلاط الحلال والحرام في نظامها، وانتشار الفساد في أخلاقها.

 

وما فشى الطلاق إلا حين جُعلت معايير الاختيار في الزواج هي المقاييس الجمالية الشكلية، وأُغفل؛ "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه"، "فاظفر بذات الدين تربت يداك"، حينها وقعت الواقعة.

 

انتشر الطلاق حين تباهى أناس بالتبذير والإسراف في زمن صعبت فيه الحياة المادية؛ فالزواج لا يتم إلا بعد تكاليف وبذخ فرح وملكة، وسفريات مترفة، وهدايا مرهقة ونتاج ذلك ديون خلّف خلافات ونزاعات بين الزوجين على أمور مادية خلاف ثم تشاحن ثم طلاق.

 

انتشر الطلاق حين ظهر فئةُ من النساء يعشن على مبدأ المقارنة بين ماضيها المدلل عند أهلها وحاضرها المكلف عند زوجها، بين وضعها المادي والاجتماعي ووضع صديقاتها وأخواتها، ومن هنا تشتعل جذوة الفراق، والحل؛ "لا تنظروا إلى من هو فوقكم وانظروا إلى من هو أسفل منكم؛ فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم".

 

انتشر الطلاق حين استغنت فئة من النساء بوظائفهن؛ فاستقلت لاعتقادهن أن الحياة الزوجية شراكة تجارية، وما علمن أن حكمة الزواج سكينة ومودة، واستقرار وعفة، وتحصين وبناء أسرة، وتكثير لسواد الأمة؛ (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً).

 

 الطلاق -معشر المؤمنين- في غير محله تعدٍ لحدود الله وتجاوز لسننه، ونفور عن مواطن الألفة والمودة والرحمة، وبعدٌ عن مسالك الصلاح والإصلاح؛ "أبغض الحلال إلى الله الطلاق"(وعند الدارقطني)، "ما خلق الله شيئاً أبغض إليه من الطلاق".

 

إن الطلاق على هذه الشاكلة عبثٌ وحمق، وفصلٌ لعرى الزوجية التي تمت بكلمة الله، وقامت على أمانة الله، وكأن الطلاق عقوبة أو كأنه سيفٌ مصلت يهدد به هذا الأحمق زوجته وأم أولاده وربة بيته، يهدد بالطلاق، أو يتلفظ به في أمور صغيرة وأشياء حقيرة، اتخذ آيات الله هزواً، ولم يجعل للصلح موضعاً، ظلم نفسه، وخسر أهله، وفرق شمله، وشمت به الحاسدون.

 

إنه مهما يكن من خلاف فإن الرجل الحازم الفهيم هو من يفهم تكوين المرأة؛ فيعاملها كما خلقها الله لا كما يريد أن يفترضه؛ "فَإِنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ"(متفق عليه).

 

والرجلُ الشهمُ لا ينتظرُ رضاهُ باعتذارِ زوجتِهِ، بل؛ (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).

 

وما جعل اللهُ القِوامةَ للرجلِ إلا لما فيه من التعقلِ وضبطِ النفسِ وعدمِ مؤاخذةِ المرأةِ حين تراجِعُهُ أو تقاطعُهُ؛ قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- "كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَوْمًا نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، وَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ؛ فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ، قَالَ: فَتَغَضَّبْتُ يَوْمًا عَلَى امْرَأَتِي، فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي؛ فَقَالَتْ: مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ؛ فَوَاللهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- لَيُرَاجِعْنَهُ، وَتَهْجُرُهُ إِحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ"(متفق عليه).

 قمرٌ تسلسلَ منْ ذؤابةِ هاشمٍ *** في السرِّ منها والصريحِ الأمجدِ

 

إن النسيم لا يهب عليلاً دائماً على الدوام؛ فقد يتعثر الزوج وقد تثور الزوابع، وإن ارتقاب الراحة الكاملة نوع وهم، ومن العقل توطين النفس على قبول بعض المضايقات وترك التعليق المرير عليها؛ (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا).

 

والتغافلُ سترُ البيوتِ، والتناصحُ قِوامُ الأُسرِ، والأبوانُ أركانُ البيتِ؛ فمتى ما كانا متماسكينِ متعاونينِ تجَمّلت وتعطّفت وبرّت أروقتُهُ من بنينَ وبناتٍ، ودامَ عزُها وبقي ذُخرُها.

 

وعلى أهل الزوجين كفل من تفكك الأسر حين يتدخلون فيما لا يعنيهم؛ فيثور الأبوان ويعضدهم الإخوة والأخوات حتى إذا انتزعوا ابنتهم من زوجها ذهبوا لحياتهم ونسوها تقاسي مرارة الفرقة والوحدة.

 

إنه لا يستفيدُ من تزعزعِ الاسرةِ والبيتِ إلا الإعلامُ الذي ينتظرُ هارباتِ البيوتِ؛ ليصنعهنَّ خِنجراً في خاصرةِ المجتمعِ؛ لِيُنزِفَ ما بقي من حيائِه وغيرتِه وقِوامتِه.

 

أستغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات؛ فاستغفروه إن ربي رحيم ودود.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ولي الصالحين والصلاة والسلام على الرسول الكريم وآله وصحبه والتابعين؛ أما بعد:

 

الطلاق كلمة لا يُنازع أحدٌ في جدواها وحاجة الزوجين إليها، عندما يتعذر عند العيش تحت ظل وارف؛ وإذا بلغ النفور بينهما مبلغاً يصعب معه التودد؛ فالواجب أن يتفرقا بالمعروف والإحسان كما اجتمعا لهذا القصد؛ (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً)[النساء:130].

 

وإذا تفرقا فلا يحل لأحدهما أن يفشي سر الآخر، في صحيح مسلم؛ "إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه، ثم ينشر سرها".

 

ونقل عن بعض الصالحين أنه أراد تطليق امرأته؛ فقيل له: ما يريبك منها؟ فقال: العاقل لا يهتك سراً.

فلما طلقها، قيل له: لم طلقتها؟ فقال: ما لي ولامرأة غيري؟!

 

فاتقوا الله -أيها المسلمون- والتزموا بآداب دينكم وحافظوا على بيوتاتكم؛ فإما إمساكٌ بمعروف وإما تسريحٌ بإحسان.

 

 

ثم صلوا وسلموا على نبيكم محمد...

 

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life