عناصر الخطبة
1/حرص الشيطان وجنوده على إثارة الخلافات الزوجية لإيقاع الطلاق والسبب في ذلك 2/الطرق الوقائية التي تمنع وتقلل الخلافات الزوجية 3/السبل العلاجية لمنع الطلاق حال وجود الخلاف والشقاق بين الزوجين.اقتباس
ومن يتأمل في الأرقام والإحصائياتِ الرسمية يكاد يشيب رأسه من ارتفاع حالاتِ الطلاق والخلع، ويكاد يوقن بأن الطلاقَ لم يعد حالةً استثنائيةً تحدث بين الأزواج، وإنما هو ظاهرة اجتماعية تتسرب وتنتشر انتشار النار في الهشيم، مما يُحتِّم علينا جميعا أن...
الخطبة الأولى:
أما بعد: ها هو جالسٌ على عرشه، يدير شؤونَه، ويتابع أعمالَه، تُرفعُ إليه التقارير من عمّاله؛ فلا يألو جهدا في التدقيق فيها، واتخاذ القرارات التي تُبنى عليها.
عملٌ متواصل، وجهدٌ مضني يتم في غرفة عملياتِ إبليس، قائدِ الإفسادِ وزعيمِ الإضلالِ في العالم.
يعمل تحتَه الجموعُ من شياطين الجن والإنس، ليساهموا في تحقيق أهدافه، ويعملوا على الوصول إلى غاياته.
تتنوع مهامُّ هذه الجموع؛ فكلٌ له نصيبُه من الإضلالِ صغيرِه وكبيرِه؛ فبين ناجح وفاشل، وبين مقدَّم ومؤخَّر.
واليوم سنقفُ مع عمل من أعمال المقدَّمين عند إبليس، الذين هم من جنود الصف الأول ممن يعلق عليهم إبليس كثير من آماله وأحلامه في الإفساد.
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ إبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ علَى الماءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَراياهُ؛ فأدْناهُمْ منه مَنْزِلَةً أعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أحَدُهُمْ فيَقولُ: فَعَلْتُ كَذا وكَذا، فيَقولُ: ما صَنَعْتَ شيئًا، قالَ ثُمَّ يَجِيءُ أحَدُهُمْ فيَقولُ: ما تَرَكْتُهُ حتَّى فَرَّقْتُ بيْنَهُ وبيْنَ امْرَأَتِهِ، قالَ: فيُدْنِيهِ منه ويقولُ: نِعْمَ أنْتَ".
إنه الفقه الإبليسي!
إبليس اللعين الذي يعرف بخبرته الطويلة في مجال الإضلال والإفساد، أن انهيارَ الأسرة هو من أعظم ما يفسد على بني آدم دينهم ودنياهم، ولذلك يكثّف هجماتِه، ويُصوِّب أسهمَه على الأسرة ليُقَوِّضَ كيانَها، ويهزّ استقرارَها.
انهيار الأسرة يعني تكالبَ الهموم على الزوجين، وانهمارَ الأحزان على الأولاد، وإنباتَ نابتة البغضاء والشحناء بين الأهالي.
طلاقُ الزوجين يعني ضياعَ السكنِ النفسي، وهجومَ القلقِ المعيشي، وانكسارَ الطُّمأنينةِ الأسرية التي يحتاجها كل إنسان صغيرا كان أو كبيرا.
ومن يتأمل في الأرقام والإحصائياتِ الرسمية يكاد يشيب رأسه من ارتفاع حالاتِ الطلاق والخلع، ويكاد يوقن بأن الطلاقَ لم يعد حالةً استثنائيةً تحدث بين الأزواج، وإنما هو ظاهرة اجتماعية تتسرب وتنتشر انتشار النار في الهشيم، مما يُحتِّم علينا جميعا أن نتكاتفَ ونتعاونَ لتخفيف حدتها ومعالجة خطرها.
وفي هذه الخطبة سنعمل على وصف خطة وقائية علاجية للحفاظ على الأسرة، خطة مستمدة من الوحي الإلهي في شريعة الإسلام العظيمة التي اعتنت بشأن الأسرة، واهتمت بأمرها، ولها شَرعت الكثيرَ من الأحكام والقوانين والتشريعات.
والخطة التي سنضعها تتكون من وقاية وعلاج؛ فالوقاية فيها حلول استباقية تقي من الوقوع في المشكلات المسببة للطلاق، مما يُبعد احتمالية حصوله، ويقطعُ الطريق على الشياطين من أوله.
والعلاجُ يكون بعد أن تثورَ الضغائنُ، وتتدخلَ الشياطين، ويشارفَ الزوجين على الفُرقة؛ فيكون هذا العلاج سببا في عودة الألفة، وإطفاءِ نار الخصومة، وطردِ الشياطين بإذن الله.
فأما الخطة الوقائية فإنها تبدأ باختيار الزوج الصالح الذي عُرف بدينه واستقامته، وعُرف بأخلاقه وحسن عشرته؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في شأن اختيار الزوجة: "فاظْفَرْ بذاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَداكَ"، وقال في شأن اختيار الزوج: "إذا خطب إليكم من تَرْضَوْنَ دِينَه وخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ؛ إلا تَفْعَلُوهُ تَكُن فتنةٌ في الأرضِ وفسادٌ عريضٌ".
واختيار الزوج هو حقٌ للرجل وحق للمرأة، ولا يحل لأحد كائنا من كان أن يفرض على الرجل أو المرأة زوجا معينا، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تُنْكَحُ الأيِّمُ حتَّى تُسْتَأْمَرَ، ولا تُنْكَحُ البِكْرُ حتَّى تُسْتَأْذَنَ".
ومن الحلول الوقائية معرفةُ الحقوق والواجبات لكل من الزوجين، ثم أداءُ هذه الواجبات والحقوق على الوجه الذي يرضاه الله.
وهذه الحقوق الذي فرضها هو اللهُ -سبحانه- في شريعتِه العادلةِ التي قامت على الحق والقسط؛ فهذه الشريعة هي القاعدةُ التي يجب على الزوجين أن يؤسسا العلاقةَ عليها، ويحتكما وقت الخلاف إليها؛ فهي التي تكفل الحقوق، وتوفي الحاجاتِ المادية والمعنوية.
أما الحقوق الكاذبة التي تفرضها الثقافةُ الغالبةُ ففيها الظلم البين، والشر المستطير الذي نرى أثرَه في كثير من أبناء وبنات الجيل الذين استجابوا للإعلام الفاسد، والثقافات الدخيلة؛ فذاقوا ويلات الشقاق والخصام.
فإذا أدى كلٌ من الزوجين الحقوقَ الشرعية للآخر؛ فأنفق الرجل على زوجه، وأحسن عشرتها، وأعطاها حقها من المبيت والملاعبة والملاطفة، وإذا أدت المرأةُ حق زوجها بالطاعة في المعروف، والسعي لإرضائه والتزين والتجمل له، وحفظته في ماله وأولاده؛ فأي سبب للطلاب سيحدث بعد ذلك؟ قال سبحانه: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)؛ أي "وَلَهُنَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ الْحَقِّ مِثْلُ مَا لِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ، فلْيؤد كُلٌّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ"، وللرجال زيادة في الدرجة بقوامته للأسرة ومسؤوليته عنها في الدنيا والآخرة.
ومن الحلول الوقائية العفو عن الزلل، والتغافل عن الخطأ؛ فالإنسان ليس كائنا ملائكيا لا يخطئ ولا يزل؛ بل هو خطّاء يتكرر خطؤه، ويستمر زلَلُه ما بقي هذه الدنيا؛ خصوصا في الحياة الزوجية التي يعيشها الإنسان بعيدا عن التصنع الذي يستطيع أن يتكلفَه في الخارج، أما في البيت فيعيش الإنسان بطبيعته التي فيها من المعايب ما لا يخلو منه إنسان.
فلو أن كلا من الزوجين وقف عند كل زلة، وعاتب على كل خطيئة، لفسدت العلاقة، وكبرت بذور الفرقة، وكما قيل: "التغافل تسعة أعشار حسن الخلق"، ولا يعني ذلك عدم معالجة الخطأ تماما، ولكن يعني تفهمَ الطبيعة وقبولَ العذر والعلاجَ باللين والرفق لا بالقسوة؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ؛ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ؛ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا"، وفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "فَإِنَّ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ، وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتُهَا، وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا".
ومن الحلول الوقائية والعلاجية كذلك، الدعاءُ الدائم في أول العلاقة ووسطها وآخرها، ومن الأدعية الواردة في ذلك ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو به للأزواج: "باركَ اللهُ لكَ، وباركَ عليْكَ، وجمع بينَكما في خيرِ".
وكذلك شكر الله وحمده على ما يسر وألف بين القلوب؛ فإن القلوب بيد الله، وتآلفها نعمة عظيمة، ومنة جليلة تزداد بالشكر، وقد تزول بالكفر؛ قال سبحانه: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ).
فاللهم أعنا على شكر نعمتك، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخائم قلوبنا.
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
أما بعد: حين تتفاقم المشكلات، وتكبر الخلافات، وتثور العداواتُ بين الزوجين؛ فإن الشريعة الغراء قد دلتنا على عدد من العلاجات التي تقي الأسرةَ من التفكك، وتحميها من الانهيار بإذن الله.
فمن ذلك تذكر الفضل، واستحضار المحاسن؛ فالزوجان تشاركوا في الطعام والشراب، والبيت والفراش، والأفراح والأحزان، واللذات والآلام، والأموال والأولاد، وذلك كله بحر من الفضل والإحسان من كل طرف للآخر، وهذا البحر يسع أن تغمرَ فيه كثيرٌ من السيئات والزلات؛ قال سبحانه: (وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، وقال -صلى الله عليه وسلم- يخاطب الرجل: "لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إنْ كَرِهَ منها خُلُقًا رَضِيَ منها آخَرَ"، وقال -صلى الله عليه وسلم- يخاطب النساء ويحذرهن من أحد أسباب دخولهن النار وهو جحود فضل الزوج؛ فيقول: "يَكْفُرْنَ العَشِيرَ، ويَكْفُرْنَ الإحْسَانَ، لو أحْسَنْتَ إلى إحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شيئًا، قالَتْ: ما رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ".
واستحضار المحاسن والفضائل ينفع الزوجين في زمن صار فيه التظاهرٌ موضةً عارمة، وصار التفاخرُ فيه ظاهرةً متفشية؛ فامتلأت وسائل التواصل بإفشاء أسرار البيوت والعلاقات الخاصة، مما يحرك النفوسُ التي جُبلت على الطمع مما عند الآخر، ونسيان نعمة الله الحاضرة عندها، وقد أوصى الله نبيه؛ فقال له: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ).
ومن العلاجات كذلك استنفاذُ جميع الوسائل والحلول المباشرة للحفاظ على رابطة الزوجية؛ فحين تنشز الزوجة وتُظهر الشقاق فقد أرشد الله الرجل إلى وسائل العلاج بالموعظة والهجر في المضجع والضرب غير المبرّح، وذلك كله ليموت الشقاق، وتعود الألفة والاستقرار؛ قال سبحانه: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا).
والمرأة كذلك تصبر على نشوز زوجها حين يبغضها ويبغي طلاقَها بأن تسعى في الصلح ولو بالتنازلِ عن بعض الحقوق حفاظا على كيانِ الأسرة واستقرارِ الأولاد؛ قال سبحانه: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ۚ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ۗ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ ۚ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرً).
فإن استُنفذت الحلول بينهما؛ فقد أرشد الله إلى الحل التالي في قوله -سبحانه-: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا).
ومن العلاجات كذلك الصبر ثم الصبر ثم الصبر؛ فالصبر هو الحل الذي يقي من القرارات المتعجلة، والأحكام المتسرعة؛ فيسنحَ فرصة أكبر للتفكير، ويعطيَ فرصة أعظم للرجعة، ولذلك فرض الله حدودا وشرع شرائع في الطلاق تحقق مقصد الصبر؛ فضيق على الرجل الطلاق بأن حرمه في وقت الحيض مطلقا، وحرمه في وقت الطهر الذي جامعها فيه، كما شرع الرجعة إذا حصل الطلاق ووقّت عدة المطلقة بمدة معينة تمكث المطلقة في بيت زوجها وحرم على الرجل أن يخرجها من بيتها أو تخرج هي من نفسها إلا في حال الضرر، كل ذلك من أجل زيادة فرص عودة الألفة بين الزوجين؛ قال سبحانه: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا).
فإن طال الصبر، واستُنفذت كل الوسائل والحلول، ولا زالت الفرقة قائمة، والشقاق شديد، وحدود الله منتهكة فحينها يكون الطلاق هو الحل المر، الذي يتجرعه الإنسان اضطرارا وهو يدرك أنه مصيبة وبلية لا بد من خوض غمارها لدفع ما هو أعظم منها، ولا يكن هذا نهاية المطاف فيهجمه اليأس، بل ليملأ قلبه بالأمل، وليتحلَّ بالفأل بأن يبدله الله بخير مما فقد؛ قال سبحانه: (وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا).
اللهم املأ بيوتنا بالسكن والطمأنينة، واملأ قلوبنا بالمودة والرحمة، وأبعد عنها الشقاق والفرقة.
اللهم بارك لنا في أزواجنا، وبارك علينا، واجمع بيننا في خير.
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما.
اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا.
التعليقات