عناصر الخطبة
1/تأملات مهمة في قصة ابتلاء الله لنبيه أيوب -عليه السلام- بالمرض 2/تأملات نافعة في قصة ابتلاء الله لنبيه أيوب -عليه السلام- بالفقر 3/تأملات مفيدة في قصة ابتلاء الله لنبيه يونس -عليه السلام- بالهم 4/تأملات سريعة في قصة ابتلاء الله لنبيه زكريا -عليه السلام- بالعقم وفقد الأولاد 5/وصية مهمة لمن ابتلي بالمرض والفقر والهم والولداهداف الخطبة
اقتباس
أنت -يا عبد الله-: أنت يا مريض: أنت يا عليل: عليك أن تفعل الأسباب الشرعية والحسية للشفاء. ومن أعظم الأسباب: أن تدعو الله -عز وجل- آناء الليل وأطراف النهار، وأن تتعرض لرحمته: بأن يشفيك كما شفى أيوب: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) [ص: 42]. (مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ) غسل ظاهر بدنه: (وَشَرَابٌ) شرب منه فزال مرضه الباطن، زال الداء، زال الألم الظاهر والباطن. وأما ما يذكر في بعض كتب التفسير: "من أن أيوب -عليه السلام- أصيب بـ...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فيا عباد الله: الصحة والمال والولد والهم، هو أكثر ما يهم ويقلق ابن آدم: الصحة المال الولد والهم، هذه تُقلق ابن آدم في حياته، وهذه المحاور نسلط الضوء عليها من كلام ربنا -عز وجل-، حتى ندرك ونعلم علم اليقين عظمة هذا الكتاب العظيم، يقول الله -جل وعلا-: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [الأنبياء: 83].
(وَأَيُّوبَ) يعني اذكر يا محمد أيوب، ما قصته؟ (إِذْ نَادَى رَبَّهُ) لم يفزع لأحد الخلق، لم يهرع لأحد من الناس، وإنما شكا بثه وألمه وضره إلى الله؛ كما قال يعقوب -عليه السلام-: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [يوسف: 86].
لكن ما فحوى هذه الشكوى؟
(وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) لم يفصل عليه الصلاة والسلام؛ لأنه يعلم أن الله عالم بحاله، ولم يقل: يا رب مسستني بضر، تأدباً مع الله، ما الذي مسه؟ الضر، تأدباً مع الله -عز وجل-، مع أن خالق الخير والشر هو الله -سبحانه وتعالى-: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)[الزمر: 62].
لكن هذا من باب التأدب مع الله، ثم ماذا؟ (وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) تكفيني رحمتك، ولذا قال عز وجل في سورة ص: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا) يعني اذكر يا محمد: (عَبْدَنَا أَيُّوبَ).
وانظروا ما هي الصفة التي اتسم بها أيوب -عليه السلام-؟
العبودية، إضافة تشريف وتكريم: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) [ص: 41].
مسه الشيطان، نسب الشر إلى الشيطان، مع أن الكل من الله، هذا من باب التأدب مع الله -عز وجل-: (بِنُصْبٍ) يعني بضر: (وَعَذَابٍ) ألم.
وإني لأعرف شخصاً أصيب بمرض تحير الأطباء في معرفته، فكان يلهج بدعاء الله -عز وجل- أناء الليل وأطراف النهار بالشفاء، وكان من بين ما يدعو دعاء أيوب: "رب مسني الضر وأنت أرحم الراحمين".
هذا يدل على ماذا؟
يدل على أن العبد فقير محتاج إلى الله -عز وجل-، يجب عليك أن تنطرح بين يدي الله، وأن تفتقر إلى الله: ما النتائج؟
(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ) [الأنبياء: 84].
ما الطريقة التي زال بها مرض أيوب عنه؟
أمره الله -تعالى- أن يركض برجله من باب فعل السبب.
أنت -يا عبد الله-: أنت يا مريض: أنت يا عليل: عليك أن تفعل الأسباب الشرعية والحسية للشفاء، ومن أعظم الأسباب: أن تدعو الله -عز وجل- آناء الليل وأطراف النهار، وأن تتعرض لرحمته بأن يشفيك كما شفى أيوب: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) [ص: 42].
(مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ) غسل ظاهر بدنه: (وَشَرَابٌ) شرب منه فزال مرضه الباطن، زال الداء، زال الألم الظاهر والباطن.
وأما ما يذكر في بعض كتب التفسير: "من أن أيوب -عليه السلام- أصيب بمرض تناثر لحمه، ونفر الناس منه".
فإن هذا لا يصح نسبته إلى الأنبياء ألبتة - كل هذا من الإسرائيليات التي يجب أن تُرد، وأن لا تذكر وأن لا تكتب في الكتب-.
وكان عليه السلام قد افتقد ماله، ولذلك في صحيح البخاري: "لما اغتسل تساقط عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب -عليه السلام- يجمعه، فيقول الله -سبحانه وتعالى- له: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عن هذا؟ فقال: يا رب لا غنى لي عن بركاتك".
المال بركة، لكن متى؟
إذا صرف في وجوه الخير، إذا صرف في الوجه الشرعي، كما سماه الله -سبحانه وتعالى- في كتابه خيراً، وصف المال بأنه خير باعتبار ما يؤول إليه إذا أحسن العبد استخدامه، مات أهله فأحياهم الله -عز وجل- وأعطاه نظيرهم: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا) [الأنبياء: 84].
ثم ماذا؟
(وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)[الأنبياء: 84] أن يفعلوا مثلما فعل أيوب -عليه السلام-، أن يتقربوا إلى الله في السراء والضراء، من كان عليلا فعليه أن يتزلف إلى الله، أن يتقرب إلى الله: (رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)[الأنبياء: 84].
من هو العابدون؟
هم أصحاب العقول؛ كما قال عز وجل في سورة ص: (وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ) [ص: 43].
وكان أمر قد حصل بينه وبين زوجته، فحلف أن يضربها، فأمره الله -عز وجل- أن يأخذ ضغثاً من الحشيش، أو من الأشجار عدده مائة، وأن يضربها ضربة واحدة، حتى لا يحنث؛ لأنه حلف أن يضربها مائة ضربة، فقال تعالى: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا) [ص: 44].
تأملوا، كأنها علة: (وَجَدْنَاهُ صَابِراً)[ص: 44] صفة من لم يتخلق بها لم يظفر بخير لا في الدنيا ولا في الآخرة: (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)[ص: 44] رجَّاع إلى طاعة الله -عز وجل-.
ثم قال عز وجل: (وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ)[الأنبياء: 85-86].
إسماعيل قد ذكره الله -عز وجل- في كتابه في قصته مع أبيه لما أراد أن يذبحه فصبر، كما وصفه الله -عز وجل- بأنه من جملة الصابرين كما هنا: (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات: 102].
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ) [مريم: 54].
لأنه صدق ما وعد به أباه: (وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً)[مريم: 54-55].
إدريس -عليه السلام-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً)[مريم: 56-57].
وأما ذو الكِفل، سمي بهذا الاسم إما لأنه تكفل بطاعة الله -عز وجل- أن يصوم نهاره وأن يقوم ليله، أو تكفل بحراسة وصيانة الأنبياء، أو أمر من الأمور، فالله أعلم بذلك، لكن هذا ما ذكره بعض المفسرين، ولذا قال عز وجل: (وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنْ الْأَخْيَارِ)[ص: 48].
نأتي إلى المحور الثاني: (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ)[الأنبياء: 87- 88].
(وَذَا النُّونِ) يعني يونس -عليه السلام-: (النُّونِ) الحوت، يعني صاحب الحوت: (إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً) غاضب قومه، قيل: إنه واعد قومه أن ينزل عليهم عذاب الله، فتأخر فغاضبهم لما لم يؤمنوا به فخرج، فجرى له ما جرى من ركوب السفينة، فماذا قال عز وجل: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ)[الصافات: 139-140] يعني هرب: (إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)[الصافات: 140] إلى السفينة المملوءة، فجرى ما جرى لهذه السفينة من عدم الاستقرار، فقالوا: إن هناك عبداً قد أبق من سيده: (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ) فأجروا قرعة، فوقعت القرعة على يونس، فقذف في البحر: (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) [الصافات: 142] يعني وهو آتٍ بما يلام عليه؛ لأنه لم يكن لديه صبر في تلك الساعة، وتلك اللحظة.
(فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ) دون أن يمسه بضر، فماذا كان دعاؤه في تلك الظلمات، ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 87].
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما دعا بها شخص إلا استجيب له".
هو اسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل بها جل وعلا أعطى، ولكن لم يكن يونس -عليه السلام- قليل الذكر قبل أن تحصل له هذه الحادثة، وإنما كان يذكر الله كثيرا قبل أن تحصل هذه الحادثة، ولذا قال تعالى: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ)[الصافات: 143- 145].
نُبِذ بالساحل وهو عليل مما أصابه من الغم في بطن الحوت، وأنبت الله -عز وجل- عليه شجرة القرع: (وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)[الصافات: 146-148].
يونس -عليه السلام- أُعطي في قومه خاصية دون سائر الأنبياء، ودون سائر الأمم، وهي أن أي أمة ترى عذاب الله ينزل بها فلا نجاة، أما يونس فقد رأى قومه عذاب الله فنجاهم، ولذا قال سبحانه وتعالى: (فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)[يونس: 98].
هذا هم، غم، حزن؛ ألم بيونس -عليه السلام -، ولذلك يقول ابن القيم -رحمه الله-: "إن الهم والحزن والغم بينهم اختلاف، فالحزن هو ما يقلق ابن آدم فيما مضى، والهم هو ما يقلق ابن آدم في المستقبل" يهتم بالشيء الذي لم يقع "والغم هو الذي أصابه في حاضرته وفي أوانه".
فماذا قال سبحانه وتعالى؟
يا مغموم، يا مهموم، يا محزون: عليك بكثرة ذكر الله، ومن أعظم الذكر ما قاله سبحانه وتعالى عن يونس: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 87].
ما النتائج؟
(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ) [الأنبياء: 88].
انتهى؟ لا، أين أنت يا مؤمن؟
هذا الفرج الذي حصل ليونس -عليه السلام- ليس خاصا به، بل لكل مؤمن، واسمع إلى ختام الآية حتى تعرف ثمرات وفوائد الإيمان: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ)[الأنبياء: 88].
انتهى المحور الثالث؛ لأن أيوب -عليه السلام- قصته في الصحة والمال، والمحور الثالث: هو الغم والهم في قصة يونس -عليه السلام-.
إذاً ما هو المحور الرابع؟
قصة الولد، الذي لم يأته ولد وكان عقيما، وإني لأعرف أناسا قد أصابهم العقم، فرزقهم الله -عز وجل- الولد على الكبر، لكن متى؟
إذا اتقى العبد ربه، والله متى ما عظم الله -سبحانه وتعالى-، والإيمان في قلب العبد، فإنه الخير والرزق والفرج يأتيه، زكريا -عليه السلام- افتقد الولد: ماذا قال عز وجل عنه؟
(وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ) [الأنبياء: 89].
لأن من المتع لابن آدم أن يرزق الولد، ولا سيما إذا كان على كِبَر، ولذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول عن الحسن والحسين هما: "ريحانتاي أشمهما" وما ألذ الأطفال في سن الصغر.
وكان يقصد زكريا -عليه السلام- بهذا الدعاء أن يأتي له ولد يرث النبوة من بعده؛ لأنه رأى بني إسرائيل قد حرَّفت دين الله لما ماتت الرسل: (رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)[الأنبياء: 89].
لأنه سبحانه وتعالى هو الذي يبقى بعد زوال المخلوقات كلها، فماذا قال عز وجل؟
(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) [الأنبياء: 90].
كانت عقيما فأصلحها الله -عز وجل-، فوهبه الله يحيى، لكن ما هي الصنائع والأعمال التي قام بها زكريا حتى يظفر بهذا الولد في هذا السن من الكبر؟
اسمع: (كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا)[مريم: 1-2].
والله ليس لك غنى عن رحمة الله، ومن رحمة الله أن رحم عبده زكريا: (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً)[مريم: 2-3].
أين الملتجئون إلى الله؟ أين السائلون الله في الخفاء والسر؟
نريد أن تزول منا الهموم والغموم، والآلام والأوجاع، ونحن مبتعدون عن طاعة الله؟! ونحن مبتعدون عن دعاء الله؟!
انظروا إلى التضرع: (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) [مريم: 4].
يا رب: لما دعوتك في الماضي لم أُخيب، فكيف أُخيب إذا دعوتك في المستقبل! هذا هو حسن الظن بالله -عز وجل-؛ لأن العبد كلما تقرب إلى الله زاد حسن ظنه بالله، فإذا زاد حسن ظنه بالله أتاه الخير كله: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ) يعني أبناء عمه، خشي أن يرثوه فيبدلوا دين الله، وليس المقصود أنه خاف أن يرثه بنو عمه في المال لا وإنما المقصود النبوة: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا) [مريم: 5].
هذا يدل على أن الولد وليٌ لأبيه، فواجب على الابن أن يكون مِعْوانا مطواعا لأبيه في طاعة الله: (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) سأل أي ولد؟ لا: (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً)[مريم: 6].
أتى الفرج: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) [الأنبياء: 90].
(يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا) [مريم: 7].
انظروا إلى تدفق خير الله على زكريا: (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ)[مريم: 7].
لم يقل بطفل دل على أنه سيحيى: "غلام" باعتبار ما سيكون، وسماه: (يَحْيَى) يعني أنه سيحيى: (لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّا) يعني ليس له مثيلاً في الصفات كما قيل، أو لم يكن له مسمى باسم يحيى قبل ذلك، فلم يأت شخص اسمه يحيى قبل ذلك.
ثم تعجب، ولكن لا عجب لما قالت امرأة إبراهيم -عليه السلام-: (قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ)[هود: 72-73].
لا إله إلا الله فتعجب زكريا: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) [مريم: 8].
يعني نهاية الكبر.
(قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) [مريم: 9] انتهى الأمر، فإن كان الأمر من الله فلا تعجب: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[يس: 82].
(قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً)[مريم: 9].
فأنت يا زكريا كنت في العدم، فأراد أن تُجعل له آية على حمل زوجته: (قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا) [مريم: 10].
من غير علة لا تستطيع أن تحرك لسانك لكلام الناس من غير علة، ثلاث ليالٍ بأيامها؛ كما سيأتي في ذكر قصة زكريا في سورة آل عمران، لكن لم يُحبس لسانه عن ذِكر الله: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ) يعني بالإشارة: (أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً)[مريم: 11].
ثم ما هي هذه الصفات التي ظفر بها يحيى؟
وما ألذ قلب الأب إذا صلح الابن، انظروا إلى فضائل وكرائم ونعم الله -عز وجل- على زكريا: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً * وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً * وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) [مريم: 12-15].
ولولا طول الوقت لبينا هذه الصفات أكثر، لكن الوقت يزاحمنا، وأكتفي بما جاء من ذكر زكريا -عليه السلام- في سورة آل عمران حتى تتم الفائدة، لما كفل زكريا مريم وصارت تحت كفالته، رأى عندها شيئا لم يأت في العادة زرق من عند الله، قال بعض المفسرين: إن فاكهة الشتاء تأتي إليها في الصيف، وفاكهة الصيف تأتي إليها في الشتاء: (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) [آل عمران: 37].
وهذا يدل على أن ابن آدم يجب أن يكون حاضر الذهن، وأن يربط الأشياء بعضها ببعض، فلما رأى هذا الرزق الذي يأتيها في غير أوانه تذكر أنه بحاجة إلى الولد، وأن الله قادر على أن يأتي إليه بالولد في مثل هذا السن: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء) [آل عمران: 38].
الذرية تطلق على الفرد وعلى الجماعة، ثم أي ذرية؟
(قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً)[آل عمران: 38].
فما الذي جرى؟
(فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ) [آل عمران: 39].
وهو جبريل -عليه السلام- نادى زكريا، ولكن ما مقام زكريا لما ناداه جبريل؟ في لهو؟ في لعب؟
لا والله، هو في حالة يتقرب فيها إلى الله: (فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ)[آل عمران: 39].
رحم الله الصلاة عند كثير من الناس، كيف تهدى؟ كيف تعطى وأنت متخلف عن الصلاة؟
(فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ)[آل عمران: 39].
مصدقاً بعيسى؛ لأن عيسى -عليه السلام- خلق بكلمة كن: (وَسَيِّداً) ذو سيادة: (وَحَصُوراً) يعني يمتنع عن النساء عفة وتقربا إلى الله: (وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ * قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ) بلياليها: (إِلاَّ رَمْزاً) إلا إشارة.[آل عمران: 39-41].
أتتك النعمة هل انتهى كل شيء؟
لا والله، النعم لا تستجلب إلا بطاعة الله ولا تبقى إلا بطاعة الله، أمره الله -عز وجل- بأمرٍ: (وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ) [آل عمران: 41].
قص الله -سبحانه وتعالى- قصصاً في سورة الأنبياء عن كوكبة من الأنبياء، فلما ذكر في ختامهم زكريا، ذكر أن لهؤلاء الأنبياء صفة، من سار سيرهم، وحذا حذوهم، نال من الخير مثلهم: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) [الأنبياء: 90].
ما العلة في هؤلاء الأنبياء كلهم المذكورين في هذه السورة؟
(إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)[الأنبياء: 90].
يا من افتقد الصحة تأمل في قصة أيوب المذكورة في كلام الله!.
يا من فقد المال تذكر وتأمل قصة أيوب المذكورة في كلام الله!.
يا من أصابه الهم والحزن والغم تأمل قصة يونس المذكورة في كلام الله!.
يا من لم يأته الولد تأمل قصة زكريا المذكورة في كلام الله.
نسأل الله -عز وجل- أن يرحمنا.
وهذه من لطائف رحمة الله -عز وجل- التي وسعت كل شيء، والتي رحم بها هؤلاء الأنبياء، ووصفهم بـ (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)[الأنبياء: 90].
الخطبة الثانية:
الخاتمة...
التعليقات