عناصر الخطبة
1/كمال أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم 2/شهادات أعداء النبي الكريم على صدقه 3/الصادق المصدوق في أعين أهله وأصحابه 4/شهادات على أمانة النبي صلى الله عليه وسلم

اقتباس

فكما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عُرف بالصدق بشهادة أعدائه قبل أصحابه؛ فقد اشتهر بالأمانة بشهادة أعدائه كذلك؛ فكانوا يلقبونه قبل البعثة بالأمين، وقصة وضع الحجر الأسود عند بناء الكعبة المشرفة خير دليل على أمانته...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي هدانا لشريعة الإسلام واصطفانا، وأكرمنا بآلائه وحبانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أنزل على عبده الكتاب نورا وتبيانا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أكمل الخَلق خُلُقا وإيمانا وأكرمهم على ربه وأصدقهم لسانا -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحابته أطهر الناس قلوبا وأعظمهم برا وإحسانا.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)[الأحزاب:70-71]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، أما بعد:

 

معاشر المؤمنين: إن الله -تعالى- خلَق الخَلق على تفاوت بينهم في الهيئات، وفضل بعضهم على  بعض في المعايش والهبات؛ إلا أن الحكيم -سبحانه- اصطفى لتبليغ رسالاته والدعوة إلى سبيله أكملهم أخلاقا وأصدقهم حديثا، وأعظم من اصطفاهم الله -تعالى- هو نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فهو الصادق الذي لم تشهد البشرية مثل صدقه، والأمين الذي أجمع أهل الأرض على أمانته وحسن عهده، وهذه الصفات لا تكون إلا لمن كَمُلت أخلاقه، بحيث يصبح الصدق ملازماً له طوال حياته؛ فلا يتصور العقل وقوع الكذب منه مطلقاً؛ لأنه يتنافى مع كمال أخلاقه، وهذا من مقتضى الضرورة العقلية؛ لأن من اتصف بالصدق فلزومه باقي الصفات والأخلاق الحسنة الكاملة من باب أولى، ولقد وصف الله -تعالى- نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم:4].

 

وقد بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- الغاية القصوى من الصدق والأمانة والكمال الأخلاقي طيلة حياته، والدلائل على بلوغ النبي -صلى الله عليه وسلم- الكمال الأخلاقي في الصدق كثيرة؛ فمن ذلك: شهادة الناس بصدقه -صلى الله عليه وسلم- وانتفاء الكذب عنه.

 

ومن ذلك: شهادة قومه الذين نشأ بين ظهرانيهم، وهم من نصبوا له العداء بعد نبوءته، ولا شك أن هذا أبلغ الدلائل على كمال اتصافه بالصدق، أن يصفه أعداؤه -صلى الله عليه وسلم- بالصدق مع عدائهم له، بل كانوا يلقبونه حين مكث فيهم أربعين سنة قبل البعثة بالصادق الأمين؛ حتى أصبح هذا الوصف ملازماً له، لا ينفك عنه أبداً، ولا أدل على ذلك من حادثة صعود النبي -صلى الله عليه وسلم- على جبل الصفا؛ فجعل ينادي "يا بني فهر يا بني عدي" لبطون قريش حتى اجتمعوا؛ فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؛ فقال: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟" قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"؛ ففي قولهم: ما جربنا عليك إلا صدقا، انتزع منهم النبي -عليه الصلاة والسلام- هذه الشهادة الجماعية المتضمنة لكمال صدقه وانتفاء الكذب عنه؛ لعلمه بما قد يقع من تكذيبهم له عند إخبارهم ببعثته ونبوءته.

 

وفي قول أعدائه -كما جاء في الرواية الأخرى-: ما جربنا عليك كذبا؛ دليل واضح على اتصاف محمد بالصدق التام قبل النبوة بشهادة أعدائه؛ فهم مقرون بأنه صادق، ولم يجربوا عليه كذباً قط، لكنهم لم يستفيدوا من إقرارهم هذا شيئاً؛ حيث كذبوا ببعثته، ونشروا الأراجيف والأكاذيب للتشكيك بنبوءته، وكان من العقل والمنطق أن يصدقوه فيما أخبرهم به من أمر نبوءته؛ لأنه الصادق عندهم، لكنهم تناقضوا وكّذبوا الصادق في خبر نبوءته؛ استجابة للهوى والكبر الذي سكن قلوبهم، وللتقليد والتبعية لآبائهم التي كانت تحدوهم لعدم قبول ما جاء به؛ لهذا رد عليه أبو لهب فقال له: تَبًّا لَكَ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟؛ فأنزل الله في كتابه قوله: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)[المسد: 1]، وهكذا كان موقف أبي جهل حيث قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ما نتهمك، ولكن نتهم الذي جئت به؛ فأنزل سبحانه (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)[الأنعام: 33].

 

أيها المسلمون: لقد أجمع الناس كلهم على صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- وشهد بذلك أعداؤه قبل أحبابه؛ فمن ذلك: شهادة عتبة بن ربيعة؛ حينما قرأ عليه قول الحق -سبحانه-:  (حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)[فصلت:1-2] حتى بلغ قوله -سبحانه-: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ)[فصلت: 13]، فقال عتبة -وهو يروي لقومه ما حدث-: فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئا لم يكذب؛ فخفت أن ينزل عليكم العذاب.

 

ومن شهادات أعدائه على صدقه -أيضا-: شهادة أمية بن خلف لما قال له سعد بن معاذ -رضي الله عنه-: دَعْنَا عَنْكَ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ مُحَمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- يَزْعُمُ أَنَّهُ قَاتِلُكَ، قَالَ: إِيَّايَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَالله مَا يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ إِذَا حَدَّثَ".

 

وشهد الأخنس بن شريق حين خلا بأبي جهل حين تراءى الجمعان يوم بدر؛ فقال: أترى أن محمدا يكذب؟ فقال أبو جهل: كيف يكذب على الله؟ وقد كنا نسميه الأمين؛ لأنه ما كذب قط، وهذا اعتراف من أبي جهل بأنه النبي الكريم -صلوات ربي وسلامه عليه- لم يكذب قط؛ وصدق أبو جهل وهو كذوب حيث قال: كيف يكذب على الله وقد كنا نسميه الصادق الأمين؛ فإن من لم يكذب على بشر مثله هل يتصور أن يكذب على الله -تعالى-؟!

 

ومن الشهادات: شهادة اليهود؛ كما جاء من حديث عبدالله بن سلام؛ حيث قال: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ-، انْجَفَلَ، النَّاسُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ فَلَمَّا اسْتَثْبَتُّ وَجْهَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، وَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ".

 

عباد الله: تلك بعض شهادات أعداء النبي -صلى الله عليه وسلم- على صدقه؛ أما شهادة أصحابه وأتباعه فلا يتسع المقام لذكرها، وحسبنا أن نذكر بعضها عن أكثر الناس ملازمة له -صلى الله عليه وسلم-؛ فمن ذلك: شهادة أم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها- زوجته وأقرب الناس إليه؛ حين جاءه الوحي أول مرة قال لها: "إني قد خشيت على عقلي"؛ فقالت: كلا والله، لا يخزيك الله، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث.

 

وكذلك: شهادة صديقه الأول أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-؛ حيث صدقه في كل ما أخبر به حين أسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المسجد الأقصى، وأصبح يحدث الناس بذلك؛ فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه، وسعوا بذلك إلى أبي بكر فقالوا: هل لك في صاحبك؟ يزعم أنه أُسري به الليلة إلى بيت المقدس فقال: أوَ قالَ ذلك؟ قالوا: نعم قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: فتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يُصبح؟! قال: نعم إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء في غدوة أو روحة؛ فأنزل الله في كتابه العزيز في ذلك قرآنا يتلى، (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)[الزمر: 33].

 

ومن ذلك: قول حسان -رضي الله عنه-:

لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَات مُبَيِّنَة *** كَانَتْ بَدِيهَته تَأْتِيك بِالْخَبَرِ

 

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم؛ أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الصادق الأمين، أما بعد:

 

عباد الله: فكما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عُرف بالصدق بشهادة أعدائه قبل أصحابه؛ فقد اشتهر بالأمانة بشهادة أعدائه كذلك؛ فكانوا يلقبونه قبل البعثة بالأمين، وقصة وضع الحجر الأسود عند بناء الكعبة المشرفة خير دليل على أمانته -صلى الله عليه وسلم-، وقد ذُكِر أن قريشا تنازعت على استحقاق شرف رفع الحجر الأسود ووضعه في محله؛ حتى كادوا يقتتلون لولا اتفاقهم على أن الذي يضعه هو أول من يدخل المسجد الحرام، فكان الداخل هو محمد -صلى الله عليه وسلم-، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا هذا محمد، فلما أخبروه الخبر قال -صلى الله عليه وسلم-: "هلم إلي ثوباً"، فأتى به، فأخذ الركن فوضعه بيده الطاهرة، ثم قال: "لنأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعاً ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده الشريفة ثم بني عليه. قال ابن هشام: "وكانت قريش تسمي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن ينزل الوحي: الأمين".

 

وشهد بأمانة النبي -صلى الله عليه وسلم- أبو سفيان زعيم مكة قبل إسلامه عندما وقف أمام هرقل ملك الروم، وسأله عن ما يدعو إليه النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فأجاب أبو سفيان: يأمر بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة.

 

وشمائلٌ شهِد العدو بفضلها *** والفضل ما شهدت به الأعداء

 

عباد الله: ولعظيم أمانة النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل خديجة -رضي الله عنها- تعرض نفسها ليتزوجها؛ يقول ابن الأثير: "فلمَّا بلغها -أي خديجة- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صِدْقَ الحديث، وعظيم الأمَانَة، وكرم الأخلاق، أرسلت إليه ليخرج في مالها إلى الشَّام تاجرًا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره مع غلامها ميسرة؛ فأجابها، وخرج معه ميْسرة، ولـمَّا عاد إلى مكَّة، وقصَّ عليها ميْسرة أخبار محمَّد -صلى الله عليه وسلم- قررت الزَّواج به".

 

أيها المسلمون: هذا هو نبيكم أعظم الخلق صدقا وأمانة، وأبعدهم عن الكذب والخيانة؛ فتأسوا بأخلاقه تغنموا وتزينوا بأوصافه تسعدوا في الدنيا والآخرة؛ فهو الصادق الذي لم تعرف البشرية مثل صدقه والأمين؛ الذي لم ولن يبلغ أحد أمانته -صلى الله عليه وسلم-، وصدق القائل:

محمد تاج رسل الله قاطبة *** محمد صادق الأقوال والكلم

محمد ثابت الميثاق حافظه *** محمد طيب الأخلاق والشيم

 

هذا وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير؛ حيث أمركم بذلك العليم الخبير؛ فقال في كتابه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: 56].

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واخذل أعداءك أعداء الدين.

 

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة.

 

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، واجمع على الحق كلمتهم.

 

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا ووالدينا عذاب القبر والنار.

 

المرفقات
الصادق-الأمين.doc
الصادق-الأمين-1.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life