عناصر الخطبة
1/ حقيقة الشك والريب 2/ ذم الشك في القرآن 3/ تأكيد القرآن على مسائل الاعتقاد 4/ واقعنا والشك والريب 5/ الوصية باليقين والبعد عن الشكاقتباس
ن الشك الذي نريد الحديث حوله: هو التوقف في الأشياء اليقينية المسلم بها، وعدم القطع فيها، وريبة النفوس منها، وإدخال الشكوك إليها, وهذا المرض الخطير دب إلى نفوس الكثيرين منا، وتمكن من قلوبهم ودخل إلى صدورهم، وصار أساس الاعتقاد عند بعضهم بهذا ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي غرس شجرة الإيمان في قلوب عباده الأخيار، وسقاها وغذاها بالعلوم النافعة، والمعارف الصادقة، واللهج بذكره آناء الليل والنهار؛ وجعلها تؤتي أكلها وبركتها كل حين من الخيرات والنعم الغزار، وحذر عباده المؤمنين وأوليائه الصداقين من الشك والارتياب والاندحار.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الواحد القهار، الكريم الرحيم الغفار؛ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الرسول المصطفى المختار، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه البررة الأخيار.
أما بعد:
أيها المسلمون: من الأمراض الخطيرة التي ابتلينا بها في هذا العصر مرض الشك والريبة، ودخول الشك الاعتقادي والضعف الإيماني والريب إلى النفوس والقلوب.
إن الشك الذي نريد الحديث حوله: هو التوقف في الأشياء اليقينية المسلم بها، وعدم القطع فيها، وريبة النفوس منها، وإدخال الشكوك إليها، وهذا المرض الخطير دب إلى نفوس الكثيرين منا، وتمكن من قلوبهم ودخل إلى صدورهم، وصار أساس الاعتقاد عند بعضهم بهذا المعتقد الفاسد المرتاب.
معاشر المؤمنين: يقول الله -تبارك وتعالى- محذراً من هذا الأمر ومبيناً أخطاره وأضراره وأنه من صفات أهل المكر والنفاق لا من صفات أهل الخير والإيمان (إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) [التوبة:45]. إن هذه الآية العظيمة ذكرها الله -سبحانه وتعالى- بعدما ذكر صفات أهل الإيمان فقال: (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) [التوبة:44]. ثم قال بعدها: (إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) [التوبة:45]. فهاتان الآيتان توضحان أن من صفات أهل الإيمان الجزم واليقين، وأن من صفات أهل النفاق التردد والريبة والحيرة في عمل الخير والمعروف.
ولقد وصف الله مشركي أهل الكتاب بأنهم أهل حيرة وتردد فقال: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) [هود:110]، وقال: (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) [الشورى:14]. لقد ذم الله الشك والريب -وكلاهما بمعنى متقارب-؛ لأن الريب ينبعث من قلق النفس واضطرابها فيتبع ذلك من ضعف الإيمان في النفوس وعدم اليقين بالله واليوم الآخر الشيء الكثير.
ويقول الله -تبارك وتعالى-: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [يونس:104]. ويقول -جل وعلا-: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [البقرة:147]، ويقول: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [يونس:94].
وذكر الله -جل جلاله- أنه لا يهدي أهل الشك والريب ولا يوفقهم للاستقامة والثبات، فقال: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ) [غافر:34].
عباد الله: إن الشك والريب ذكرهما الله -سبحانه وتعالى- في كل الآيات في القرآن الكريم مقترناً بأهل الكفر والطغيان، وبيّن أنهم أهل شك وريب، فقال عنهم أنهم قالوا لأنبيائهم: (وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) [هود:62]، وقال: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) [هود:110] وفي سورة سبأ يقول: (إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) [سبأ:54] ويقول -جل وعلا-: (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) [الشورى:14] وقال: (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ) [ق:25].
فهذه الآيات كلها وصفٌ لذلك النوع من الشك الذي يقض المضاجعَ، ويجعل أصحابَه في حيرة من أمرهم، ويوقعهم في اضطراب وقلق، وكل ذلك متَّسقٌ مع المقام الذي يتحدَّث عن أولئك المشككين، الغارقين في الحيرة، والواقعين في قلق واضطراب من أنفسهم، وهو حال أغلب المشركين والكفار لذلك جمعت الآيات بين الأمرين -الشك والريب-؛ لأنهم جمعوا بين الأمرين: الشك الذي يدل على التردد وعد اليقين، والريب الدال على التخبط والاضطراب والتكذيب والاتهام -أعاذنا الله وإياكم-.
وإذا كانت الآيات الماضية قد ذمتهم لجمعهم بين الشك والريب فإن آيات أخرى ذمتهم لمجرد الشك الموجود في قلوبهم. يقول الله: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [يونس:104]. ويقول: (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ) [النمل:66]. ويقول: (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) [سبأ:21].
بل -عباد الله- لو لاحظتم في القرآن لوجدتم أن الله -سبحانه وتعالى- يؤكد على المسائل العقدية الكبرى التي يجب الإيمان واليقين بها بقوله: (لَا رَيْبَ فِيهِ). فحينما حدثنا في بداية سورة البقرة عن القرآن قال: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة:2]، ويقول: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [يونس:37].
وعن قيام الساعة يقول: (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [آل عمران:9]، ويقول: (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [آلعمران:25] (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) [النساء:87] وغيرها من الآيات.
فهذه كلها تؤكد على أهمية اليقين، وذم الشك والريب والتردد في أمور الدين والعقيدة ومسائل الإيمان، وأن نكون فيها جازمين ثابتين غير متزعزعين ولامتشككين. يقول الله -جل وعلا- عن حال أهل الإيمان واليقين: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحجرات:15].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وإمام المتقين، قائد الغر المحجلين، نبينا محمد وآله وصحبه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، من الأئمة المهديين، والدعاة المصلحين، المجددين لهذا الدين، الذين لم يزالوا ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، جزاهم اللَّه عن الإسلام والمسلمين، أفضل ما جزى العلماء الراسخين، النائبين عن الأنبياء والمرسلين.
عباد الله: لقد ذكرت في الخطبة الأولى كثيراً من الآيات القرآنية التي تتحدث عن الشك وتذم الريب حتى نعلم علم اليقين بشاعة هذا الأمر وشدة مخالفته وقبحه. لأننا نرى كثيراً من المسلمين -وللأسف الشديد- قد طغت عليهم الماديات، وأثرت فيهم المحسوسات، وصار عندهم نوع من الشك وعدم اليقين ببعض مسائل الدين الكبرى وأصوله العظمى.
فهذا يشك في عظمة القرآن وحجته، والآخر لديه شك من نصر الله ووقوعه، والثالث دخله الشك في كثير من مسائل العقيدة والإيمان، كالإيمان بأن الله في السماء مستو على عرشه، أو الشك في صفاته، فقام يؤلها ويحرفها وينفيها عن الله، والآخر ربما -والعياذ بالله- تطرق الشك إلى قلبه في قيام الساعة ووقوعها، لذلك ضعف إيمانه بها، وصار يعمل أعمال من لا يؤمن بالآخرة وصار في شك منها.
فالله الله في اليقين وتثبيت الإيمان، والحذر كل الحذر من الشك والريبة فإنها سبيل موصل إلى الطغيان والكفران ودخول النيران، أعاذنا الله وإياكم من الخزي والكفر والحرمان. يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) [الحجرات:7]. ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا" [مسلم (34)].
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم ارزقنا الإيمان واليقين وقوي قلوبنا بالثبات والتمكين في أمور الدين وأبعدنا من الشك والريبة وضعف اليقين يا أرحم الراحمين.
التعليقات