عناصر الخطبة
1/معنى الشفاعة وحكمها 2/اعتقاد الناس في الشفاعة 3/شروط الشفاعة 4/الشفاعة المحرمة وحقيقتها 5/شفاعة النبي صلى الله عليه وسلماقتباس
والملوك في الدنيا يحتاجون إلى شفعاء؛ إما لقصور علمهم، أو لنقص قدرتهم، فيساعدهم الشفعاء في ذلك؛ فيتجرأ عليهم الشفعاء فيشفعون بدون استئذان، ولكن الله -عز وجل- كامل العلم والقدرة والسلطان، فلا يحتاج...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلعمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: الناس في هذه الدنيا يحتاج بعضهم إلى بعض في حياتهم الخاصة والعامة؛ لجلب نفع أو دفع ضر، وقد لا يتوصلون لبعض مصالحهم ومطالبهم إلا بشفاعة بعضهم لبعض عند أصحاب الحاجات.
والشفاعة: هي التوسط للغير لجلب نفع أو دفع ضر؛ مع اعتقاد أن مالك المنفعة والمضرة هو الله وحده؛ لا كما كان عليه أهل الشرك اللذين تعلقوا بأذيال الشفاعة، كما أخبر الله عنهم، وأن ذلك عين الشرك، فهم يعبدون الأصنام ويقولون: "إنَّها شفعاء لهم عند الله"، وهم يشركون بالله -سبحانه وتعالى- فيها؛ بالدعاء والاستغاثة وما أشبه ذلك، وهم بذلك يظنون أنهم مُعظِّمون لله، ولكنهم -في الحقيقة- منتقصون له؛ لأنه عليم بكل شيء، وله الحكم التام المطلق، والقدرة التامة فلا يحتاج إلى شفعاء سبحانه.
والملوك في الدنيا يحتاجون إلى شفعاء؛ إما لقصور علمهم، أو لنقص قدرتهم، فيساعدهم الشفعاء في ذلك، وأما الله سبحانه فلا يحتاج لأحد أن يتوسط بينه وبين فيها.
والشفاعة نوعان: شفاعة منفية، وهي التي تُطلب من غير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله، وشفاعة مثبتة: وهي التي تُطلَب من الله، وتكون يوم القيامة لأهل التوحيد، وهي مقيدة بأمرين: إذن الله للشافع أن يشفع، ورضاه عن المشفوع له.
والناس في الشفاعة ثلاث طوائف: طرفان ووسط؛ فطائفة أنكروها كاليهود والنصارى، والخوارج المكفرين بالذنوب، وطائفة أثبتوها وغلوا في إثباتها، حتى جوَّزوا طلبها من الأولياء والصالحين، أما أهل السنة والجماعة فقد أثبتوا الشفاعة الشرعية، كما ذكر الله في كتابه، ولا تُطلب إلا من الله، كأن تسأله -تعالى- أن يشفع فيك نبيك محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، فإن الشفاعة محض فضل وإحسان، قال -تعالى-: (وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)[الأنعام:51]، قال ابن كثير -رحمه الله-: "ليس لهم يومئذ: (مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)، فيعملون في هذه الدار عملاً ينجيهم الله به من عذاب يوم القيامة، ويتركون التعلق على الشفعاء وغيرهم، لأنه ينافي الإخلاص الذي لا يقبل الله من أحد عملاً بدونه".
عباد الله: الشفاعة ملك الله -تعالى- وحده، قال -تعالى-: (قُل لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا)[الزمر:44]، لا تُطلب إلا منه لأنها عبادة وتأله لا تصلح إلا له -سبحانه-، فمن طلبها من غير الله -تعالى- كالملائكة والأنبياء والصالحين؛ فقد أشرك شركًا أكبر.
وقال -تعالى في الآية التي قبلها-: (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ)[الزمر:43]، أخبر -سبحانه- أن وقوع الشفاعة على هذا الوجه منتف عقلاً وشرعًا، فقوله: (لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) تقرير لبطلان اتخاذ الشفعاء من دونه؛ لأنه مالك الملك، فيجب اندراج ملك الشفاعة في ذلك، فإذا كان هو مالكها بطل أن تُطلب ممن لا يملكها.
قال ابن جرير: "نزلت لما قال الكفار: ما نعبد أوثانًا إلا لتقربنا إلى الله زلفى، قال الله: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، فتعلمون أن مَن طلبها من غير الله أنه خاسر السعي وأنها غير حاصلة له؛ لأنه طلبها من غير مالكها، بل طلبُها من غير الله إفك وافتراء".
ومن عظمة الله -سبحانه- وكمال سلطانه أنه لا يتجرأ أحد على أن يشفع لأحد عنده يوم القيامة إلا بإذنه، قال -تعالى-: (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ) وهذا استفهام معناه النفي البليغ يعني: لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه.
وفي هذا رد على المشركين الذين اتخذوا شفعاء من دون الله من الملائكة والأنبياء والصالحين وظنوا أنهم يشفعون عنده بغير إذنه.
ومن عظيم ملكوته وكبريائه أنه لا يتكلم أحد يوم القيامة إلا لمن أذن له، قال -تعالى-: (يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا)[طه:109]؛ فبين -تعالى- أنها لا تقع إلا بشرطين: إذن الرب للشافع أن يشفع، ورضاه عن المأذون فيه.
وحتى الملائكة -مع عظم مكانتهم عنده- لا تنفع شفاعتهم لأحد؛ إلا إذا أذن الله -سبحانه- لهم أن يشفعوا فيمن شاء من عباده، وكان المشفوع فيه ممن رضي قوله وعمله، وإذا كان هذا في حق الملائكة فغيرهم من باب أولى، قال -تعالى-: (وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى)[النجم:26].
عباد الله: يحرم طلب الشفاعة من الأنبياء والصالحين من أموات المسلمين، كأن يقول: يا نبي الله اشفع لي عند ربك ليغفر لي، أو يا سيدي فلان اشفع لي عند ربك ليفرج كربتي.
فهؤلاء بهذا الاستشفاع المحرم قد جمعوا بين أمرين عظيمين:
الأول: دعاء غير الله، وهو شرك أكبر. والثاني: تشبيه الخالق بالمخلوق حيث طلبوا واسطة كما تُطْلَب للمخلوق من ذوي السلطان، وجهلوا أن المخلوق قد يخفى عليه أمر الإِنسان، فيحتاج إلى من يُعَلِّمُه به، بخلاف الرب -تبارك وتعالى- فإنه عليم بأحوال عباده لا يخفى عليه من أمرهم شيء.
وقال -عز وجل- في سورة سبأ: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ)[سبأ:22]، فلم يجعل -سبحانه- الاستغاثة بالميت أو غيره سببًا لإِذنه، وإنما السبب كمال التوحيد، لا ما يمنع الإِذن، فالمشرك قد أتى بأعظم حائل بينه وبين حصول الشفاعة، فهو كمن استعان في حاجة بما يمنع حصولها.
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله-: "نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون فنفى أن يكون لغيره مُلك أو قسط منه، أو يكون عونًا لله؛ ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، وهو -سبحانه- لا يأذن إلا لأهل التوحيد، كما قال -تعالى-: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)[الأنبياء:28].
فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون، وهي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن؛ وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولاً، ثم يقال له: "ارفع رأسك، وقل تُسمع، وسل تُعط، واشفع تُشفَّع"، وقال له أبو هريرة: "من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: "من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه". فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله.
ثم قال شيخ الإِسلام: "وحقيقته أن الله -سبحانه- هو الذي يتفضل على أهل الإِخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود، فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإِخلاص".
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
عباد الله: وشفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الشفاعة الخاصة بالرسول -صلى الله عليه وسلم- وهي: الشفاعة العظمى التي يتأخر عنها أولو العزم من الرسل، حتى تنتهي إليه -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "أنا لها"(وهي المقام المحمود)، وكذلك شفاعته -صلى الله عليه وسلم- لأهل الجنة في دخولها، وأيضًا: شفاعته -صلى الله عليه وسلم- في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب.
القسم الثاني: الشفاعة العامة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولجميع المؤمنين: وهي الشفاعة لقوم من العصاة من أهل التوحيد أن لا يدخلوا النار، والشفاعة في إخراج العصاة من أهل التوحيد من النار، والشفاعة في قوم من أهل الجنة في زيادة ثوابهم ورفع درجاتهم.
وأسعد الناس بشفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحقهم بها هم أهل التوحيد والإِخلاص، فقد قيَّدها -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه" لئلا يتوهم المشركون أنَّ لهم نصيبًا منها، وهم قد حرموا منها لما طلبوها من غير الله، وإنَّما ينالها الموحدون حتى الذين استحقوا دخول النار بسبب ذنوبهم؛ فيشفع لهم في الخروج بعد التطهير، كما ورد في الحديث: "أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان"(رواه البخاري).
والشفعاء هم أعلى الخلق مقامًا، وهم: الملائكة والأنبياء والصالحون، وأعلاهم نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وفي إذن الله للشافع أن يشفع؛ إكرام له، وإظهار لشرفه وجاهه عند الله، ورحمة للمشفوع فيه.
وبهذا يتبين لنا: أن الشفاعة لا تكون لمن عبد الملائكة والأنبياء والصالحين رجاء الوسيلة والقربة، وإنما تكون الشفاعة لأهل التوحيد، جعلنا الله وإياكم منهم.
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله...
المصدر: الشفاعة للشيخ د. عبد الملك بن محمد القاسم
التعليقات