عناصر الخطبة
1/قصة وعبرة 2/الاسترجاع عند المصائب 3/معنى إنا لله وإنا إليه راجعون 4/ التَّبَرُّؤ من حول الإنسان وقوته 5/رسائل إلى أهل البلاء والمِحَن 6/فضائل لا حول ولا قوة إلا بالله 7/الواجب في أزمنة الكروب والمصائب.اقتباس
كلنا -يا عباد الله- ذلك المهموم والمغموم، وكلنا ذلك المصاب، وكلنا الَّذِي أطبقت عليه أنواع الكروب والهموم في نفسه، فهلَّا رجعنا إِلَى الله -جَلَّ وَعَلَا-، واسترجعنا الأمر إليه، ولجأنا وأذعنا إليه؟!...
الخطبةُ الأولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيه، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، ومن سلف من إخوانه من المرسلين، وسار عَلَى نهجه، واقتفى أثرهم إِلَى يوم الدين، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يوم لقاه.
أَمَّا بَعْدُ: عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، فإن أجسادنا وَإِيَّاكُمْ عَلَى النَّار لا تقوى؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أَيُّهَا المسلمون: جاء في صحيح مسلم من حديث أم سلمة هند بنت أميَّة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أنها قالت: "لمَّا مات أبو سلمة أمرني النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أن أقول: "إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ آجرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَاخْلُفْ لِي خَيرًا مِنْهَا"؛ فقلت في نفسي: ومن خير من أبي سلمة؟ أول أهل بيت هاجروا إِلَى الله ورسوله"؛ تشير إِلَى الهجرتين إِلَى الحبشة، ثُمَّ إِلَى المدينة.
"ثُمَّ ما لبست أن بعث إليَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- حاطب بن أبي بلتعة يخطبني إليه، فقلت: إني امرأة لي ولد، وإني غيور، قَالَ: "أما ولدها فولدي، وأسأل الله أن يرفعهم، وَأَمَّا الغيرة فأدعو الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يزيلها"؛ فأبدلها -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- زوجًا خيرًا من زوجها لما قالت هذَا الَّذِي أمرها النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- بقوله: "إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ آجرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَاخْلُفْ لِي خَيرًا مِنْهَا".
كلنا -يا عباد الله- ذلك المهموم والمغموم، وكلنا ذلك المصاب، وكلنا الَّذِي أطبقت عليه أنواع الكروب والهموم في نفسه، فهلَّا رجعنا إِلَى الله -جَلَّ وَعَلَا-، واسترجعنا الأمر إليه، ولجأنا وأذعنا إليه؟!
"إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ" جاءت هذِه الكلمة دلالةً عَلَى ما في قلوب المؤمنين، من أنهم يقرّون لله بالعبودية، ويُرجعون أمورهم إليه -سُبْحَانَهُ-، فهم مِلْك له، وهم إليه راجعون، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ ولا غِنَى لهم عنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
ومثل هذِه الكلمة الَّتِي جاءت في سورة البقرة: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ)[البقرة: 156]، (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ)[آل عمران: 174].
نعم -يا عباد الله- "إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ"؛ هذِه الكلمة الَّتِي إذا قالها المؤمن معتقدًا بها؛ كان له الثواب؛ (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ)[البقرة: 156، 157].
نعم -يا عباد الله- صلوات من الله عليهم بذِكْرهم وَالثَّنَاء عليهم ومدحهم في الملأ الأعلى، ورحماتٍ تتنزّل عليهم لمَّا أرجعوا الأمر إليه، فهل نحن عند المصائب في ورودها وعند الغموم والهموم والأكدار في حدوثها ممن يعودون إِلَى الله ويلجؤون إليه؟
وتأملوا عباد الله: أن أدعية الهم والحزن وأدعية الكرب والشدة كلها تدور عَلَى توحيد الله، وعَلَى تسليم الأمر له، وعَلَى الإذعان له وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وعَلَى التَّبَرُّؤ من حول الإنسان وقوته، وأنَّه في ملك ربه يدبره كيفما شاء، فَهذِه المِحَن، وَهذِه البلايا لا تزيد المؤمن عند الله -جَلَّ وَعَلَا- إِلَّا رفعةً وقدرًا.
وتأملوا في أُمّ عيسى، وهي مريم -عَلَيهِمَا السَّلَامُ- لمَّا جاءها المخاض عند جذع النخلة، في همٍّ وكربٍ شديدين، تمنَّت عند ذلك الموت، وما تدري أنَّ في رحمها رسولاً مِن رُسل الله، وكلمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- عيسى، وهذَا من المنن الَّتِي تكون في ثنايا هذِه المصائب والمِحَن.
نفعني الله وَإِيَّاكُمْ بالقرآن العظيم، وما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ للهِ عَلَى وحده، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى من لا نبي بعده وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: عباد الله: أَيُّهَا المغموم والمهموم! يا من أُصِبْتَ بالكرب! إنَّ لك إِلَى الله -جَلَّ وَعَلَا- مرجعًا ومآلاً، ومن ذلك قول: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ"، ليس قولها فَقَطْ بمجرد لسانك وطرفه، وَإِنَّمَا تقول بلسانك ما أقرَّ به واعتقده قلبك وجنانك.
"لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ"؛ هذِه الكلمة العظيمة الَّتِي هي كنزٌ من كنوز الجَنَّة، لا، بل هي بابٌ من أبواب الجَنَّة، كما ثبتت بذلك الأحاديث عن النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-.
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وكنَّا معه في سفر، وكنَّا نرفع أصواتنا بِالْدُّعَاءِ والذكر، قَالَ: "أَيُّهَا النَّاس! اربعوا عَلَى أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إن الَّذِي تدعونه أقرب إِلَى أحدكم من عنق راحلته"، ثُمَّ إنه حرَّك إليَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، وقد أسررتُ في نفسي قول: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ"، ثُمَّ قَالَ: "يا عبد الله بن قيس! لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ كنزٌ من كنوز الجَنَّة".
نعم -يا عباد الله- ولمَّا لقي النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- إبراهيم الخليل -عليهما وعَلَى أنبياء الله جميعًا أفضل صلاةٍ وأزكى سلام-، لمَّا لقيه في معراجه في السماء السابعة، قَالَ: "يا مُحَمَّد أقرئ أمتك منِّي السلام، وأخبرهم: أن الجَنَّة قيعان، وأن غراسها: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ".
وفي صحيح البخاري وغيره من حديث عبادة بن الصامت -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "من تعارَّ من اَللَّيل"؛ أي: انتبه من نوم اَللَّيل، وغالبًا ما يكون هذَا من همٍّ يؤرقه أو من قلق يقل مضجعه؛ "من تعارَّ من اَللَّيل، فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالحَمْدُ للهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ"، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "فإن دعا؛ استُجيب له، ثُمَّ إن قام فتوضأ وصلى ركعتين؛ غُفرت ذنوبه".
هذِه فضائل عظيمة، لا يليق بنا أهل الإيمان أن نُهملها أو نُقصِّر فيها، بل الواجب والحقيق بنا أن نستدركها وأن نحرص عليها، ولا سيما في أزمنة الكروب، وفي أزمنة المصائب، عَلَى العامة وعَلَى الخاصة، فما أعظم اللجأ إِلَى الله، وما أعظم ترداد هذَا الكلام، تردده بلسانك، وتعتقده بقلبك وجنانك.
ثُمَّ اعلموا عباد الله أن أصدق الحديث كلام الله، وَخِيرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثة بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وعليكم عباد الله بالجماعة؛ فإنَّ يد الله عَلَى الجماعة، ومن شذَّ؛ شذَّ في النَّار، ولا يأكل الذئب إِلَّا من الغنم القاصية.
فاللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي العَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ وارضَ عن الأربعة الخلفاء، وعن العشرة وأصحاب الشجرة، وعن المهاجرين والأنصار، وعن التَّابِعِينَ لهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللَّهُمَّ أبرم لهذِه الأُمَّة أمرًا رشدًا، يُعزُّ فيه أهل طاعتك، ويُهدى فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر يا ذا الجلال والإكرام، اللَّهُمَّ أعزَّ الإسلام وانصر المسلمين، اللَّهُمَّ انصر دينك وكتابك وسنة نبيك عَلَى العالمين، اللَّهُمَّ انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك وأولياءك المؤمنين.
اللَّهُمَّ من ضارّ المسلمين فضره، ومن كاد لهم فكد له، ومن مكر بهم فامكر له، اللَّهُمَّ اضرب الظالمين بالظالمين، وأخرج المسلمين من بينهم سالمين غانمين.
اللَّهُمَّ من أراد بنا أو بعلمائنا أو بولاتنا أو بنسائنا وشبابنا، أراد بهم سوءًا أو فتنةً أو مكيدة، اللَّهُمَّ فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميرًا عليه يا سميع الْدُّعَاء، يا ذا الجلال والإكرام، يا قوي يا عزيز.
اللَّهُمَّ انصر جنودنا المرابطين، وجنودنا المقاتلين في سبيلك، اللَّهُمَّ سدّد رأيهم ورميهم، واجمع عَلَى الكتاب وَالسُّنَّة كلمتهم، اللَّهُمَّ أكبت بهم عدونا، اللَّهُمَّ اشفِ بهم صدورنا، اللَّهُمَّ أذهب بهم غيظ قلوب المؤمنين يا ذا الجلال والإكرام.
اللَّهُمَّ اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللَّهُمَّ أنت الله لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزِل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللَّهُمَّ أغثنا، اللَّهُمَّ أغثنا، اللَّهُمَّ أغثنا غيثًا مغيثًا، هنيئًا مريئًا سحًّا طبقًا مجللاً، اللهم سُقيا رحمة لا سُقيا عذابٍ، ولا هدمٍ، ولا غرقٍ، ولا نصبٍ، اللَّهُمَّ أغث بلادنا بالأمطار والأمن والخيرات، وأغث قلوبنا بمخافتك وتعظيمك وتوحيدك يا ذا الجلال والإكرام.
عباد الله: إنَّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه عَلَى نعمه يزدكم، ولذكر اللَّهُ أَكْبَرُ، والله يعلم ما تصنعون.
التعليقات