عناصر الخطبة
1/ هوان الدنيا 2/ ثمراتُ تذكّر الموت 3/ مشاهد من العذاب الحسي والمعنوي لأهل النار 4/ من وصف الجنة ونعيم أهلها 5/ الاستعداد ليوم الرحيلاقتباس
لِنَكُنْ مستعدين للسفر الصادق إلى دار الخلود بالمسارعة إلى مراضي الله، والإبطاء عن مساخطه، حتى إذا فاجأنا الموت أتانا ونحن ننتظره، فيا فرحةَ المسافر إلى أحبابه بقدوم المبشِّر بقرب الوصول إلى ذلك المأمول، إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين!.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل الدنيا دار ممر إلى دار مقر، ومزرعةَ أعمال وفرصة إمهال؛ لنتزود منها بصالح الأعمال إلى دار المآل.
أيام تمضي، وسنونَ تنقضي، وأعمار تنتهي، ولا يبقى إلا العمل بعد انقضاء الأجل سبباً للسعادة أو للشقاوة.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المتفضل على عباده بإرسال الرسل، وإنزال الكتب للبشارة والنذارة؛ لئلا يكون للناس على الله حجةٌ بعد الرسل، ولئلا يقول الخلق: ما جاءنا من بشير ولا نذير وقد جاءهم بشير ونذير.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله الذي أرسله الله بالجنة مبشراً، ومن النار محذِّراً، فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-؛ فالتقوى سبب كل هناء، وذهاب كل شقاء، فيا فرحة المتقين يوم لقاء رب العالمين! قال -تعالى-: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) [القمر:54-55].
أيها المسافرون في سفرة الحياة الدنيا، العابرون طريقَ المهلة القصيرة، يا من لا تزالون على السبيل سائرين، يوشك أن تصلوا!.
كم من غافلٍ في هذه السفرة لم يفكر في وجهة سفره، وكم قد قطع في مسيرته، وكم قد بقي لاقتراب استيطانه ووصول غايته! كم ذهب من الأيام فما اتعظ الأنام، وما استيقظ النيام، إلا عند مفاجأة الحِمام! كم من حريص على بقاء دنياه فما بقيت له، ونهمٍ في جمع أعراضها وهي تعرض به عما ينفعه، وتعرِّضه لما يضره! كم متمنٍ فيها قطعته أمانيه، فأوصلته إلى مهاويه!.
والعجب أن يوقن الناس بالزوال وعدم البقاء في اعتقادهم وأقوالهم، ولكنَّ أفعالهم تأبى ذلك، فيستجمعون قواهم في بناء الزائل الفاني، ويهدمون بذلك الدائم الباقي.
عباد الله: يفكر الإنسان بأشياء كثيرة، ولكنه قليلاً ما يفكر بشيء واحد: قليلاً ما يفكر بالموت وحتمية الرجوع إلى الله، قال -تعالى-: (ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) [الأنعام:62].
إن الموت -معشر المسلمين- حقيقة سيذوقها كل حي، وثوب سيلبسه كل متحرك بحياة، لا مناص من لقائه، ولا وزَرَ ينجي من هجمته، قال -تعالى-: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:35].
من تذكر الموت صغُرت الدنيا في عينيه، وكبرت فيهما الآخرة، فإن كان في ضراء وضيق انفسح أمله، وقل كدره، وهانت عليه مصائبه؛ وإن كان في سراء وسعة تنغّص عيشه، وقل تلهّيه، وانتبهت فكرته، وضعفت شهواته، فلم يركن إلى لذائذه ومسراته؛ فهي عما قريب إلى زوال، وهو عما قليل إلى ارتحال. فما ذُكِر الموت في كثير إلا قلّله، ولا ذُكِر في قليل إلا كثّره!.
أيها المسلمون: من جعل الموتَ نُصبَ عينيه استيقظت همته، واستعدت نفسه، وهيّأ زاد النجاة، وعُدةَ السلامة للملاقاة، فإن نزل به الموت قال: مرحباً بحبيب جاء على موعد!.
و يا سعده يوم يسمع في تلك الحال ما جاء في حديث البراء -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الملائكة لتقول لروح المؤمن: اخرجي أيتها الروح الطيبة، في الجسد الطيب كنت تعمرينه، اخرجي إلى رَوح وريحان، ورب غير غضبان" رواه أحمد والنسائي وابن ماجة. قال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت:30].
أما الغافلون عن هذا المصرع المحتوم فما أشد ضرهم في ضرائهم، ومصيبتهم في مصائبهم! انسدت عليهم آفاق الأمل وأظلمت في أعينهم المسالك، وتاهوا في مهامه البلاء من غير دليل أو مسلِّ مخفِّف.
وإن كانوا في نِعمٍ ومنح فليس لغفلتهم غاية، ولا لهوهم نهاية، يحسبون أنهم غير متحول عنهم نعيمهم، أو زائل عنهم فرحهم ولهوهم. فما حالهم حين يبغتهم هادم اللذات، وتنزل بهم سكراته، وتحل عليهم آلامه؟! ماذا سيقولون، وكيف ينجون؟ إنهم يتمنون الرجوع إلى الدنيا، ويكرهون القدوم على الآخرة؛ لأن بضاعتهم مزجاة، وأيديهم من تقديم عمل مُنجٍ خالية. قال -تعالى-: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) [السجدة:12].
أمة الإسلام: إن وراء الموت لدارين لا ثالث لهما: الجنة والنار، فيهما نهاية رحلة الدنيا، وموطن الاستقرار. وفيهما تحط الرحال، وتوضع عصا التسيار.
وفي تينك الدارين تظهر نتائج أعمال الدنيا، وتنكشف الأحوال على حقيقتها، وهناك الحياة التي لا موت بعدها، والعمر الذي لا أمد له، قال الله -تعالى-: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت:64].
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح، فينادي منادٍ: يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه. ثم ينادي: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه. فيذبح، ثم يقول: يا أهل الجنة، خلود فلا موت، ويا أهل النار، خلود فلا موت، ثم قرأ: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)" متفق عليه.
أيها الناس: الوجهة متضحة، والمصير بيِّن معلوم، ولكل دار عمل وزاد مطلوب، وسبيل مطروقة، وعلى كل طريق سالكون، ولكل دار ملؤها. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ولكل واحدة منهما -أي: الجنة والنار- ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله فتقول: قط قط قط! فهنالك تمتلئ ويُزوى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله -عز وجل- من خلقه أحدا، وأما الجنة فإن الله -عز وجل- ينشئ لها خلقا" متفق عليه.
أيها المسلمون: ألا هل من منتبهٍ من رقاد الغفلة، ومتحرك من سكون الهمة؟! إن الأمر جِد وما هو بالهزل.
ألا فليسمع الآبقون عن سيدهم الرحيم، والشاردون عن ربهم الكريم: إن مولاهم يحذرهم من سخطه، وهم يسارعون إلى مساخطه، وينذرهم غضبه وهم يبتعدون من رحمته، أما وعواْ إنذاره وهو يقول: (فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى) [الليل:14]؟ وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها" رواه الترمذي والطبراني.
إنها نار عظيمة، لا يحيا مُعذَّبوها فينجوا، ولا يموتون فيستريحوا، قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) [فاطر:36].
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءاً من حر جهنم"، قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله! قال: "فإنها فُضِّلت عليها بتسعة وستين جزءا، كلها مثل حرها" متفق عليه. أين المفر لداخليها؟ وأين ملجأ ساكنيها؟ لا فكاك ولا نجاة من العذاب والهلاك! قال -تعالى-: (إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ) [الهمزة:8].
يا حسرةَ المغلول حين يُغل، والمأخوذ يوم يؤخذ، والمسحوب عندما يُسحب، لا وليَ يواليه، ولا ناصر ينصره! قال -تعالى-: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ) [الحاقة:30-32]. وقال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) [الأحزاب:64-66].
وإلى أين المأخذ؟ وما هي دار الضيافة؟! إنها الهاوية، والنار الحامية، بعيدة القعر، شديدة الحر، منوعة العقاب والعذاب، (لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) [الزخرف:75]. عن عتبة بن غزوان -رضي الله عنه- أنه خطب فقال: "قد ذُكر لنا أن الحجر يُلقى من شفة جهنم فيهوي فيها سبعين عاماً لا يدرِك لها قعراً، ووالله لتملأن! أفعجبتم؟!" رواه مسلم.
أيها الناس: إن أهل النار ليأكلون ويشربون ويلبسون، ولكن؛ هل أكلوا ما يشبعهم من جوع، أو شربوا ما يرويهم من ظمأ، أو لبسوا ما يكسوهم من حر أو قر؟ الجواب: لا. قال -تعالى-: (وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ) [محمد:15]. قال -تعالى-: (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) [الدخان:43-46]. وقال: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) [الحج:19-22]. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لرجل توضع في أخمص قدميه جمرة يغلي منها دماغه" متفق عليه.
هذا -يا عباد الله- جزء يسير من العذاب الحسي لأهل النار، نسأل الله السلامة والعافية.
وأما العذاب المعنوي، فمنه: العتاب والتلاوم، والتحسر والآهات، والندامات والنداءات والاستغاثات المردودة عليهم. قال -تعالى-: (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون:104-108]. وقال: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ) [الزخرف:77].
وليس لهم بعد ذلك إلا الشهيق والزفير، أصواتهم تشبه أصوات الحمير: أولها شهيق وآخرها زفير. فيا شقاء من كانت النار منزله وموئله. قال -تعالى-: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) [هود:106-107]. اللهم قنا عذابك يوم تبعث عبادك.
عباد الله: وفي الجانب الآخر تتراءى للناظرين دار الكرامة وهي تزدهي بسكانها المصطفين، الذين نجوا من الخسران، وفازوا برضا الرحمن، ما أحسن عيشهم في تلك المنازل، وهم في غاية النعيم، ومنتهى السرور والحبور!.
يُلقى على عتبات تلك الرياض النضرة عناء الدنيا وبؤسها، وتعب الحياة -التي فنيت- وشقاؤها. ما ألذَّ ذلك الموقف يوم يقولون: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) [فاطر:34-35]!.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال: يا بن آدم، هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له: يا بن آدم، هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط!" رواه مسلم.
تلك المنازل أعدها الله لعباده الذين أطاعوه بالغيب ولم يروه. في الحديث القدسي يقول الله -تبارك وتعالى-: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر". قال أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ). متفق عليه.
دار وصفها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنها: "لبنة ذهب، ولبنة فضة، وملاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه" رواه أحمد والترمذي.
أيُّ موكب أعظم من موكب المؤمنين وهم يُزفون إلى أمنيتهم المنشودة، وطِلبتهم المقصودة، وأملِهم الذي طالما اشتاقوا إليه، وسهروا من أجل قطع المسافات حرصاً عليه، وتحملوا العناء والحزن حتى يحطوا رحال سفرهم الشاق فيه؟.
ما أشد سرورهم ووفود التهنئة تستقبلهم على الأبواب تهنئهم بسلامة الوصول، وتفرش على طريقهم البشاشة بنيل المأمول، وتبشرهم بطيب الَمنزِل وكرم المُنزِل وراحة النازل، في أعلى المنازل، تقول: (سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد24]، وقال -تعالى-: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [الزمر:73-74].
على تلك الأبواب المفتّحة تدخل أول زمرة "على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يمتخطون، ولا يتفلون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوّة، أزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خُلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء".
فإذا ولجوها يتجه كل منهم إلى منزله الذي أُعد له، يهتدي إليه ولا يخطئوه كأنه ساكنه منذ خُلِق لا يستدل إليه بأحد. قال -تعالى-: (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) [محمد:6]، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار فيتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا نُقّوا وهُذِّبوا أُذن لهم بدخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده! لَأحدهم بمسكنه في الجنة أدلُّ بمنزله كان في الدنيا" متفق عليه.
وهل ذلك المنزل كمنازل الدنيا؟ لا والله! قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها ستون ميلاً، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا" متفق عليه.
عباد الله: والمؤمنون في تلك القصور المشيدة معهم أهلوهم وزوجاتهم المؤمنات اللاتي كن معهم في الدنيا، كما قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) [الطور:21].
ويزيدهم الله من فضله فيعطي كل واحد من الرجال زوجتين من الحور العين اللاتي وصفهن الله في كتابه فقال: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ) [الصافات:48].
أيها المسلمون: إن أهل الجنة يأكلون ويشربون ويلبسون ما يشاءون، من غير حاجة إلى الذهاب للخلاء، ومن غير خوف على الثياب من البلى. قال -تعالى-: (وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ الواقعة * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ) [الواقعة:20-21]. وقال -تعالى-: (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً) [الإنسان:21].
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يأكل أهل الجنة فيها ويشربون، ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يبولون، ولكن طعامهم ذاك جشاء كرشح المسك، يُلهَمون التسبيح والحمد كما يلهمون النفَس" رواه مسلم.
وأن أهل الجنة -عباد الله- إذا دخلوها سلِموا من كل ألم وحاجة إلى شيء، فإن كانوا يأكلون في الدنيا لجوع، ويشربون لظمأ، وينكحون لشبق، ويلبسون لعري، فما في الجنة هذه الحاجات والضرورات، فأكلهم وشربهم ولبسهم ونكاحهم تنعُّمٌ لا احتياج.
معشر المسلمين: وإذا كان النعيم يتفاوت ويختلف فإن في الجنة لنعمياً إذا أدركه أهل الجنة نسوا كل نعيمهم فيها، ذلك النعيم الأكبر هو النظر إلى وجه الله الكريم؛ فعن صهيب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلا هذه الآية: (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) [يونس:26]، فقال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى منادٍ: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم يثقّل موازيننا، ألم يبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه، فو الله! ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ولا أقرَّ لأعينهم" رواه أحمد وابن حبان والطبراني.
ألا يا عباد الله، اعلموا أن ما في الجنة أعظم من وصف الواصفين، وأبلغ مما يخطر في البال، ويدور في الخيال. قال -تعالى-: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:17].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المجتبى، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى.
أما بعد: أيها المسلمون، سكِرَ كثير من الناس بحب الدنيا ولم يصحُ إلا القليل الذين جدّوا في الارتحال، وخلفوا وراءهم ذوي الهمم الفاترة، والعزائم الخائرة، تتخطفهم الشياطين، ويستولي عليهم الهوى، وتلعب بهم أمواج الأماني، حتى تُلقي بهم في ساحل الآخرة من الخاسرين.
فاحذروا -عباد الله- أن تكونوا منهم، وتزودوا من الدنيا بزاد ينجيكم عند مولاكم، وكونوا على يقين جازم أنكم لن تخلدوا في هذه الحياة؛ فالموت يطلبكم في كل لحظة. فيا سعد َمن أتاه وهو على استعداد وأهبة! ويا شقاء من جاءه وهو في لهو وغفلة! طويل الأمل، سيء العمل، يرجو التأخير والإمهال، حتى فجأه الموت فقطع أمانيه، وكشف له الحجب حتى رأى الحقائق، وأنزله من مراكب الأحلام والسلامة، إلى شاطئ اليقظة والندامة.
أيها المسلمون: لو أن عاقلاً فكر وتأمل فيما هو مقدم عليه لا محالة، لأعد للسلامة أماناً وزادا، ومن الهلاك وقاية وابتعادا؛ فإنه قبيح بالعبد أن ينسى أو يتناسى تلك النار المتقدة، وذلك السخط المستعر الذي أُعد لمن تنحى عن طريق الاستقامة، وخبَّ وأسرع في طريق الغواية! فيا عجباه لعبد يخاف النار وهو يقدحها بسوء عمله، ويشتاق إلى الجنة وهو يهرب منها بإعراضه وكسله!.
يا سلعةَ الرحمن لستِ رخيصةً *** بل أنت غاليةٌ على الكسلان
يا سلعة الرحمن هل من خاطبٍ *** ولقد عُرضتِ بأيسر الأثمان؟
يا سلعة الرحمن كيف تصبّر الـ *** ـخطّابُ عنك وهم ذوو إمكان؟
عباد الله: لِنَكُنْ مستعدين للسفر الصادق إلى دار الخلود بالمسارعة إلى مراضي الله، والإبطاء عن مساخطه، حتى إذا فاجأنا الموت أتانا ونحن ننتظره، فيا فرحةَ المسافر إلى أحبابه بقدوم المبشِّر بقرب الوصول إلى ذلك المأمول، إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين!.
التعليقات