عناصر الخطبة
1/الموقف الشرعي من السحر 2/حقيقة السحر وكنهه 3/ أنواع السحر وأخطرها 4/ محاكمة قرآننا العظيم للسحرة المفسدين 5/حد الساحر 6/كيفية توقي السحر 6/ أفضل الطرق المشروعة لإزالة السحر 7/تحريم الذهاب إلى المشعوذين والدجالين لفك السحراقتباس
فالسحر جرم عظيم، يفسد على المسحور أمر دينه ودنياه، ويؤثر على بدنه وعلى عقله، وعلى إرادته وعلى ميله، وعلى أسرته وحياته ومستقبله وذريته. ألا فليتق الله أولئك الذين واللواتي يتردّدون على أبواب السحرة، يكفي الناس ما فيهم من شقاء، وهموم الحياة ومشاكلها، ويكفي الأمه ما تعانيه من ويلات..
الخطبة الأولى:
الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102].
أما بعد: يقول الحق -سبحانه-: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[البقرة: 102-103].
هذه آية عظيمة الدلالة في قضية السحر، وفقه معناها الحقيقي، وفهم دلالتها السليمة مهم جدًّا، ينبني عليه معرفة الموقف الشرعي من السحر، ولذلك سنقف على خلاصة كلام أهل التفسير لهذه الآية من خلال ما أروده السعدي في تفسيره.
قال السعدي في تفسير هذه الآية: "كذلك هؤلاء اليهود لما نبذوا كتاب الله اتبعوا ما تتلوا الشياطين وتختلق من السحر على ملك سليمان؛ حيث أخرجت الشياطين للناس السحر، وزعموا أن سليمان -عليه السلام- كان يستعمله، وبه حصل له الملك العظيم. وهم كذبة في ذلك، فلم يستعمله سليمان، بل نزَّهه الصادق في قيله: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ)؛ أي: بتعلم السحر، فلم يتعلمه، (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) بذلك. (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) من إضلالهم وحرصهم على إغواء بني آدم.
وكذلك اتبع اليهود السحر الذي أنزل على الملكين الكائنين بأرض بابل من أرض العراق، أنزل عليهما السحر امتحانًا وابتلاءً من الله لعباده فيعلمانهم السحر. (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى) ينصحاه، و(يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ)؛ أي: لا تتعلم السحر فإنه كفر، فينهيانه عن السحر، ويخبرانه عن مرتبته، فتعليم الشياطين للسحر على وجه التدليس والإضلال، ونسبته وترويجه إلى من برَّأه الله منه وهو سليمان -عليه السلام-، وتعليم الملكين امتحانا مع نصحهما لئلا يكون لهم حجة.
فهؤلاء اليهود يتبعون السحر الذي تعلّمه الشياطين، والسحر الذي يعلّمه الملكان، فتركوا علم الأنبياء والمرسلين وأقبلوا على علم الشياطين، وكل يصبو إلى ما يناسبه. ثم ذكر مفاسد السحر فقال: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ)، مع أن محبة الزوجين لا تُقاس بمحبة غيرهما؛ لأن الله قال في حقهما: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)، وفي هذا دليل على أن السحر له حقيقة، وأنه يضرّ بإذن الله، أي: بإرادة الله، والإذن نوعان: إذن قدريّ، وهو المتعلق بمشيئة الله، كما في هذه الآية، وإذن شرعيّ كما في قوله -تعالى- في الآية السابقة: (فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ).
وفي هذه الآية وما أشبهها أن الأسباب مهما بلغت في قوة التأثير، فإنها تابعة للقضاء والقدر ليست مستقلة في التأثير، ولم يخالف في هذا الأصل من فِرَق الأمة غير القدرية في أفعال العباد، زعموا أنها مستقلة غير تابعة للمشيئة، فأخرجوها عن قدرة الله، فخالفوا كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة والتابعين.
ثم ذكر أن علم السحر مضرة محضة، ليس فيه منفعة لا دينية ولا دنيوية كما يوجد بعض المنافع الدنيوية في بعض المعاصي، كما قال تعالى في الخمر والميسر: (قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا)[البقرة:219]؛ فهذا السحر مضرة محضة، فليس له داع أصلاً؛ فالمنهيات كلها إما مضرة محضة، أو شرها أكبر من خيرها. كما أن المأمورات إما مصلحة محضة أو خيرها أكثر من شرها.
(وَلَقَدْ عَلِمُوا) أي: اليهود (لَمَنِ اشْتَرَاهُ) أي: رغب في السحر رغبة المشتري في السلعة. (مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)؛ أي: نصيب، بل هو موجب للعقوبة، فلم يكن فعلهم إياه جهلاً، ولكنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة. (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)، علمًا يثمر العمل ما فعلوه". انتهى كلام السعدي.
وقال ابن عاشور: "قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ لَمَّا ذَكَرَ النَّبِيءُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُلَيْمَانَ فِي الْأَنْبِيَاءِ قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَن سُلَيْمَان نبيء وَمَا هُوَ بنبيء، وَلَكِنَّهُ سَاحِرٌ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ".
عباد الله: إن الموضوع خطير الذي طرقته هذه الآية هو موضوع السحر، وما أدراك ما السحر؟ ذاك الخطر القديم الحديث. فالسحر صنعة قديمة جديدة. فما حقيقة السحر؟ وما كنهه؟ فالكثير يجهل حقيقة السحر، وكثير كذلك يتشوف إلى معرفه طبيعة السحر.
يعرف العلماء السحر بأنه مكوّن من عُقَد، وقراءات، وطلاسم، وشعوذات، يتوصل بها الساحر إلى استخدام الشياطين فيما يريد، ليضر المسحور. ومن السحر ما يقوم على التخيل والخداع، ويدل عليه قوله -تعالى-: (قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى)[طه:66].
ومن السحر ما يقوم على استخدام الطلاسم والنفث على الخيوط (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ)[الفلق:4]. ومن السحر ما يقوم على استخدام الأدوية والعقاقير. ومن السحر ما يقوم على استخدام أشياء خاصة من متعلقات المسحور، كشعرة من جسده. ومن السحر ما يعتمد على الشياطين، وهو في غالبة كذلك، خاصة المقصود منه الإضرار.
عباد الله، قال الله -تعالى-: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)[البقرة:102]؛ إن الموضوع الخطير الذي طرقته هذه الآية هو موضوع السحر؟ وإذا كان الأمر كذلك؟ فما هو النوع الخطير من السحر الذي طرقته هذه الآية؟ وهل هو النوع الوحيد؟ وإذا كان هناك أنواع أخرى فما هي هذه الأنواع، ولماذا خصته الآية من بينها جميعًا بالذكر؟
أيها الإخوة: إن النوع الخطير من السحر الذي طرقته الآية، هو في قوله -تعالى-: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ)، فالنوع الخطير من السحر الذي طرقته الآية، هو سحر "التفريق بين المرء وزوجه"، بين الشاب وخطيبته، وليس هذا هو النوع الوحيد من السحر، وإنما هناك أنواع أخرى من عديدة من السحر.
فهذا نوع من السحر الذي خصّته الآية الكريمة بالذِّكر، يدعى سحر التفريق، خطره كبير، وضرره الاجتماعي وخيم، يفكك السر ويدمر البيوت، وينشئ المشاكل ويتسبب في عدم الاستقرار، ففي صحيح مسلم، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ". قَالَ الْأَعْمَشُ: أُرَاهُ قَالَ: "فَيَلْتَزِمُهُ". ومعنى ""فيلتزمه" أي يضمه إلى نفسه ويعانقه".
وهناك نوع ثانٍ من السحر يدعى: سحر المحبة. وهناك نوع ثالث من السحر يدعى: سحر الجنون (والهذيان). وهناك نوع رابع من السحر يدعى: سحر المرض. وهناك نوع خامس من السحر يدعى: تعطيل الزواج. وغيرها.
عباد الله، قال الله -تعالى-: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)[البقرة:102], فهناك سحرة، وهناك مسحورون؟ فبماذا حاكمت هذه الآية هؤلاء السحرة المفسدين؟ وبماذا خاطبت المسحورين المظلومين؟
أما السحرة، فقد قالت هذه الآية في محاكمتهم: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ). ما معنى لمن اشتراه؟ اشترى هنا معناه: تعلم، والهاء في اشتراه ضمير يعود على السحر، فيصبح معنى الآية: ولقد علموا لمن -أي من اشتراه– أي: تعلم السحر، والخلاق معناه النصيب، فيكون معنى الآية: ولقد علموا أن مَن تعلَّم السحر بأنه ليس له في الآخرة نصيب، وكل من ليس له في الآخرة نصيب، فبمقتضاه أن عمله حابط باطل، هباء منثور، وصاحبه إلى جهنم وبئس المصير.
قال البغوي في تفسير هذه الآية: "(وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ)، يَعْنِي: أَنَّ السِّحْرَ يَضُرُّهُمْ (وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا) يَعْنِي الْيَهُودَ (لَمَنِ اشْتَرَاهُ)؛ أَيِ اخْتَارَ السِّحْرَ (مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ)؛ أَيْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ نَصِيبٍ (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ) بَاعُوا بِهِ (أَنْفُسَهُمْ) حَظَّ أَنْفُسِهِمْ، حَيْثُ اختاروا السحر وَالْكُفْرَ عَلَى الدِّينِ وَالْحَقِّ (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ)، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ -تعالى-: (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) بَعْدَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُمْ عَلِمُوا؟ قِيلَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ (وَلَقَدْ عَلِمُوا) يَعْنِي الشَّيَاطِينَ وَقَوْلُهُ (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) يَعْنِي الْيَهُودَ وَقِيلَ: كِلَاهُمَا فِي الْيَهُودِ يَعْنِي: لَكِنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَعْلَمُوا بِمَا عَلِمُوا فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا) بِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْقُرْآنِ (وَاتَّقَوْا) الْيَهُودِيَّةَ وَالسِّحْرَ (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ) لَكَانَ ثَوَابُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ خَيْرًا لَهُمْ (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)".
نعم، هذه هي محاكمة قرآننا العظيم للسحرة المفسدين اللعينين الضارين المشركين. فالساحر الذي يستعين بالشياطين، وهم غالبهم، لا يكون ساحرًا حتى يخضع للشياطين، ويقوم بعبادته وذبح القرابين لمقامه، ويأبى الشيطان أن يتعاون مع الساحر حتى يأتي بأنواع من الكفر يستحي أبو جهل من فعلها.
أتعلمون -أيها الإخوة- أن الشيطان حتى يساعد الساحر، يطلب منه أن يلطخ لفظ الجلالة، وآيات من كتاب الله بالنجاسات، بالبول والغائط والدم، وأن يكتب اسم الجلالة -حاشاه حاشاه- على حذائه، وأن يتحفظ بورق المصحف الشريف، وغير ذلك من كفريات يندى لها الجبين.
هذه هي حال السحرة، ليعرفها جيدًا أولئك الذين يتردون على السحرة، ليصنعوا لهم السحر، يدمرون به حياة فلان أو حياة فلانة من المسلمين من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، هذه هي حالهم ليعرفوها جيدًا، ثم ليعرفوا بعدها حكم الشريعة الإسلامية في السحرة.
أيها الإخوة: إننا اذا قلَّبنا كتب أئمتنا الأعلام، وفتَّشنا في بطونها، فإننا نحد بأن علماء الإسلام قد بينوا بأن السحر مُحرَّم وكُفْر، وأن الساحر كافر بالله، وأن استعمال السحر كفر، وظلم، وعدوان على الخلق. وفي مستدرك الحاكم، عَنْ جُنْدُبِ الْخَيْرِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ"(وقال الحاكم: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَإِنَّ كَانَ الشَّيْخَانِ تَرَكَا حَدِيثَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ غَرِيبٌ صَحِيحٌ، وَلَهُ شَاهِدٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا جَمِيعًا فِي ضِدِّ هَذَا. والتعليق من تلخيص الذهبي: صحيح غريب").
وفي مسند أحمد، بإسناد صحيح، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَ بَجَالَةَ، يَقُولُ: كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ -عَمِّ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ- فَأَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ: أَنِ اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ- وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ: وَسَاحِرَةٍ- فَقَتَلْنَا ثَلاثَةَ سَوَاحِرَ".
وفي موطأ مالك، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ؛ أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ حَفْصَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَتَلَتْ جَارِيَةً لَهَا، سَحَرَتْهَا. وَقَدْ كَانَتْ دَبَّرَتْهَا. فَأَمَرَتْ بِهَا فَقُتِلَتْ. قال ابن وضاح: "إذا ثبت عليها أنها تعمل السحر عند الناس فحينئذ يجب عليها القتل، ولا يقتلها سيدها، ولا يقتلها إلا السلطان".
وقَالَ مَالِكٌ في الموطأ: "السَّاحِرُ الَّذِي يَعْمَلُ السِّحْرَ. وَلَمْ يَعْمَلْ ذلِكَ لَهُ غَيْرُهُ. هُوَ مَثَلُ الَّذِي قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتعالى- فِي كِتَابِهِ: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)[البقرة:102]، فَأَرَى أَنْ يُقْتَلَ ذلِكَ. إِذَا عَمِلَ ذلِكَ هُوَ نَفْسُهُ". وعزا القرطبي إلى جمهور أهل العلم القول: بوجوب قتل الساحر من غير استتابة وذلك لفظاعة أمرهم ولعظيم فسادهم.
فالسحر جرم عظيم، يفسد على المسحور أمر دينه ودنياه، ويؤثر على بدنه وعلى عقله، وعلى إرادته وعلى ميله، وعلى أسرته وحياته ومستقبله وذريته.
ألا فليتق الله أولئك الذين واللواتي يتردّدون على أبواب السحرة، يكفي الناس ما فيهم من شقاء، وهموم الحياة ومشاكلها، ويكفي الأمه ما تعانيه من ويلات.
ألا فليتق الله أولئك الذين واللواتي يترددون على أبواب السحرة، للانتقام من قريب أو أخ أو جار أو نسيب أو بعيد، أو بنت عمّ أو بنت خالة، ألا فليتقوا الله، (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ)[إبراهيم:42].
عباد الله: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)؛ نعم، بهذا حاكمت الآية السحرة، وبهذا وخاطبت الآية السحرة. ولكن بماذا خاطبت الآية المسحور؟
لقد خاطبت الآية المسحور بقول الله -تعالى-: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)[البقرة:102]. قال ابن كثير: "قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إِلَّا بِقَضَاءِ اللَّهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ إِلَّا بِتَخْلِيَةِ اللَّهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا أَرَادَ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ)؛ قَالَ: نَعَم، مَنْ شَاءَ اللَّهُ سَلَّطَهُمْ عَلَيْهِ، وَمَنْ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ لَمْ يُسَلَّطْ، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ ضُرَّ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ -تعالى-، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَضُرُّ هَذَا السِّحْرُ إِلَّا مَنْ دَخَلَ فِيهِ".
فهل إذا وقع السحر انتهى الأمر ولا علاج ولا فرج للمسحور؟ لا، يا عباد الله، بما أن السحر يقع بإذن الله، فإنه ينتهي كذلك بإذن الله. فالسحر كالداء له دواء. فالسحر يزول، وينتهى مفعوله، ويبطل كليًّا، -بإذن الله تعالى- الذي قال في كتابه: (فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)[يونس:81].
والسحر داء، ولكل داء دواء في شريعتنا، ففي صحيح البخاري، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً".
عباد الله: وخير علاج للسحر أن يتقيه المرء قبل وقوعه وحدوثه، وكيف ذلك؟ بما أن الساحر الخبيث يستعين بالشيطان، فقد بيَّن لنا القرآن الكريم كيف يحصّن المسلم نفسه من الشيطان، وذلك بالمداومة على الأذكار وقراءة القرآن، وبالاستعاذة بالله من شر الشيطان، قال -تعالى-: (قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ)[المؤمنون: 97- 98].
قال السعدي: "(وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ) أي اعتصم بحولك وقوتك متبرئًا من حولي وقوتي (مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) أي: أعوذ بك من الشر الذي يصيبني بسبب مباشرتهم وهمزهم ومسهم ومن الشر الذي يحدث بسبب حضورهم ووسوستهم، وهذه استعاذة من مادة الشر كله وأصله ويدخل فيها الاستعاذة من جميع نزغات الشيطان ومن مسه ووسوسته؛ فإذا أعاذ الله عبده من هذا الشر وأجاب دعاءه سلم من كل شر ووفق لكل خير".
فإن وقع للمؤمن فليعلم المؤمن أن هذا ابتلاء له وامتحان، فليصبر وليداوم على اللجوء إلى الله والأخذ بالأسباب الشرعية والمادية لتفريج هذا الكرب عن نفسه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
عباد الله: إن أفضل الطرق المشروعة، لإزالة السحر بعد وقوعه، ما يسمى بـ"الأدوية الإلهية والنبوية"، وهو ما يعرف شرعًا بالرقية الشرعية، من الآيات القرآنية والأحاديث والتوجيهات النبوية، مثل: سورة البقرة، وآية الكرسي، المعوذتين، والفاتحة، وغيرها من آيات كتاب الله، وأحاديث وأدعية الشفاء وتفريج الكروب، وأحاديث الطب النبوي كذلك.
ومن أعظم ما يُواجَه به السحر، ويُفَكّ به ربطه ويزال به أثره ويبطل به مفعوله، سورة البقرة، ففي صحيح مسلم، عَنْ زَيْدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَّامٍ، يَقُولُ: حَدَّثَنِي أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَقُولُ: "اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ، اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ، وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ، فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا، اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ"؛ قَالَ مُعَاوِيَةُ: بَلَغَنِي أَنَّ الْبَطَلَةَ: السَّحَرَةُ.
جاء في شرح (شرح محمد فؤاد عبد الباقي): ""الزهراوين" سميتا الزهراوين لنورهما وهدايتهما وعظيم أجرهما "كأنهما غمامتان أو إنهما غيايتان"، قال أهل اللغة الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه سحابة وغيرة وغيرهما، قال العلماء: المراد أن ثوابهما يأتي كغمامتين "كأنهما فرقان من طير صواف"، وفي الرواية الأخرى كأنهما حزقان من طير صواف. والفرقان والحزقان معناهما واحد وهما قطيعان وجماعتان يقال في الواحد فرق وحزق وحزيقة، وقوله من طير صواف جمع صافة، وهي من الطيور ما يبسط أجنحتها في الهواء "تحاجان عن أصحابهما"، أي تدافعان الجحيم والزبانية وهو كناية عن المبالغة في الشفاعة "ولا يستطيعها"، أي لا يقدر على تحصيلها".
وكذلك، ثبت قوة المعوذتين في التحصين والعلاج والشفاء المعنوي والمادي، ففي صحيح مسلم، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتِ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ". وفي رواية: "أُنْزِلَ، أَوْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَاتٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ، الْمُعَوِّذَتَيْنِ".
عباد الله: هذا هو الطريق الشرعي، والعلاج الإلهي، للسحر، وأما طرق الذهاب إلى المشعوذين والدجالين، والكذابين، والعرافين والفتاحين، الذين يدّعون أنهم يعالجون من هذه الأمراض وأمثالها، فهي طرق شيطانية ضالة، لا توصلك إلى خير، فاحذرها. وقد أصبحت اليوم حرفة، يتكسب من وراءها المال.
ولذلك فإنني أحذر من الذهاب إلى أي إنسان يدعي أنه يعالج أو التواصل معه عبر الاتصالات الحديثة، إلا إذا كان ذهابك إليه بعد استشارة أهل العلم والدين الثقات.
واحذر، من كل من تذهب إليه، فتجده يذكر في أثناء المعالجة كلامًا لا تفهمه أو يتمتم، أو يسأل المريض عن اسم الأم، أو يكتب حجابًا بحروف مقطعة أو مربعات، أو يخبرك بأمور تخصك وتغيب عنه، أو يعطيك أوراقًا ونحوها لتحرقها أو يطلب منك أن تذبح عند قبر من القبور، أو يشعل البخور والدخان، فهذا دجال مفترٍ كاذب على الله ورسوله، لا يحل لك التعامل معه، وإن تظاهر بالصلاح أو بقراءة شيء من القرآن.
أيها الإخوة: لقد نشرت إحدى الصحف مقابلة مع ساحر تائب، صرّح في المقابلة بأن الشياطين كانت ترشدهم إلى التظاهر بالتقوى أمام الناس، والصلاة وتلاوة الآيات وعدم ارتكاب الفواحش أمام الناس، (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)[البقرة: 102].
اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خاصة.
التعليقات