عناصر الخطبة
1/ تأملات في سؤال ربيعة بن كعب لرسول الله 2/ فضائل السجود لله تعالى 3/ ثمرات الإكثار من السجود لله وفوائده 4/ خلاصة أسرار السجود ومعانيه العظام.اقتباس
السجود يا أهل السجود هو سر الصلاة ولبُّها، وأفضل أحوالها، وأعظم أركانها.. في السجود -عباد الله- تتجلى العبودية في أكمل صورها، وأعظم معانيها فيه غاية الذل والانكسار، ونهاية المسكنة والافتقار. عند توارد الهموم وتزاحم الغموم يحتاج العبد إلى أن ينفِّس عن مشاعره ويخفِّف من همومه الجاثمة، ولن يجد العبد ملاذاً غير باب ربه –تعالى- فينطرح بين يديه، ويشكو حاله إليه، ويرفع حاجاته لديه، فيحصل له بذلك طمأنينة القلب وسكينة النفس...
الخطبة الأولى:
مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ:
فِي رَبِيعِ الْعُمْرِ وَعُنْفُوَانِ الشَّبَابِ يَسِيرُ رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ أَنْ أَشْرَقَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ وَامْتَلَأَ فُؤَادُهُ شَوْقًا وَتَوْقًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنِ اكْتَحَلَتْ عَيْنَاهُ بِرُؤْيَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى امْتَلَأَ قَلْبُهُ حُبًّا وَوَلَعًا بِهَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ، وَهَامَتْ نَفْسُهُ وَشُغِفَتْ بِهَذَا الرَّجُلِ الْعَظِيمِ.
عِنْدَ ذَلِكَ قَرَّرَ رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ أَنْ يَكُونَ خَادِمًا مُخْلِصًا لِهَذَا الْحَبِيبِ الْمَحْبُوبِ، فَكَانَ رَبِيعَةُ فِي رَبِيعِهِ، ظَلَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسِيرُ مَعَهُ حَيْثُ سَارَ فِي مَجْلِسِهِ وَمَسِيرِهِ وَسَفَرِهِ وَحَضَرِهِ، وَمَا تَعَرَّضَتْ حَاجَةٌ لِلْمُصْطَفَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرَمَى طَرْفَهُ أَوْ أَشَارَ بِيَدِهِ إِلَّا وَجَدْتَ رَبِيعَةَ بْنَ كَعْبٍ وَاقِفًا بَيْنَ يَدَيْهِ يَسْتَلِذُّ بِقَضَائِهَا، وَيَسْتَمْتِعُ بِإِنْجَازِهَا.
وَكَانَ هَذَا دَأْبَهُ وَحَالَهُ فِي نَهَارِهِ حَتَّى إِذَا حَلَّ اللَّيْلُ رَأَيْتَ رَبِيعَةَ بْنَ كَعْبٍ وَاقِفًا عِنْدَ عَتَبَةِ بَابِ حُجْرَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يَتَحَوَّلُ عَنْهَا، فَلَعَلَّ حَاجَةً تَعْرِضُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَتَوَلَّى شَرَفَ إِتْمَامِهَا وَإِنْهَائِهَا.
أَمَّا حَبِيبُنَا وَقُدْوَتُنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَدْ كَانَ خُلُقُهُ وَأَخْلَاقُهُ وَكَرَمُهُ وَطِيبُ مَعْدِنِهِ مُكَافَأَةَ مَنْ صَنَعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفًا بِخَيْرِ الْجَزَاءِ وَأَجَلِّ وَأَحْسَنِ الْعَطَاءِ.
فَأَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى رَبِيعَةَ فَقَالَ: "يَا رَبِيعَةُ سَلْنِي شَيْئًا أَعْطِهِ لَكَ"، هُنَا سَكَتَ ذَاكَ الشَّابُّ الْفَقِيرُ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَلَا أَهْلَ، وَلَا سَكَنَ، وَطَافَتْ فِي مُخَيِّلَتِهِ جَمِيعُ الْأُمْنِيَّاتِ وَالْأُعْطِيَّاتِ وَهُوَ يَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا سُئِلَ أَعْطَى، وَإِذَا وَعَدَ أَوْفَى، فَمَاذَا كَانَ سُؤَالُ رَبِيعَةَ إِذًا؟!
هَلْ تَرَاهُ طَلَبَ الْمَالَ الْوَفِيرَ أَوِ الْمَرْأَةَ الْحَسْنَاءَ، أَمْ تَرَاهُ سَأَلَ الْمَرْكَبَ الْهَنِيءَ أَوِ الْمَسْكَنَ الْوَاسِعَ... كَلَّا... لَقَدْ سَأَلَ مَسْأَلَةً تَدُلُّ عَلَى عَقْلِهِ وَحُبِّهِ الشَّدِيدِ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي مَلَكَ عَلَيْهِ شَغَافَ قَلْبِهِ.
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، "أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ"، فَسَكَتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَعَجُّبًا وَإِعْجَابًا بِسُؤَالِهِ ثُمَّ قَالَ: "أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ يَا رَبِيعَةُ؟ "، فَقَالَ: "هُوَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ"، وَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ الْمِعْطَاءِ إِلَّا أَنْ يُجِيبَهُ إِلَى مُنَاهُ فَقَالَ: "يَا رَبِيعَةُ، أَعِنِّي إِذًا عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ".
فَيَا كُلَّ مَنْ أَحَبَّ الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَى مُرَافَقَتِهِ فِي أَعْلَى مَقَامٍ وَأَشْرَفِ نُزُلٍ؛ أَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا، فَهَذَا الشَّرَفُ وَالْفَخْرُ مَوْصُولٌ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَحَقِيقٌ بِنَا أَنْ نَقِفَ مَعَ شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ هَذِهِ الشَّعِيرَةِ وَأَسْرَارِهَا وَمَكَانَتِهَا، لَعَلَّ الْهِمَمَ تَتَعَالَى فِي الْإِكْثَارِ مِنْهَا وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا.
السُّجُودُ -يَا أَهْلَ السُّجُودِ- هُوَ سِرُّ الصَّلَاةِ وَلُبُّهَا، وَأَفْضَلُ أَحْوَالِهَا، وَأَعْظَمُ أَرْكَانِهَا...
فِي السُّجُودِ -عِبَادَ اللَّهِ- تَتَجَلَّى الْعُبُودِيَّةُ فِي أَكْمَلِ صُوَرِهَا، وَأَعْظَمِ مَعَانِيهَا فِيهِ غَايَةُ الذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ، وَنِهَايَةُ الْمَسْكَنَةِ وَالِافْتِقَارِ.
بِالسُّجُودِ أَثْنَى الرَّحْمَنُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ وَصَفْوَتِهِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) [مَرْيَمَ: 58].
وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ خَلِيلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ أَنْ يُطَهِّرَا الْبَيْتَ الْحَرَامَ لِعِبَادِهِ الْمُشْتَغِلِينَ بِأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ، وَمِنْهَا السُّجُودُ (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [الْحَجِّ: 26].
وَأَثْنَى الرَّحْمَنُ عَلَى عِبَادِ الرَّحْمَنِ وَذَكَرَ مِنْ أَوْصَافِهِمْ: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) [الْفُرْقَانِ: 64].
وَذَمَّ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَهْلَ الْإِعْرَاضِ عَنِ السُّجُودِ (فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ) [الِانْشِقَاقِ: 20- 21].
بِالسُّجُودِ وَصَّتِ الْمَلَائِكَةُ الصِّدِّيقَةَ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانِ (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) [آلِ عِمْرَانَ: 43].
وَهُوَ سُنَّةُ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ الْمُنِيبِينَ، فَهَذَا دَاوُدُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَمَا أَحَسَّ بِخَطَئِهِ خَرَّ رَاكِعًا لِرَبِّهِ وَأَنَابَ، وَالرُّكُوعُ هُنَا الْمُرَادُ بِهِ السُّجُودُ عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ.
وَحِينَمَا أَيْقَنَ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ بِصِدْقِ نُبُوَّةِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- خَضَعُوا لِرَبِّهِمْ تَائِبِينَ طَائِعِينَ، وَخَرُّوا سُجَّدًا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَالْمُخْلِصُونَ لِسُجُودِهِمْ لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا يُكَافَئُونَ بِالسُّجُودِ لِلَّهِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، قَالَ تَعَالَى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ) [الْقَلَمِ: 42].
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: عِنْدَ تَوَارُدِ الْهُمُومِ وَتَزَاحُمِ الْغُمُومِ يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إِلَى أَنْ يُنَفِّسَ عَنْ مَشَاعِرِهِ وَيُخَفِّفَ مِنْ هُمُومِهِ الْجَاثِمَةِ، وَلَنْ يَجِدَ الْعَبْدُ مَلَاذًا غَيْرَ بَابِ رَبِّهِ -تَعَالَى- فَيَنْطَرِحُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيَشْكُو حَالَهُ إِلَيْهِ، وَيَرْفَعُ حَاجَاتِهِ لَدَيْهِ، فَيَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ وَسَكِينَةُ النَّفْسِ.
وَلِذَا أَرْشَدَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- نَبِيَّهُ حِينَمَا كَذَّبَهُ قَوْمُهُ وَاتَّهَمُوهُ فِي عَقْلِهِ، فَضَاقَ بِذَلِكَ صَدْرُهُ وَتَحَسَّرَتْ نَفْسُهُ أَرْشَدَهُ أَنْ يَلْجَأَ إِلَى رَبِّهِ بِالتَّسْبِيحِ وَالسُّجُودِ (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) [الْحِجْرِ: 97- 98].
شَرَفُ السُّجُودِ وَعَظَمَتُهُ تَتَجَلَّى فِي قُرْبِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ -تَعَالَى-، وَلِذَا رَبَطَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ السُّجُودِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) [الْعَلَقِ: 19].
رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ".
وَمِنْ فَضَائِلِ السُّجُودِ أَيْضًا أَنَّهُ مَوْطِنٌ مِنْ مَوَاطِنِ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ؛ يَقُولُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ" "رَوَاهُ مُسْلِمٌ".
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ السَّاجِدِينَ: السُّجُودُ لِلَّهِ -تَعَالَى- سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ، يُسْأَلُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ فَقَالَ: "عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ؛ فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلَّا رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً" "رَوَاهُ مُسْلِمٌ".
السُّجُودُ يَغِيظُ الشَّيْطَانَ؛ لِأَنَّهُ يَرَى اسْتِجَابَةَ الْمُؤْمِنِ لِرَبِّهِ وَعُبُودِيَّتَهُ لَهُ، رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ"، وَفِي رِوَايَةٍ: "يَا وَيْلِي! أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِي النَّارُ".
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: حِينَمَا يَفْصِلُ الْخَالِقُ -جَلَّ وَعَلَا- بَيْنَ عِبَادِهِ فِي الْآخِرَةِ فَيُدْخِلُ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلَ النَّارِ النَّارَ يُخْرِجُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنَ النَّارِ بَعْدَ ذَلِكَ أَصْحَابَ السُّجُودِ فِي الدُّنْيَا، رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الطَّوِيلِ وَفِيهِ: "حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ رَحْمَةَ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَيُخْرِجُوهُمْ وَيَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ السُّجُودِ، وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ".
وَمِنْ فَضْلِ السُّجُودِ وَبَرَكَتِهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْرِفُ أَفْرَادَ أُمَّتِهِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ بِأَثَرِ السُّجُودِ فِي الْوَجْهِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ...
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعْدُ -فَيَا إِخْوَةَ الْإِيمَانِ-:
وَفِي السُّجُودِ مَعَانٍ خَفِيَّةٌ وَأَسْرَارٌ دَقِيقَةٌ يَنْبَغِي اسْتِشْعَارُهَا وَاسْتِحْضَارُهَا؛ لِتَتَحَقَّقَ الْعُبُودِيَّةُ الْحَقَّةُ لِلَّهِ -تَعَالَى-، وَلِيَكُونَ لِهَذِهِ الشَّعِيرَةِ أَثَرُهَا فِي تَزْكِيَةِ نَفْسِ الْعَبْدِ وَصَلَاحِ قَلْبِهِ.
وَخُلَاصَةُ أَسْرَارِ السُّجُودِ وَمَعَانِيهِ الْعِظَامِ أَنْ يَسْتَشْعِرَ السَّاجِدُ لِرَبِّهِ أَنَّهُ انْحَنَى لِخَالِقِهِ رَاغِمًا مُسْتَذِلًّا وَمُسَبِّحًا مُنَزِّهًا، يَسْأَلُهُ وَيَدْعُوهُ، وَيَطْلُبُهُ وَيَرْجُوهُ، مُسْتَيْقِنًا أَنَّ رَبَّهُ قَرِيبٌ مِنْهُ يَسْمَعُ مُنَاجَاتَهُ وَشَكْوَاهُ.
يَتَذَكَّرُ الْعَبْدُ أَيْضًا أَنَّ هَذِهِ الْجَوَارِحَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَكُونَ إِلَّا طَائِعَةً لِمَنْ خَلَقَهَا وَأَوْجَدَهَا وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ مُحَاسَبَةِ الْحَالِ يَنْطِقُ بِهَا الْحَالُ.
وَفِي مَقَامِ السُّجُودِ أَيْضًا لَا يَرَى السَّاجِدُ شَيْئًا مِنْ صَوَارِفِ الدُّنْيَا وَمُلْهِيَاتِهَا وَفِتْنَتِهَا فَيَزْدَادُ خُشُوعُهُ، وَيَسْمُو خُضُوعُهُ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ؛ فَيَتَحَقَّقُ لَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَمَعَ هَذَا الِاسْتِشْعَارِ أَسْمَى مَقَامَاتِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ -تَعَالَى-، وَهَذِهِ حَالٌ يُحِبُّهَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ فِيهَا تَحْقِيقًا لِلْغَايَةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا خَلَقَ الْخَلْقَ وَالْخَلِيقَةَ وَأَوْجَدَهَا وَأَوْجَدَهُمْ.
وَبَعْدُ -يَا أَخَا الْإِيمَانِ- فَالسُّجُودُ كُلُّهُ لَكَ خَيْرٌ، فَهُوَ عِزُّكَ وَشَرَفُكَ، وَسَعَادَتُكَ وَمُسْتَقْبَلُكَ، فَرَبُّكَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَرَى عَبْدَهُ حِينَ يَقُومُ وَتَقَلُّبَهُ فِي السَّاجِدِينَ، فَأَكْثِرْ مِنَ السُّجُودِ وَسَابِقْ إِلَيْهِ، وَجَاهِدِ النَّفْسَ الْأَمَّارَةَ عَلَيْهِ، وَمَعِّرْ وَجْهَكَ خَاشِعًا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَرَبُّكَ الْكَرِيمُ قَدْ عَمَّتْ نَوَافِلُهُ عَلَيْكَ، وَاتَّصَلَ بِرُّهُ وَخَيْرُهُ إِلَيْكَ، فَسُبْحَانَهُ مِنْ إِلَهٍ كَرِيمٍ، رَءُوفٍ بَرٍّ رَحِيمٍ، أَلْسِنَتُنَا سَبَّحَتْ لَهُ فِي عُلَاهُ، وَجِبَاهُنَا مَا سَجَدَتْ لِأَحَدٍ سِوَاهُ، هُوَ يَرَانَا وَلَا نَرَاهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ.
يَا مَنْ يَرَى مَدَّ الْبَعُوضِ جَنَاحَهَا *** فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ الْبَهِيمِ الْأَلْيَلِ
وَيَرَى نِيَاطَ عُرُوقِهَا فِي نَحْرِهَا *** وَالْمُخَّ فِي تِلْكَ الْعِظَامِ النُّحَّلِ
وَيَرَى وَيَسْمَعُ حِسَّ مَا هُوَ دُونَهَا *** فِي قَاعِ بَحْرٍ مُظْلِمٍ مُتَهَوِّلِ
امْنُنْ عَلَيْنَا بِتَوْبَةٍ تَمْحُو بِهَا *** مَا كَانَ مِنَّا فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ...
التعليقات