اقتباس
والزكاة إخاء، وهي تطبيق عملي لقول الحبيب النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"؛ فعلى وجه الأرض مسلمون جوعى وعراة، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، في أمس الحاجة للمعونة والمساعدة والدعاء، وهم لنا إخوة وجيران وأصدقاء...
لتنمية المال أسباب كثيرة معلومة، لكن أغرب أسباب زيادة المال ونمائه في نظري هي الإنفاق منه؛ نعم، إذا أردت أن يزيد مالك وينمو فأنفق منه، أنفق منه لكن في سبيل الله، فإن فعلت بارك الله لك في مالك ونماه وزاده ورد عليك خيرًا مما أنفقت، هكذا قال الله -تعالى- في القرآن: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ)[سبأ:39]، وقال أيضًا: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ)[البقرة:276]، وقال -عز وجل- في الحديث القدسي: "يا ابن آدم أنفق أنفق عليك"(متفق عليه)
وهكذا قال رسوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما نقصت صدقة من مال"(رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما تصدق أحد بصدقة من طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فَلُوَّهُ أو فصيله"(متفق عليه).
والإنفاق في سبيل الله -تعالى- أنواع عديدة، لكن أعظمها بلا شك وبلا خلاف هي الزكاة المفروضة؛ فقد قال الجليل -سبحانه وتعالى- في حديثه القدسي: "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه"(رواه البخاري).
والزكاة نجاة: نجاة من شمس يوم القيامة وحرها، فعن عقبة بن عامر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس"(ابن حبان)، ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله: "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه"(متفق عليه).
والزكاة وقاية وحماية من شر المال، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "من أدى زكاة ماله فقد ذهب عنه شره"(رواه الطبراني في الأوسط، وحسنه الألباني لغيره)، وصححه الحاكم بلفظ: "إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره".
بل إن من أدى الزكاة فقد ذهبت عنه الآفات والهلكات كلها، فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المعروف إلى الناس يقي صاحبها مصارع السوء والآفات والهلكات، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة"(رواه الحاكم، وصححه الألباني).
والزكاة شكر يستوجب الزيادة، فالزكاة إحسان يقابل الإحسان، كما قالها علماء بني إسرائيل لقارون: (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ)[القصص:77]، وقد وعد الله -تعالى- كل شاكر بالبركة والزيادة، فقال -عز وجل-: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم:7].
فإن كانت الزكاة لا تُنقِص المال، بل تزيده، وإن كانت تُذهِب شر المال عن صاحبها، وتقي المال وصاحبه من كل آفة وهلكة... فحق لنا أن نقول بملء أفواهنا: "الزكاة نماء"، وهذا شيء مذكور حتى في اسمها؛ فمن معانى كلمة الزكاة: النماء.
***
والزكاة كذلك صفاء؛ فمؤديها يحيا في صفاء بعيدًا عن الأحزان والأكدار؛ فأما الفقراء الذين يتطلعون إلى ماله، وقد تعلق به حقهم: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)[المعارج: 24-25]، يقول القرطبي: "والحق المعلوم هو الزكاة"، أقول: أما هؤلاء الفقراء فقد أعطاهم حقهم، فصفت له قلوبهم.
ولو أخرج جميع الأغنياء زكاتهم ما جاع فقير، هكذا قال علي بن أبي طالب: "فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما منع غنى، والله سائلهم عن ذلك".
والزكاة صفاء مع الله -عز وجل-؛ فإن المال كله مال الله -تعالى-، وما نحن إلا مستخلفين فيه: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ)[النور: 33]، والله -عز وجل- هو الذي فرض الزكاة وتوعد مانعها، فمن أخرج زكاته فهو مع الله -تعالى- في سلام وفي صفاء، على عكس من منعها.
فقلب المزكي يعيش في صفاء؛ فقد أدى الدليل والبرهان على أنه صحيح الإيمان قوي الثقة في الرزاق -سبحانه وتعالى-، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والصدقة برهان"(رواه مسلم)، وعند أصحاب السنن: "والزكاة برهان"(الترمذي والنسائي وابن ماجه)؛ ومعناه: أن "الصدقة حجة على إيمان فاعلها؛ فإن المنافق يمتنع منها لكونه لا يعتقدها، فمن تصدق استدل بصدقته على صدق إيمانه"(شرح النووي على مسلم).
***
والزكاة إخاء، فهي تطبيق عملي لقول الحبيب النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"(متفق عليه)؛ فعلى وجه الأرض مسلمون جوعى وعراة، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، في أمس الحاجة للمعونة والمساعدة والدعاء، وهم لنا إخوة وجيران وأصدقاء، وقد روى ابن الزبير فقال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع"(رواه البخاري في الأدب، وصححه الألباني).
***
والآن وقد علمنا أن الزكاة نماء وصفاء وإخاء، فلنكن على يقين أن في الزكاة من الحكم والفوائد والبركات أضعاف أضعاف ما ذكرنا، وكفى الزكاة أنها غاية من غايات التمكين في الأرض: قال -تعالى-: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ..)[الحج:41]... وأن الله -تعالى- ما أنزل المال إلا من أجلها؛ فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله قال: إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة"(رواه أحمد، وصححه الألباني)... ومن أجل ذلك عقدنا هذه المختارة؛ ليدلنا الخطباء على ما في الزكاة من خيرات وفضائل وبركات لا تنتهي، فإليك:
التعليقات