عناصر الخطبة
1/شمولية رحمة الله ووسعها 2/مما اختص الله به من أسمائه (الرحمن) 3/من أشكال رحمة الله بخلقه 4/الرحمة سبب لدخول الجنة 5/ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها

اقتباس

إِنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِعِبَادِهِ أَنَّهُ يَتَقَرَّبُ إِلَى خَلْقِهِ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُمْ، وَيَدْنُو مِنْكَ مَتَى مَا دَنَوْتَ إِلَيْهِ؛ فَإِذَ قَرُبْتَ مِنْهُ شِبْـرًا قُرُبَ مِنْكَ ذِرَاعًا، وَإِنْ أَتَيْتَهُ مَاشِيًا أَتَاكَ مُهَرْوِلًا، وَيَقْبَلُكَ مَتَى أُبْتَ إِلَيْهِ، وَيَذْكُرُكَ إِذَا ذَكَرْتَهُ بِاسْمِكَ بَيْنَ مَلَائِكَتِهِ. إِنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ أَنَّهُ يَرْزُقُ مَنْ آذَوْهُ، وَادَّعُوا لَهُ الشَّرِيكَ! وَلَوْ تَكَلَّمْتُ عَنْ آثَارِهَا...

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الحمدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، ونستعينُهُ، ونستغفِرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، مَنْ يهدِ اللهُ فلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ، وَخَلِيلُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا. أمَّا بَعْدُ... فَاتَّقُوا اللهَ- عِبَادَ اللهِ- حقَّ التَّقْوَى؛ واعلَمُوا أنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى. وَاِعْلَمُوا بِأَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِّ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

 

عِبَادَ اللهِ: إِنَّ مِنْ لُطْفِ اللهِ بِنَا أَنَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ، وَمِنْ سَعَةِ رَحْمَتهِ أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)[الأعراف:156]؛ وَسِعَتْ فِي الدُّنْيَا البَرَّ وَالفَاجِرَ، وَهِيَ يَوْمَ القِيَامَةِ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا خَاصَّةً؛ فَرَحْمَةُ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- شَمَلَتْ هَذَا العَالَمَ بِأَسْرِهِ؛ رَحِمَ النَّاسُ بِهَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا، رَحِمَتْ بِهَا الْأُمُّ وَلَدَهَا وَالْأَبُ أَوْلَادَهُ، وَرَحِمَ بِهَا الصِّغَارُ الكِبَارَ، وَالْحَيَوَانُ رَحِمَ بِهَا الْحَيَوَانَ.

 

وَقَدْ تَتَابَعَتِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ عَلَى بَيَانِ سَعَةِ رَحْمَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَقَالَ تَعَالَى: (فَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[البقرة:63-64]، وَقَالَ تَعَالَى: (وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[البقرة:160]، وَقَالَ تَعَالَى: (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الزمر:53]، حَتَّى أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا الرَّحْمَةُ وَدَلَالَاتُهَا تَتَجَاوَزُ الْمِائَتَيْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ -تعالى-. بَلْ وَذُكِرَ اسْمُ الرَّحْمَنِ فِي القُرْآنِ سَبْعَةً وَخَمْسِينَ مَرَّةً، وَاسْمُ الرَّحِيمِ مِائَةَ مَرَّةٍ، وَأَوُّلُ آيَةٍ فِي القُرْآنِ ذُكِرَ فِيهَا الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ فِي كُلِّ سُورَةٍ: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)[الفاتحة:1].

 

فَالرَّحْمَنُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ -سُبْحَانَهُ-، شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ فِي الدُّنْيَا، وَلِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ؛ وَلِذَا لَا يَجُوزُ لِمَخْلُوقٍ قَطُّ أَنْ يُسَمِّيَ نَفْسَهُ بِالرَّحْمَنِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)[الإسراء:110] فَعَادَلَ اللهُ بِهِ الِاسْمَ الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَهُوَ (اللهُ)، وَلِذَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ رَحِيمٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الرَّحْمَنُ. وَلَيْسَ مَقْصُورًا النَّهْيُ عَنْ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ فَقَطْ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ: "وَيَشْمَلُ الْخَالِقَ وَالرَّزَّاقَ وَنَحْوَهُمَا".

 

وَمِنْ دُعَاءِ الصَّالِحِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ)[غافر:7]، وَقَالَ تَعَالَى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)[الأنعام:54]، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: "أَوْجَبَهَا عَلَى نَفْسِهِ الكَرِيمَةِ تَفَضُّلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا وَامْتِنَانًا".

 

وَمِنْ عَجَائِبِ رَحْمَةِ اللهِ بِنَا: مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَنَا حِينَـمَا رَأَى امْرَأَةً وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ، فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ: "أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ" قَالُوا: لاَ، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ، فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ). فَانْظُرْ إِلَى عِظَمِ رَحْمَةِ اللهِ، حَتَّى بَيَّنَ الرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ اللهَ أَرْحَمُ بِعَبْدِهِ مِنْ وَالِدٍ بِوَلِدِهِ. قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: "مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أَمْرِي صَارَ إِلَى وَالِدَيَّ؛ إِنَّ رَبِّي أَرْحَمُ بِي مِنْ وَالِدَيَّ" وَكَلَامُهُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى ثِقَتِهِ بِاللهِ؛ فَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَفِرُّ الْوَالِدُ مِنْ وَلَدِهِ، وَالْوَلَدُ مِنْ وَالِدِهِ.

 

وَلْيَعْلَمِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ شَكٌّ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ وَضَعْفٌ فِي الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ أَنَّ الرَّحْمَةَ الَّتِي أُلْقِيَتْ فِي قَلْبِ وَالِدَيْهِ نَحْوَهُ مَا هِيَ إِلَّا مِنْ آثَارِ رَحْمَةِ اللهِ لَهُ، فَإِذَا كَانَتْ آثَارُ رَحْمَتِهِ نَالَ بِهَا الْوَلَدُ رَحْمَةَ وَالِدَيْهِ؛ فَكَيْفَ بِرَحْمَتِهِ -عَزَّ وَجَلَّ- بِكَ؟ فَثِقْ بِأَنَّ اللهَ أَرْحَمُ بِكَ مِنْ وَالِدَيْكَ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.

 

إِنَّ الْأَبَ وَالْأُمَّ قَدْ يَحْرِمَانِ أَوْلَادَهُمَا مِنْ أُمُورٍ تَتَقَطَّعُ قُلُوبُهُمْ عَلَيْهَا، وَيَبْكُونَ بُكَاءً حَارًّا مِنْ أَجْلِ حُصُولِهِمْ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ مِنْ رَحْمَتِهِمْ بِهِمْ حَرَمُوهُمْ مِنْهَا؛ فَهَلْ يَشُكُّ أَحَدٌ أَنَّ أَبًا يُوقِظُ ابْنَهُ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ مَعَ شِدَّة الْبَرْدِ وَقَسْوَتِهِ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ -أَبَدًا- إِلَّا رَحِيمٌ بِابْنِهِ، وَقَدْ يَنْظُرُ إِلَيْهِ الْجُهَّالُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ شِدَّتِهِ وَقَسْوَتِهِ، يَمْنَعُ الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ أَبْنَاءَهُمْ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ الضَّارَّةِ مِنْ شِدَّةِ رَحْمَتِهِمْ بِهِمْ؛ فإِنَّ مِنَ الرَّحْمَةِ أَنْ تُحْرَمَ مِنْ بَعْضِ مَا تَحِبُّهُ؛ يَفْتَحُ الطَّبِيبُ الْبَطْنَ بِمِشْرَطٍ حَادٍّ، وَتَسِيلُ الدِّمَاءُ بِكَثَافَةٍ مُرَوِّعَةٍ، وَمَا فَعَلَهَا الطَّبِيبُ إِلَّا رَحْمَةً بِالْمَرِيضِ.

 

فَمِنْ رَحْمَتهِ: أَنْ جَعَلَ لَكَ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ، وَالْيَدَ وَالْقَدَمَ، وَالْقَلْبَ وَالْعَقْلَ، وَخَلَقَكَ فَأَحْسَنَ خَلْقَكَ.

 

عِبَادَ اللهِ: إِنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِعِبَادِهِ: أَنَّهُ يَتَقَرَّبُ إِلَى خَلْقِهِ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُمْ، وَيَدْنُو مِنْكَ مَتَى مَا دَنَوْتَ إِلَيْهِ؛ فَإِذَ قَرُبْتَ مِنْهُ شِبْـرًا قُرُبَ مِنْكَ ذِرَاعًا، وَإِنْ أَتَيْتَهُ مَاشِيًا أَتَاكَ مُهَرْوِلًا، وَيَقْبَلُكَ مَتَى أُبْتَ إِلَيْهِ، وَيَذْكُرُكَ إِذَا ذَكَرْتَهُ بِاسْمِكَ بَيْنَ مَلَائِكَتِهِ.

 

إِنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: أَنَّهُ يَرْزُقُ مَنْ آذَوْهُ، وَادَّعُوا لَهُ الشَّرِيكَ وَالنِّدَّ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، يَدَّعُونَ لَهُ الوَلَدَ، ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ). سُبْحَانَ اللهِ! أَدْرَكَتْ رَحْمَتُهُ مَنْ أَشْرَكُوا بِهِ، وَنَالَهَا مَنْ كَفَرُوا بِهِ؛ فَكَيْفَ بِمَنْ أَحَبَّهُ وَأَطَاعَهُ؟! فَمِنْ رَحْمَتِهِ بِالتَّائِبِينَ أَنَّهُ يُحِبُّهُمُ وَيَفْرَحُ بِتَوْبَتِهِمْ. وَمِنْ رَحْمَتهِ أَنَّهُ يُضَاعِفُ الْحَسَنَاتِ، وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ. وَلَوْ تَكَلَّمْتُ عَنْ آثَارِهَا لَمَا وَسِعَتِ الْمُجَلَّدَاتُ بَسْطَهَا.

 

إِنَّ مِنْ آثَارِ رَحْمَةِ اللهِ بِكَ: أَنْ تَرْحَمَ النَّاسَ، وَتَقْضِيَ حَوَائِجَهُمْ، وَأَنْ تَبِرَّ وَالِدَيْكَ، وَأَنْ تَرْحَمَ أَوْلَادَكَ، وَتُحْسِنَ إِلَى جِيرَانِكَ، وَتَرْحَمَ مَنْ تَحْتَ يَدِكَ، تَرْحَمَ الإِنْسَانَ وَالْحَيَوَانَ؛ فَيَرْحَمَكَ اللهُ.

 

وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِعَبْدِهِ: أَنْ يُوَفِّقَهُ لِطَاعَتِهِ؛ يُعِينَهُ عَلَى الصَّلَاةِ، وَالْمُحَافَظةُ عَلَى أَوْقَاتِهَا، وَأَدَاءُ الْعِبَادَاتِ؛ فَرَائِضُهَا وَوَاجِبَاتُهَا وَمُسْتَحَبَّاتُهَا.

 

إِنَّنَا نَرَى قُلُوبًا مِنْ رَحْمَتِهَا أَرَقَّ مِنْ أَفْئِدَةِ الطَّيْرِ، بَعْضُهُمْ قَرِيبُ الدَّمْعَةِ، يُغِيثُ الْمَلْهُوفِينَ، وَيُعِينُ الْمَكْرُوبِينَ، وَيَسْعَى لِتَفْرِيجِ كَرْبِ الْمَكْرُوبِينَ.

 

إِنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِعِبَادِهِ: تَيْسِيرَ مَعَايِشِ الْحَيَاةِ؛ فَكَمْ رَأَيْنَا مِنْ: تَاجِرٍ رَحِيمٍ، وَطَبِيبٍ رَحِيمٍ، وَمُعَلِّمٍ رَحِيمٍ!

 

إِنَّ مِنْ آثَارِ رَحْمَةِ اللهِ: انْتِشَارَ الْأَمْنِ، وَوُجُودَ الْوُلَاةِ، وَوُجُودَ الْأَقَارِبِ وَالْأَصْدِقَاءِ وَالْأَصْحَابِ، إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَرْحَمَ الْعِبَادَ دُونَ أَنْ يُحْوِجَ عَبْدًا إِلَى عَبْدٍ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَخْتَبِرَ الْعِبَادَ وَيَبْتَلِيَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ.

 

إِنَّ اللهَ قَدْ يَبْتَلِي الْعَبْدَ وَهَذَا الِابْتِلَاءُ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ بِهِ؛ فَكَمْ مِنْ رَجُلٍ أَثْرَى ثُمَّ انْكَسَرَ! وَقَدْ يَكُونُ انْكِسَارُهُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِهِ لَعَلَّهُ يَرْجِعُ. وَكَمْ مِنْ أَشْخَاصٍ كَانُوا أَغْنِيَاءَ فَطَغَوْا فِي غِنَاهُمْ، فَانْكَسَرُوا ثُمَّ عَادُوا إِلَى رَبِّهِمْ! كَانُوا لَا يُصَلُّونَ ثُمَّ أَصْبَحُوا مُصَلِّينَ كَانُوا لَا يَتَوَرَّعُونَ عَنِ الْمَحَارِمِ وَأَصْبَحُوا مُتَوَرِّعِينَ، ثُمَّ بَعْدَ مَا عَادُوا إِلَى اللهِ رَحِمَهُمْ؛ فَعَادُوا أَثْرَى مِمَّا كَانُوا، وَبَعْضُهُمْ اسْتَمَرَّ فِي فَاقَتِهِ؛ لَعَلَّ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَتَهُ.

 

عِبَادَ اللهِ: اعْلَمُوا أَنَّ التَّرَاحُمَ مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ الْجَنَّةِ، قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تَرَاحَمُوا" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّنَا رَحِيمٌ. قَالَ: "إِنَّهُ لَيْسَ بِرَحْمَةِ أَحَدِكُمْ وَلَكِنْ رَحْمَةُ الْعَامَّةِ رَحْمَةُ الْعَامَّةِ"(رَوَاه الحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ)، وقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ وَهُوَ يَكْتُبُ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ وُضِعَ عِنْدَهُ عَلَى العَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)؛ فَلَنْ يُعْدَمُوا خَـيْرًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ، رَحْمَتُهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ.

 

وقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللهَ خَلَقَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِائَةَ رَحْمَةٍ كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجَعَلَ مِنْهَا فِي الْأَرْضِ رَحْمَةً، فَبِهَا تَعْطِفُ الْوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَا، وَالْوَحْشُ وَالطَّيْرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَكْمَلَهَا بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ الله-: "هَذَا مِنْ أَحَادِيثِ الرَّجَاءِ وَالْبِشَارَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا كَانَ حَصَلَ لِلْإِنْسَانِ مِنْ رَحْمَةٍ وَاحِدَةٍ الْإِسْلَامُ وَالْقُرْآنُ، وَالصَّلَاةُ، وَالرَّحْمَةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا أَنْعَمَ اللهُ -تعالى- بِهِ؛ فَكَيْفَ الظَّنُّ بِمِائَةِ رَحْمَةٍ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَهِيَ دَارُ الْقَرَارِ وَدَارُ الجَزَاءِ، وَاللهُ أَعْلَمُ؟!".

 

وقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَوْ تَعْلَمُونَ قَدْرَ رَحْمَةِ اللهِ لَاتَّكَلْتُمْ، وَمَا عَمِلْتُمْ مِنْ عَمَلٍ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ قَدْرَ غَضَبِهِ، مَا نَفَعَكُمْ شَيْءٌ"(رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ).

 

وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ"(رَوَاه أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيح)ٍ.

 

قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ- رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "اللَّهُمَّ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَهْلًا أَنْ أَبْلُغَ رَحْمَتَكَ؛ فَإِنَّ رَحْمَتَكَ أَهْلٌ أَنْ تَبْلُغَنِي، رَحْمَتُكُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وَأَنَا شَيْءٌ، فَلْتَسَعْنِي رَحْمَتُكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اللَّهُمَّ إِنَّكَ خَلَقْتَ قَوْمًا فَأَطَاعُوكَ فِيمَا أَمَرْتَهُمْ، وَعَمِلُوا فِي الَّذِي خَلَقْتَهُمْ لَهُ، فَرَحْمَتُكَ إِيَّاهُمْ كَانَتْ قَبْلَ طَاعَتِهِمْ لَكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ"(حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ لِأَبِي نُعَيْمٍ).

 

وقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ لاَ يَرْحَمْ لاَ يُرْحَمْ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ).

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: "فِيهِ الْحَضُّ عَلَى اسْتِعْمَالِ الرَّحْمَةِ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ فَيَدْخُلُ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالْبَهَائِمُ الْمَمْلُوكُ مِنْهَا وَغَيْرُ الْمَمْلُوكِ، وَيَدْخُلُ فِي الرَّحْمَةِ التَّعَاهُدُ بِالْإِطْعَامِ، وَالسَّعْيُ، وَالتَّخْفِيفُ فِي الْحِمْلِ، وَتَرْكُ التَّعَدِّي بِالضَّرْبِ".

 

عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الرَّحْمَةَ الَّتِي نَرَاهَا فِي هَذَا الْكَوْنِ الْوَاسِعِ هِيَ أَثَرٌ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ؛ فَالرَّبُّ رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ، وَالْعَبْدُ الَّذِي دَخَلَ فِي نِطَاقِ الْعُبُودِيَّةِ وَخَضَعَ لِأَقْدَارِ اللهِ؛ سَوَاءٌ أَكَانَ مُسْلِمَا أَمْ كَافِرًا؛ فَإِنَّ رَحْمَةَ اللهِ تُصِيبُهُ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَهِيَ خَالِصَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ.

 

عِبَادَ اللهِ: إِنَّ مِنْ عَجَائِبِ الرَّحْمَةِ أَنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَدْ تُصِيبُكَ مِنْ عَدُوٍّ أَرَادَ أَنْ يَضُرَّكَ؛ فَكَانَ سَعْيُهُ بِالْإِضْرَارِ سَبَبًا لِأَنْ يَرْحَمَكَ اللهُ، فَـجَعَلَ مَكْرَهُ يَحِيقُ بِهِ (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)[آل عمران:174].

 

إِنَّ مِنَ الْإِيمَانِ بِرَحْمَةِ اللهِ أَنْ تَرْحَمَ النَّاسَ وَأَنْتَ مُحْتَاجٌ لِرَحْمَةِ النَّاسِ، فَإِذَا كَانَ اللهُ يَرْحَمُكَ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْكَ فَكَيْفَ لَا تَرْحَمُ عِبَادَهُ وَأَنْتَ فَقِيرٌ إِلَى رَبِّكَ؟!

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدَهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلَهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً.

 

أمَّا بَعْدُ: فَاِتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التَّقْوَى، وَاِسْتَمْسِكُوا مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَاِعْلَمُوا أَنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى.

 

عِبَادَ اللهِ: لَا يَسْتَطِيعُ كَائِنًا مَنْ كَانَ مِنْ إِنْسٍ أَوْ جَانٍّ أَنْ يَحْجُبَ رَحْمَةً أَوْ يَمْنَعَهَا عَنْ خَلْقِ اللهِ، قَالَ تَعَالَى: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[فَاطِرٍ:2]؛ فَرَحْمَةُ اللهِ أَدْرَكَتْ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ فِي لَهِيبِ النَّارِ، وَوَقَى اللهُ بِهَا يُوسُفَ وَهُوَ فِي غَيَابَاتِ الْجُبِّ، وَنَالَتْهَا هَاجَرُ وَوَلِيدُهَا فِي وَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، وَحَصَّلَهَا يُونُسُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، وَأَنْقَذَ اللهُ بِهَا مُوسَى الرَّضِيعَ وَهُوَ فِي الْيَمِّ، مِنْ شَرِّ فِرْعَوْنَ، وَأَنْجَى اللهُ بِهَا أَصْحَابَ الْكَهْفِ، وَأَنْجَى اللهُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ مِنَ الذَّبْحِ، وَأَدْرَكَتْ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَاحِبَهُ الصِّدِّيقَ فِي الْغَارِ، وَلَوِ اسْتَطْرَدْتُ فِي ضَرْبِ الأَمْثِلَةِ لَطَالَ الْمَقَامُ. الَّلهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ.

 

الَّلهُمَّ احْمِ بِلَادَنَا وَسَائِرَ بِلَادِ الإِسْلَامِ مِنَ الفِتَنِ، وَالمِحَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن.

 

الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا، لِمَا تُحِبُ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، الَّلهُمَّ اجْعَلْهُ سِلْمًا لِأْوْلِيَائِكَ، حَرْباً عَلَى أَعْدَائِكَ.

 

الَّلهُم ارْفَعْ رَايَةَ السُّنَّةِ، وَأَقْمَعْ رَايَةَ البِدْعَةِ، الَّلهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَ أَهْلِ الإِسْلَامِ فِي كُلِّ مَكَانٍ.

 

اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.

 

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ.

 

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مَا سَأَلَكَ مِنْهُ عِبَادُكَ الصَّالِحُونَ، ونَسْتَعِيذُ بِكَ مِمَّا اسْتَعَاذَ مِنْهُ عِبَادُكَ الصَّالِحُونَ.

 

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة:201]، (رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ)[آل عمران:١٩٤].

 

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ * وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ)[الصافات:180-182].

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...

المرفقات
الرحمة.doc
التعليقات
خديجة الجزائر
13-06-2018

بارككم الله على نشر الخير في ارجاء المعمورة ملاحظة اعجبتني تسهيل صفحة من الصفحات على الانرويد عبر الوارد..لانه غالبا لا نجد هذه الخاصية في باقي المنتديات عدى تنزيل كامل الكتاب مما يسبب ضغط وتحيل كبير على الجهاز ..بسبب الحاجة لجزئية بسيطة فقط منه..فضلا عن تخطي روتين النسخ واللصق في الوارد ..فالامر ميسر جدا.. جزاكم الله خيرا..ونفع بكم الامة الاسلامية جمعاء..

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life