عناصر الخطبة
1/القرآن يدعو للفضائل 2/مساوئ البخل 3/ذم البخل والبخلاء 4/من أنواع البخل 5/من أسوأ أصناف البخلاء.اقتباس
من أسوأ أصناف البخلاء أولئك الذين لا يقفُ بخلُهم عندَ أنفسهم، بل يَتَعَدّون ذلك ليصبحوا دُعاةً للبخل وشداة له، فيأمرون النَّاس بالبخل بقيلهم أو حالهم، ويبخلون بمالهم وجاههم وسلامهم وأمرهم بالمعروف، فهُم كمن أبغض الجود حتى لا يحبّون أن يُجَاد...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
عباد الله: كتاب الله -تعالى- إن كان مصدراً للعقائد والشرائع، فهو مبعث للأخلاق السَّنية، ومنبع للآداب المرعية، لتتكامل الشخصية الإسلامية، وتستقيم الحياة الدينية والدنيوية، إذ الدين وكمال الحياة، محصور في الوفاء بحق الله -تعالى-، وأداء حقوق خلق الله، قال -تعالى-: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)[الليل:5-10].
عباد الله: من الأخلاق المذمومة، والخصال المعيبة، التي تزري بالسمعة، وتؤثر على كل فضيلة، وتجلب كل رذيلة... خلق البخل، وحقيقته: منع ما لا ينفع منعه ولا يضر بذله، إذ هو بوابة المكروهات، ومبعث الشرور والسيئات، قال الإمام الماوردي: "قَدْ يَحْدُثُ عَن الْبُخْلِ مِنَ الأخْلاَقِ الْمَذْمُومَةِ، وَإِنْ كَانَ ذَرِيعَةً إلَى كُلِّ مَذَمَّةٍ، أَرْبَعَةُ أَخْلاَقٍ، نَاهِيكَ بِهَا ذَمًّا، وَهِيَ: الْحِرْصُ، وَالشَّرَهُ، وَسُوءُ الظَّنِّ، وَمَنْعُ الْحُقُوقِ،... وَإِذَا آلَ الْبَخِيلُ إلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ هَذِهِ الأخْلاَقِ الْمَذْمُومَةِ، وَالشِّيَمِ اللَّئِيمَةِ، لَمْ يَبْقَ مَعَهُ خَيْرٌ مَرْجُوٌّ، وَلاَ صَلاَحٌ مَأْمُولٌ"(أدب الدنيا والدين).
ولا غرو فقد جاء الآيات الكريمات متكاثرة في التحذير منه، والتشديد فيه، من بين سائر الأخلاق السيئة، وذلك في سبعة مواضع من كتاب الله -تعالى-، قال -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ)[النساء:36-37]، وكان من دعائه -عليه الصلاة والسلام-: "اللهمّ إنّي أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أردّ إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدّنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر"(رواه البخاري).
عباد الله: إن ذم البخل والبخلاء، ومقت هذه الخلة؛ لأن المتصف بها يحرم نفسه فضلاً أسدي إليه، وخيراً أعطاه الله إياه، لم ينله بكده، أو يحققه بقوته، لولا توفيق الله -تعالى- له! فَلِمَ البخل والإمساك، مع وعد من الكريم المعطي -سبحانه- بالخلف والبركة؛ (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)[سبأ:39].
فمن يحرم نفسه فهو المحروم، ومن يبخل فهو لسوء طويته، وفساد سجيته، فهو داء يستوجب الدواء، وعلة تستحق التشخيص والعلاج، قَالَ -تعالى-: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[آل عمران:180]، قال ابن سعدي -رحمه الله-: "أي: ولا يظن الذين يبخلون أي: يمنعون ما عندهم مما أتاهم الله من فضله من المال، والجاه، والعلم وغير ذلك، مما منحهم الله وأحسن إليهم به، وأمرهم ببذل ما لا يضرهم منه لعباده، فبخلوا بذلك وأمسكوه وضنوا به على عباد الله، وظنوا أنه خير لهم بل هو شر لهم في دينهم، ودنياهم، وعاجلهم، وآجلهم".
عباد الله: البخل ينفّر الناس منه، ويترفع العقلاء عنه، وتمجّه النفوس السوية، وتأبه الأخلاق العلية، ويكفي منه أنه خلة كلّ يتبرأ منها، ويغضب المرء إن وُصِفَ بها، لاشتمالها على سوء ظن، وتوقع شر، وقلة خير، وأنانية مقيتة، ولكن ثمت صفات وخلال إن لابسها المرء وتخلق بها، فهو البخيل، فليعرضها المرء على نفسه، ويراجع بها خُلُقه وسلوكه.
فمن بخل بماله على نفسه ومنعها من مداواة وعلاج وحق واجب فهو البخيل، قال ابن قدامة: "أشدُّ درجاتِ البخل: أن يبخل الإنسانُ على نفسِهِ مع الحَاجة، فكم من بخيل يمسك المالَ، ويمرض فلا يتداوى، ويشتهى الشهوةَ فيمنعه منها البخلُ"(مختصر منهاج القاصدين).
ومن تخلف عن أداء واجب النفقة بالمعروف على زوجه وولده وأهل بيته، أو تحايل على زكاة ماله وصدقته المفروضة، أو تكاسل في بذل خيره لذوي رحمه والأقربين منه فهو البخيل، قال -تعالى-: (هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)[محمد:38]، وفي الحديث قال -عليه الصلاة والسلام-: "ما من ذي رحِمٍ يأتِي ذا رحِمَه فيسألُه فضلاً أعطاه اللهُ إياه فيبخلُ عليه إلا أخرج اللهُ له يومَ القيامةِ من جهنمَ حيةً يُقالُ لها شجاعٌ فيطوقُ به"(رواه المنذري بسند حسن).
ومن بخل بتحيَّة السَّلام على من يلقاه ابتداء أو ردًّا، فهو البخيل، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "إن أعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل النَّاسِ مَن بخلَ بالسَّلَام"(رواه الطبراني)، واستعمال صيغة أفعل تدلُّ على شدة بخل من يبخل بما لا يكلِّفُه من ماله شيئاً.
ومن أنواع البخل: أن يبخل المسلم بالصَّلاة على الحبيب -صلى الله عليه وسلم- عند ذِكْره، فعن عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "البَخِيلُ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ"(رواه الترمذي)؛ فمن لم يصلِ على النَّبي -صلى الله عليه وسلم- إذا ذُكِرَ عندَه؛ فقد منعَ نفسَهُ أن يُكتال لها يوم القيامة بالمكيال الأوفى، فهل تجد أحدًا أبخل من هذا.
ومن أنواع البخل: أن لا يُعطِي الإنسانُ من مال الله الذي أكرمه به إلَّا عن طريق النَّذر، وهو أن يلزم نفسَه بما لا يجب عليه خوفاً أو طمعاً، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يأتي ابنَ آدمَ النذرُ بشيء لم يكن قُدِّرَ له، ولكن يُلقِيه النذرُ إلى القَدَرِ قَدْ قُدِّرَ له، فيستخرج اللهُ به منَ البَخِيْل، فيؤتى عليه ما لم يكن يؤتى عليه من قبل"(رواه البخاري).
والواقع أنَّ النَّذر لا يغيِّر شيئاً من قدر الله -تعالى-؛ لأنَّ ما قدَّره اللهُ كائن، ولكنَّ البخيل من النَّاس هو من يجعل قيامَه ببعض الأعمال الصالحة من صدقة أو صوم مرهونة بدفع مخوفٍ منه، أو تحقيق مطموعٍ فيه.
ومن أنواع البخل أن يرى المسلم منكراً فلا ينهى عنه، أو معروفًا فلا يأمر به، بدعوى الحرية الشخصية أو عدم التدخل في شؤون الآخرين، باخلاً بفضل الله ومنّته عليه، وهدايته للطريق الحق، والعمل الصالح، وفي الحديث: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"(رواه مسلم).
فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
عباد الله: من أسوأ أصناف البخلاء أولئك الذين لا يقفُ بخلُهم عندَ أنفسهم، بل يَتَعَدّون ذلك ليصبحوا دُعاةً للبخل وشداة له، فيأمرون النَّاس بالبخل بقيلهم أو حالهم، ويبخلون بمالهم وجاههم وسلامهم وأمرهم بالمعروف، فهُم كمن أبغض الجود حتى لا يحبّون أن يُجَاد، وهي النِّهاية في الحِرص والبخل، ولا يكتفون بذلك بل ربما تظاهروا بالحاجة والفقر أو ادعاء العقل والاتزان، ويُخْفُون نِعَمَ الله التي أنعَمَ بها عليهم؛ ولذا جاء تخصيصهم بالذم والوعيد، قال -تعالى-: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)[الحديد:24].
فاللهم اجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر.
هذا وصلوا وسلموا....
التعليقات