عناصر الخطبة
1/شرح حديث الذكر المضاعف 2/فضل الذكر والدعوة إليهاقتباس
تَنْزِيهُ الْخَالِقِ وَحَمْدُهُ زِنَةَ عَرْشِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَزِنَةُ الْعَرْشِ لاَ يُمْكِنُ لأَحَدٍ أَنْ يُقَدِّرَ قَدْرَهُ، أَوْ يَبْلُغَ وَزْنَهُ! فَهُوَ أَعْظَمُ مَخْلُوقَاتِ اللهِ وَأَكْبَرُهَا وَأَثْقَلُهَا...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الذِّكْرَ مِنَ الدِّينِ، وَأَعْلَى بِهَا شَأْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَثْقَلَ بِهَا الْمَوَازِيِنَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَاحِبُ الْخُلُقِ الْقَوِيمِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِ بَيْتِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ، وَعَلَى أَصْحَابِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أُمِّ المؤمِنينَ جُوَيْرِيةَ بنتِ الْحَارِثِ -رَضيَ اللهُ عَنْهَا-: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً، حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى، وَهِيَ جَالِسَةٌ، فَقَالَ: "مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟" قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ".
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ فَضِيلَةِ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الذِّكْرِ الْمُضَاعَفِ، وَالَّذِي يَزِنُ وَيَتَرَجَّحُ عَلَى جَمِيعِ مَا قَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَذْكَارٍ طُوَالَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الَّتِي قَضَتْهَا فِي مُصَلاَّهَا؛ لأَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا وَهِيَ تُسَبِّحُ وَرَجَعَ إِلَيْهَا قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ وَهِيَ تُسَبِّحُ، فَأَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَهَا ذِكْرًا لَوْ وُزِنَ بِمَا قَالَتْ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ؛ فَقَالَ لَهَا: "سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ".
فَقَوْلُهُ: "سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ" فِيهِ تَنْزِيهُ الْخَالِقِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ، وَوَصْفُهُ بِالْكَمَالِ الْمُطْلَقِ.
وَقَوْلُهُ: "عَدَدَ خَلْقِهِ"؛ أَيْ: عَدَدَ مَا خَلَقَ مِمَّنْ كَانَ، وَمِمَّنْ هُوَ كَائِنٌ مِنَ الآدَمِيِّينَ، وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْحَيَوَانِ وَسَائِرِ مَخْلُوقَاتِهِ مِمَّنْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ، وَمِمَّا خَلَقَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهَذَا مَا لاَ يُمْكِنُ لأَحَدٍ تَصَوُّرُهُ فَضْلاً عَنْ عَدِّهِ.
وَقَوْلُهُ: "وَرِضَا نَفْسِهِ"؛ أَيْ: تَنْزِيهُ الْخَالِقِ وَحَمْدُهُ حَمْدًا لأَبْلُغَ بِهِ رِضَا اللهِ سُبْحَانَهُ، وَالْفَوْزَ بِجَنَّتِهِ؛ وَهَذَا حَالُ الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ الَّذِي يُقَدِّمُ نَفْسَهُ لِأَجَلِ رِضَا مَعْبُودِهِ وَخَالِقِهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)[البقرة:207]
وَقَوْلُهُ: "وَزِنَةَ عَرْشِهِ" أَيْ: تَنْزِيهُ الْخَالِقِ وَحَمْدُهُ زِنَةَ عَرْشِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَزِنَةُ الْعَرْشِ لاَ يُمْكِنُ لأَحَدٍ أَنْ يُقَدِّرَ قَدْرَهُ، أَوْ يَبْلُغَ وَزْنَهُ! فَهُوَ أَعْظَمُ مَخْلُوقَاتِ اللهِ وَأَكْبَرُهَا وَأَثْقَلُهَا؛ قَالَ تَعَالَى: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)[النمل:26]، وَقَالَ تَعَالَى: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)[المؤمنون:116]، وَقَالَ تَعَالَى: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ)[البروج:14-15]، وَقَالَ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ فِي الْكُرْسِيِّ -أَيْ: بِالنِّسْبَةِ لِكُرْسِيِّ اللهِ- إِلاَّ كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ فِي فَلاَةٍ -أَيْ: فِي صَحْرَاءَ مِنَ الأَرْضِ- قَالَ: وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلاَةِ عَلَى تِلْكَ الْحَلْقَةِ"(رواه ابن حبان في صحيحه).
وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْكُرْسِيِّ، وَفَوْقَ كُلِّ الْمَخْلُوقَاتِ، عَلَيْهِ اسْتَوَى رَبُّنَا اسْتِوَاءً يَلِيقُ بِجَلاَلِهِ، قَالَ تَعَالَى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)[طه:5].
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "الْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ، وَالْعَرْشُ لَا يُقَدِّرُ أَحَدٌ قَدْرَهُ" وَالْعَرْشُ لَهُ قَوَائِمُ، وَيَحْمِلُهُ حَمَلَةٌ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ عِظَامُ الْخَلْقِ، قَالَ تَعَالَى: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ)[الحاقة: 17].
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلاَئِكَةِ حَمَلَةِ الْعَرْشِ؛ إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ"(رواه أبو داود، وصححه الألباني).
وَقَوْلُهُ: "وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ"؛ أَيْ: تَنْزِيهُ الْخَالِقِ وَحَمْدُهُ بِعَدَدِ كَلِمَاتِ اللهِ سُبْحَانَهُ، وَكَلِمَاتُ اللهِ تَعَالَى لاَ يُقَارَنُ بِهَا شَيْءٌ، وَلاَ يُنْفِدُ مِدَادَهَا أَحَدٌ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا)[الكهف: 109]، وَقَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[لقمان: 27] وَالْمَعْنَى: أَنْ لَوْ أَنَّ أَشْجَارَ الأَرْضِ كُلَّهَا بُرِيَتْ أَقْلاَمًا وَالْبَحْرُ مِدَادٌ لَهَا، وَيُمَدُّ بِسَبْعَةِ أَبْحُرٍ أُخْرَى، وَكُتِبَ بِتِلْكَ الأَقْلاَمِ وَذَلِكَ الْمِدَادِ كَلِمَاتُ اللهِ، لَتَكَسَّرَتْ تِلْكَ الأَقْلاَمُ، وَلَنَفِدَ ذَلِكَ الْمِدَادُ، وَلَمْ تَنْفَدْ كَلِمَاتُ اللهِ التَّامَّةُ الَّتِي لاَ يُحِيطُ بِهَا أَحَدٌ.
فَهَذَا الذِّكْرُ وَالتَّسْبِيحُ عَظِيمٌ بِالْكِمِّيَّةِ بِكَوْنِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، وَعَظِيمٌ بِالثُّقْلِ بِكَوْنِهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، وَعَظِيمٌ بِالْكَثْرَةِ بِكَوْنِهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ، وِلِعَظَمَتِهِ وَفَضْلِهِ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ الإِكْثَارُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ لِيَحْصُلَ عَلَى رِضَا رَبِّهِ، وَحَيَاةِ قَلْبِهِ، وَمَغْفِرَةِ ذَنْبِهِ؛ قَالَ تَعَالَى: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 35].جَعَلَنَا اللهُ مِنَ الذَّاكِرِينَ لَهُ حَقًّا، وَالْمُحَافِظِينَ عَلَى طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ صِدْقًا، وَأَعَانَنَا عَلَى ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَحُسْنِ عِبَادَتِهِ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَزْكَى الأَعْمَالِ وَخَيْرَ الْخِصَالِ وَأَحَبَّهَا إِلَى اللهِ ذِي الْجَلاَلِ ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى؛ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟!" قَالُوا: بَلَى، قَالَ: "ذِكْرُ اللهِ"(رواه الترمذي وصححه الألباني).
فَكُونُوا -عِبَادَ اللهِ- مِنَ الذَّاكِرِينَ للهِ تَعَالَى، السَّابِقِينَ إِلَى رَبِّكُمْ وَالدَّارِ الآخِرَةِ؛ الَّذِينَ أَعَدَّ اللهُ لَهُمُ الْمَنْزِلَةَ الْكَرِيمَةَ وَالدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ مِنَ الْجَنَّةِ: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 35].
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"(رَوَاهُ مُسْلِم).
التعليقات