عناصر الخطبة
1/يسر الإسلام وسماحته 2/من مظاهر التيسير في الإسلام 3/من فوائد التيسير وثمراته 4/حقيقة الاقتصاد في العبادة 5/أهمية محاسبة النفس.اقتباس
عجبًا ممن يطولُ عمره ويزداد ذنبه، يبيضُّ شعره ويسودُّ قلبه، يسعى بقدميه إلى التفريط والإجرام، ناسيًا نزول الموت وحلول الأجل، وشدة الكرب وانقطاع العمل....
الخطبةُ الأولَى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومن سار على نهجه، واقتفى أثره، إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْدُ: فاتَّقُوا اللهَ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلمونَ)[آل عمران: 102].
معشرَ الإخوة: إنَّ من فضلِ الله على هذه الأمة أنْ جعل شريعتَها سمحةً ميسرةً، وما جعل علينا في الدين من حَرَجٍ، قال -تعالى-: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)[البقرة:286].
وقوله: (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا)؛ أي: تكاليفَ مشقة، (كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا)، وقد فعل -تعالى-، فإن الله خفَّف عن هذه الأمة في الأوامر من الطهارات وأحوال العبادات ما لم يخفِّفْه على غيرها.
وقد قال الإمام البخاري: باب الدين يسر وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللهِ الْحَنِيفَةُ السَّمْحَةُ"، ثم روى عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ"(أخرجه البخاري: رقم 39).
وفي رواية: "لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ"، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ، سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ مِنْ الدُّلْجَةِ، وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا"(صحيح البخاري: 6098).
قال ابن بطال: "والمراد بهذا الحديث الحَضُّ على الرِّفق في العمل، وهو كقوله -صلى الله عليه وسلم-: "عَلَيْكُمْ مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ"، وقوله: "أَبْشِرُوا"؛ يعني بالأجر والثواب على العمل، وقوله: "وَاسْتَعِينُوا بِالغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ"، كأنه خاطب مسافرًا يقطع طريقَه إلى مقصدِه، فنبَّهه على أوقات نشاطه التي يزكو فيها عملُه؛ لأن الغدو والرواح والدلجة أفضل أوقات المسافر فنَبَّه أُمّته أن يغتنموا أوقات فرصتهم وفراغهم"(شرح صحيح البخاري لابن بطال: 1/96).
وقال السعدي -رحمه الله-: "ما أَعْظَمَ هذا الحديث، وأَجْمَعَهُ للخير والوصايا النافعة، والأصول الجامعة. فقد أسّس -صلى الله عليه وسلم- في أوله هذا الأصل الكبير، فقال: "إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ"؛ أي: ميسَّر مُسهَّل في عقائده وأخلاقه وأعماله، وفي أفعاله وتُروكه، فإن عقائده التي ترجع إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقَدَر خيره وشره؛ هي العقائد الصحيحة التي تطمئن لها القلوب، وتُوصِّل مقتديها إلى أَجَلِّ غاية وأفضل مطلوب.
وأخلاقه وأعماله أكمل الأخلاق، وأصلح الأعمال، بها صلاح الدين والدنيا والآخرة. وبفواتها يفوت الصلاح كله، وهي كلها ميسَّرة مسهّلة، كل مُكلّف يرى نفسه قادرًا عليها لا تشق عليه، ولا تكلفه، عقائده صحيحة بسيطة. تقبلها العقول السليمة، والفطر المستقيمة. وفرائضه أسهل شيء.
ثم ختم الحديث بوصية خفيفة على النفوس، وهي في غاية النفع، فقال: "وَاسْتَعِينُوا بِالغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ"، وهذه الأوقاتُ الثلاثة كما أنها السببُ الوحيد لقطعِ المسافات القريبة والبعيدة في الأسفار الحسِّية، مع راحة المسافر، وراحة راحلته، ووصوله براحة وسهولة، فهي السببُ الوحيد لقطع السفر الأُخروي، وسلوك الصراط المستقيم، والسير إلى الله سيرًا جميلاً.
فمتى أخذ العامل نفسَه، وشغلها بالخير والأعمال الصالحة المناسبة لوقته -أوّل نهاره وآخر نهاره وشيئًا من ليله، وخصوصًا آخر الليل- حصلَ له من الخير ومن الباقيات الصالحات أكمل حظ، وأوفر نصيب، ونال السعادةَ والفوز والفلاح، وتم له النجاح في راحة وطمأنينة، مع حصول مقاصده الدنيوية، وأغراضه النفسية.
وهذا من أكبر الأدلة على رحمة الله بعباده بهذا الدين الذي هو مادة السعادة الأبدية؛ إذ نصبه لعباده، وأوضحه على ألسنة رسله، وجعله ميسرًا مسهلاً، وأعان عليه مِن كل وجه، ولطف بالعاملين، وحفظهم من القواطع والعوائق"(بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار: 1/106-111).
وروى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَا النبي -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ فَسَأَلَ عَنْهُ؛ فَقَالُوا أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ، وَلاَ يَقْعُدَ، وَلاَ يَسْتَظِلَّ، وَلاَ يَتَكَلم وَيَصُومَ، فَقَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مُرْهُ فَلْيَتَكَلم وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ"(صحيح البخاري: 6326).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لمنْ يَخْشَى)[طه:1 - 3].
بَاركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعني وإياكُم بما فيه من الآياتِ والذِّكر الحكيم، أقولُ ما سَمِعْتُم، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه.
أمَّا بَعْدُ: معشرَ الإخوة: وليعلم أن من أعظمِ عوائد هذا التيسير: دوامَ العمل وعدمَ الضَّجَر والملَل، وفي الحديث الذي رواه البخاريُّ ومسلم من حديث عن عائشة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ، قَالَ: "مَنْ هَذِهِ"؟ قالتْ: فُلَانَةُ، تَذْكُرُ مِنْ صَلَاتِهَا، قَالَ "مَهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللهِ لَا يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا". وكان أَحَب الدِّينِ إليه ما داومَ عليهِ صاحبُه وإنْ قَلَّ.
وفي مسند أحمد عن مِحْجَنِ بن الأدرعِ قال: أقبلت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا كنا بباب المسجد إذا رجل يصلي، قال قلت: يا نبي الله، هذا فلان، وهذا من أحسن أهل المدينة أو من أكثر أهل المدينة صلاةً، قال: "لَا تُسْمِعْهُ فَتُهْلِكَهُ -مرتين أو ثلاثا- إِنَّكُمْ أُمَّةٌ أُرِيدَ بِكُمُ الْيُسْرُ"(مسند أحمد 20362). وفي رواية له: "إنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُه، إنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ"، وفي روايةٍ له -أيضا- قال: "إِنَّكُمْ لَنْ تَنَالُوا هَذَا الْأَمْرَ بِالمغَالَبَةِ".
قال الإمام النووي -رحمه الله-: "والأمرُ بالاقتصادِ في العبادة وهو أن يأخذَ منها ما يُطيق الدوامَ عليه، وأمر من كان في صلاة فتركها ولحقه مَلَلٌ ونحوه بأن يتركها حتى يزول ذلك، وقوله: "عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ"؛ أي تطيقون الدوامَ عليه بلا ضررٍ، وفيه دليل على الحَثِّ على الاقتصاد في العبادة واجتنابِ التعمق، وليس الحديث مختصًّا بالصلاة، بل هو عامٌّ في جميع أعمال البر"(المنهاج شرح صحيح مسلم: 6/70-71).
أيها الإخوة: ومع يُسْرِ هذا الدِّين، إلا أنَّ من أهل الإسلامِ من ثَقُلَتْ عليه الواجباتُ، وضيَّع الصلواتِ المفروضاتِ، وأضاعَ حقوقَ العبادِ، وليس هذا عن ضعفٍ في قُواه أو عجزٍ عن الالتزام، كَلَّا، ها هو يقطعُ المفاوزَ ويسهر الليالي ويدفع الأموال لتلبية هواه، مع أن ما تشتهيه نفسُه أضعافَ أضعاف ما كلَّفه الله -جل وعلا-؛ أفلا يحاسبُ الإنسان نفسَه ويردعها عن غَيِّها؟!
قال الحسن -رحمه الله-: "إنَّ المؤمنَ -واللهِ- ما تراهُ إلا يلومُ نفسهُ على كلِّ حالاته، يستقصرها في كل ما يفعل، فيندمُ ويلومُ نفسَهُ، وإنَّ الفاجرَ ليمضي قُدُمًا لا يعاتبُ نفسَه"(إغاثة اللهفان: 1/77).
قال ابن القيّم -رحمه الله-: "وهلاكُ القلب من إهمالِ محاسبَتِها -أي: النفس- ومِن مُوافَقَتِها واتِّباعِ هواها"(إغاثة اللهفان: 1/78).
فعجيبٌ حال هذا الغافل، يبحث عن هوى النفس وما درى أنه في عذابها ونكدها، ولذة الإيمان والتدين لا تشبه لذة الحرام والشهوة؛ لأن لذة الإيمان لذة قلبية روحية، أما لذة الحرام فهي لذة شهوانية جسدية، ويعقبها من الآلام والحسرات أضعاف ما نال صاحبها من المتعة، ولله دَرّ من قال:
تَفنى اللَذاذَةُ مِمَّن نالَ صَفوَتَها *** مِنَ الحَرامِ وَيَبقى الإِثمُ وَالعارُ
تَبقى عَواقِبُ سوءٍ في مَغَبَّتِها *** لا خَيرَ في لَذَةٍ مِن بَعدِها النارُ
عجبًا ممن يطولُ عمره ويزداد ذنبه، يبيضُّ شعره ويسودُّ قلبه، يسعى بقدميه إلى التفريط والإجرام، ناسيًا نزول الموت وحلول الأجل، وشدة الكرب وانقطاع العمل.
التعليقات