عناصر الخطبة
1/كثرة مصائب المسلمين ومآسيهم 2/ أهمية الدعاء والحاجة إليه 3/ أثر الدعاء ودوره في تفريج الكربات 4/ شروط إجابة الدعاء 5/ المحروم من حرم الدعاءاهداف الخطبة
اقتباس
إنه باب لا يحتاج إلى وساطات, بل هو مفتوح لكل من سأل, كم من عبد أَضناه الهم، وأقعده المرض، وحار الطب في علاجه، وعجز البشر عن رفع بلائه, فرفع يديه إلى الكريم, وتوجه إلى الذي يقول للشيء كن فيكون، فجاء الشفاء، وارتفع البلاء؟! أيوب -عليه السلام- مسه الضر, و...
الخطبة الأولى:
الحمد لله العالم بالبواطن والجليات، المطلع على مكنون الصدور والخفيات, يعلم السر وأخفى، ويكشف الضر والبلوى, الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهدت له بالربوبية جميع الموجودات، وأذعن له بالألوهية خلاصة المخلوقات, واتصف سبحانه بأكمل الصفات.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل الرسل، وسيد البريات، اللهم صل وسلم عليه وعلى أصحابه أهل السرائر الصافيات، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
زمن يفيض بالعجائب، ويعج بالأحداث, زمن تسمع فيه كل يوم جديداً، وحدثٍ من الأحداث غريباً, فتن تقض المضاجع, وقتل يثير الفواجع, هرج ومرج, أحداث تسر وأخرى تسوء, بشائر تفرح لها النفوس، وأخبار تدمع لها العيون, تلك سمة الوضع في كثير من بلاد المسلمين, بل تلك سمة الوضع في الأرض اليوم وكل يوم, فهي الدنيا دار بلاء ومداولة حتى يرحل الناس إلى الآخرة.
وما أقض مضاجع الكثير ما ألمَّ بفئام من المسلمين من قتل واعتداء, رأى الناس تلك المشاهد والدماء, وذلك القصف، وتلك الأشلاء, لأقوام من إخواننا في صقع من الأرض, كم ذرفت لذلك الأمر أدمع، ورفعت بالدعاء أكف, ومن منّا من لا يتحرك قلبه وهو يرى حال المسلمين هناك أو حال المسلمين في فلسطين أو العراق أو غيرها من الأصقاع, وحين رأيت ذلك تذكرت أمراً نحن بأمس الحاجة إلى التأكيد عليه, والتذكير به في كل يوم وحدث, بل وفي كل زمان ومكان, نحتاجه لصلاح ديننا واستقامة دنيانا, فهل تدرون أي شيء هذا؟ إنه الحصن والسلاح واللجأ إلى الإله الفتاح، إنه الدعاء واللجأ إلى رب الأرض والسماء.
حينما تتأزم الأمور، وتنغلق الأبواب، وتتعذر الأحوال، وتنقطع السبل، فلا ملجأ للعبد ولا مفر للمرء ولا ملاذ للؤمن إلا إلى الله وبالله، ومن غير الله؟ من غير الله يفرج الكربات، ويكشف البليات؟ من غير الله يجيب الدعوات ويغيث اللهفات؟ من رأى تقليب الله الأمور، وتصريف الخلائق، عرف وأيقن أنه لا عزيز حقٌ إلا الله, ولا قادرَ إلا هو, ولا رب إلا هو, وأنه بقدر ذُلِّك لله وقربك منه، وانطراحك بين يديه، بقدر ما ترتفع وتعلو, ولا فرق أمام الذل لله بين أمير ومأمور، وغني وفقير, فالجميع ولو ملَك محتاج للرب الخالق الملِك, سعى رجل بحاجته إلى وزير فأحاله على الأمير فاعتذر الأمير بأن مطلبه لا يقدر عليه إلا السلطان, وما زال بالحيل حتى وصل بلاط السلطان فرآه ماداً يديه إلى الله يدعو, فلام الرجل نفسه، وقال: أين أنا من الذي يسأله الملك وهو إلي قريب لا يحتاج إلى الوسيط؟
نعم، إنه باب لا يحتاج إلى وساطات, بل هو مفتوح لكل من سأل, كم من عبد أَضناه الهم، وأقعده المرض، وحار الطب في علاجه، وعجز البشر عن رفع بلائه, فرفع يديه إلى الكريم, وتوجه إلى الذي يقول للشيء كن فيكون، فجاء الشفاء، وارتفع البلاء.
أيوب -عليه السلام- مسه الضر, وذهب عنه الصحة والمال والولد, ولما طال البلاء رفع يديه إلى رب الأرض والسماء، ولم يصرح بالسؤال، بل عرّض وقال: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [الأنبياء: 83]، وإذا بالشفاء من الله يأتيه بعدما ظن أن الموت أقرب إليه.
كم من عبد ضاقت عليه الأرض بما رحبت, ولم يبق له إلا باب السماء فتوجه ودعا من لا يخيب من رجا، فأجيب وكشفت البلوى, ومن ينسى نبي الله يونس, حين كان في ظلمة الليل، وبظن الحوت، وأعماق البحر، يعاني الشداد, فرفعت الدعوات، وتوجهت الكلمات إلى الذي يسمع خفي الأصوات: (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ) [الأنبياء: 87].
إنه الدعاء، روح العبادة، ومرضاة الرحمن، وملاذ الإنسان، ولب الدين, ومن يستغني عن الله طرفة عين, من الذي يستغني عن الغني, ومن الذي لا يحتاج إلى من بيده قضاء الحوائج؟
يا من تعلقت بالمخلوق: إن المخلوق لو سألت وكررت لملّ وضجر وغضب وردّ, والله يغضب إن تركت سؤاله, ولا تغلق أبوابه دون مسألة وحاجة.
إن المخلوق لو سألته لاستحييت والله يستحي إذا رفع العبد إليه يديه أن يردها صفراً.
إن المخلوق لو أعطاك فضلاً، فربما كان ذلك بمنة, والله يعطي بلا منة.
إن المخلوق لو سألته فإنما تسأل فقيراً مثلك, محتاجاً لربه, ويوشك ما عنده أن ينفد, وما عند الله باقٍ لا ينفد, فهل يليق بعبدٍ أن يطرق كل باب وينسى الباب الذي لا يوصد؟!
فما بالنا نتوجه إلى المخلوق الذي يفتح بابه يوماً، ويغلق دهراً, وننسى الخالق الذي خزانه لا تنفد، وعطاؤه لا يحدّ، وبابه لا يغلق, ويطلب من عبده أن يسأله, فما بال القلوب غفلت عن علام الغيوب؟!
دخل هشام بن عبد الملك الحرم يوماً فإذا هو بسالم بن عبد الله، فقال له الخليفة: سلني يا سالم؟ فقال: إني لأستحي من الله أن أسأل في بيته غيره, ولما خرجا من الحرم قال: الآن فسلني؟ فقال سالم: من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ فقال: بل من حوائج الدنيا؟ فقال: والله ما سألت الدنيا من يملكها فكيف اسألها من لا يملكها.
ومن كرم الله: أن الأجر موكل بالدعاء, فهو عبادة به تزداد الحسنات، وإن لم تجب الدعوات, وفي الحديث: "ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها مالم يدع بإثم أو قطيعة رحم، فقال رجل من القوم: إذا نكثر؟ قال: الله أكثر".
فإن أُجِبت فذاك غاية المرام, وإن لم تُجَب فهو مدخر عندي ذي الجلال والإكرام, فارفع إلى ربك اليدين فما خاب من دعا الله, وهنيئاً لمن فتح له باب الدعاء، وتلذذ بمناجاة رب السماء، وعرف الله في الرخاء فعرفه في البلاء.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فإلى كل مريض يتمنى الشفاء، وعقيم يبحث عن الأبناء، إلى كل فقير ضاقت عليه السبل، وأب وأم يرجو صلاح ذريته, إلى من يهمه شأن الأمة, إلى كل راغب في الجنة وهارب من النار, إلى كل هؤلاء أين أنتم من الدعاء؟
يا مسلمون: إن ربكم يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) [البقرة: 186].
وإخوانكم اليوم في كرب شديد, وأعداء الأمة اليوم يكيدون, ولكن معكم سلاح: (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ) [آل عمران: 160].
وليس أمضى من سلاح الدعاء؛ إن قتيبة بن مسلم لما صافّ الترك، وهاله كثرة عددهم، قال: أين محمد بن واسع؟ فقالوا: هو ذاك في الميمنة يبصبص بأصبعه نحو السماء, فقال: تلك الأًصبع أحب إلى من مائة ألف سيف شهير، وشاب طرير.
أيها المبارك: ادع لنفسك، فأنت في عبادة, وادع لإخوانك فلك بكل دعوة دعوة ملك, وفي الصحيح: "عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بشيء، قال: ولك بمثل".
وسائِل النفس ما هو نصيب المسلمين من دعواتك؟ ما نصيب مأسورهم ومحزونهم ومديونهم ومشردهم ومضطهدهم من دعائك؟ وما تدري فلعل الله يرد بدعوة منك بلاء، ويُحِلُّ رخاء.
أيها المبارك: وإذا أردت الدعاء، فتحر أوقات الإجابة، وتأدب في دعائك، وأحضر فيه قلبك، وتخلص من مظالمك، وأطب قبل ذلك مطعمك، وأحسن الظن والرجاء بربك، وألح في مسألتك، فمن تحرى كل هذا فما أقرب الإجابة منه.
ولا تستعجل الإجابة، فرب تأخير من الله لحاجتك فيه خيرك وصلاحك, في دينك ودنياك, فكِل الأمور إلى من بيده مقاليد الأمور, وفي الصحيح: "يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، فَيَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ رَبِّى فَلَمْ يَسْتَجِبْ لِى".
وقد أجاب الله دعوة موسى وهارون بهلاك فرعون بعد سنين من قوله: (قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا) [يونس: 89].
وإن لم تر الإجابة بعد ذلك، فاذكر أن الله لا تعجزه إجابتك، ولكنه ربما كان في إجابة مسألتك مفسدة عليك, وفي الأثر: "وإن عبدي ليطلب باباً من أبواب العبادة، فأصرفه عنه من أجل أن ذلك يفسده".
فإذا كان هذا في أبواب العبادة، فما الشأن بمن يطلب أمراً دنيوياً قد يكون في علم الله أنه لو أعطاه ذلك لكان فيه عطبه فرحمه الله به أن لا يجيب مسألته.
ولعل الله أراد بك خيراً حين أخرّ إجابتك، فيزداد دعاؤك, وتستمر ضراعتك، وترد عن شر، وترعوي عن إثم.
وبعد -أيها المسلمون-: فإن المحروم من حرم الدعاء, وإن السماء على ارتفاع سقفها لا تمنع وصول الدعاء، ولو خفي موطنه، وخفت صوته, وقد قيل للإمام أحمد: "كم بيننا وبين السماء؟ فقال: دعوة صادقة".
فيا طالب الحاجات: ابدأ من باب الدعاء, واذكر قول رب الأرض والسماء: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) [النمل: 62].
التعليقات