عناصر الخطبة
1/اطلاع الله لنبيه في منامه بعض فتن أمته 2/استيقاظ النبي عليه الصلاة والسلام فزعا دليل على قبح الفتن وخطرها 3/مخالفات البشر هي سبب كثير من الفتن 4/خطر الفتن وتحذير أهل العلم من التشرف لها 5/خوفه صلى الله عليه وسلم على أمته من الافتتان بالمال والتقاتل عليه 6/النساء فتنة الأمم السابقة واللاحقة ومسؤولية ولاة الأموراقتباس
ثُمَّ ختمَ حديثَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بذكرِ فتنةٍ مُوبقةٍ، كانتْ سبباً في هلاكِ الأممِ السَّابقةِ، فقالَ: "رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا، عَارِيَةٍ فِي الآخِرَةِ"؛ تلبسُ في الدُّنيا لباساً لا يسترُ لأنَّه شفافٌ أو ضَيقٌ أو قَصيرٌ، يذهبُ بلُبِّ الرَّجلِ الحازمِ الكبيرِ، بل فتنتُه أحياناً أعظمُ من فتنةِ التَّعري، فحسابُها في الآخرةِ حسابُ...
الخطبة الأولى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ .. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) .. أَمَّا بَعْدُ:
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَتْ: اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةً فَزِعًا، يَقُولُ: "سُبْحَانَ اللَّهِ، مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الخَزَائِنِ، وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الفِتَنِ، مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الحُجُرَاتِ -يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ لِكَيْ يُصَلِّينَ-، رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا، عَارِيَةٍ فِي الآخِرَةِ".
سبحانَ اللهِ .. إنَّها واللهِ لرؤيا عظيمةٌ جَلَلٌ، أو لَوَحيٌّ بشيءٍ خَطيرٍ قد نَزلَ، الذي أفزعَ رسولَ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- حتى أيقظَه من نومِه، فقالَ مُتعجِّباً من هولِ ما رأى: "سُبحانَ اللهِ".
لقد رأى الرَّحيمُ بأمتِه من الفتنِ ما تزولُ منه الجِبالُ، وما لا يَثبتُ فيها إلا من ثبتَّهُ الكبيرُ المُتعالُ، فقالَ الذي أُعطيَ جوامعَ الكلمِ كلماتٍ معدوداتٍ، ذكرَ فيها: سببَ الفزعِ وهي كثرةُ الفِتنِ المُهلكاتِ، وسببَ الفِتنِ وهي خزائنُ الفُتوحاتِ، وذكرَ سبيلَ العصمةِ من الفتنِ التي تموجُ موجَ البِحارِ، وأعظمَ الفِتنِ التي يحصلُ بها للأمَّمِ الهلاكُ والدَّمارُ .. فتعالوا لنستظلَّ في فيءِ السُّنَّةِ، كي نتَّقيَ لهيبَ شمسِ الفِتنةِ، ولنرتويَ من عذبِ مائها السَّلسبيلِ الزُّلالِ، من عطشِ الزَّمانِ الذي كَثُرتْ فيه الآراءُ والأقوالُ.
لقد فَزعَ النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- من كثرةِ الفِتنِ التي ستُصيبُ أمَّتَه، فقالَ: "مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الفِتَنِ"، وإنَّها واللهِ لتستحقُّ هذا الفَزعَ .. كيفَ لا يفزعُ بأبي وأمي من الفتنِ وهي التي تذهبُ بأسبابِها عقولُ المسلمينَ، وتُسالُ في زمانِها دِماءُ المؤمنينَ! يَقولُ أَبُو مُوسَى الأَشْعَريُّ -رَضيَ اللهُ عَنْهُ-: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحَدِّثُنَا أَنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ الْهَرْجَ، قِيلَ: وَمَا الْهَرْجُ؟، قَالَ: "الْكَذِبُ وَالْقَتْلُ"، قَالُوا: أَكْثَرَ مِمَّا نَقْتُلُ الْآنَ؟، قَالَ: "إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمْ الْكُفَّارَ، وَلَكِنَّهُ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا، حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ، وَيَقْتُلَ أَخَاهُ، وَيَقْتُلَ عَمَّهُ، وَيَقْتُلَ ابْنَ عَمِّهِ" قَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ!، وَمَعَنَا عُقُولُنَا؟، قالَ: "لَا، إِلَّا أَنَّهُ يَنْزِعُ عُقُولَ أَهْلِ ذَاكَ الزَّمَانِ، حَتَّى يَحْسَبَ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ عَلَى شَيْءٍ وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ".
ولذلكَ يجبُ الاحترازُ في زمنِ الفتنةِ الدَّهماءِ، من أيِّ فِعلٍ أو قولٍ تسيلُ بسببِه الدماءُ، واسمعوا إلى هذا الموقفِ. اجْتَمَعَ فُقَهَاءُ بَغْدَادَ فِي وِلَايَةِ الْوَاثِقِ إلَى الإمامِ أحمدَ -رحمَه اللهُ- وَقَالُوا لَهُ: "إنَّ الْأَمْرَ قَدْ تَفَاقَمَ وَفَشَا -يَعْنُونَ إظْهَارَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَغَيْرَ ذَلِكَ من الفِتنِ- وَلَا نَرْضَى بِإِمْرَتِهِ وَلَا سُلْطَانِه، فَنَاظَرَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالْإِنْكَارِ بِقُلُوبِكُمْ، وَلَا تَخْلَعُوا يَدًا مِنْ طَاعَة، وَلَا تَشُقُّوا عَصَا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَسْفِكُوا دِمَاءَكُمْ وَدِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ مَعَكُمْ، وَانْظُرُوا فِي عَاقِبَةِ أَمْرِكُمْ، وَاصْبِرُوا حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ أَوْ يُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِرٍ"، وهكذا ثباتُ العلماءِ في الفتنِ، وحفاظُهم على دماءِ المسلمينَ، إن تكلموا فبعلمٍ، وإن سكتوا فبحلمٍ.
كيفَ لا يفزعُ صلى اللهُ عليه وسلمَ من الفتنِ وفيها ينصرفُ النَّاسُ عن عبادةِ العزيزِ الجبَّارِ، وينشغلونَ بالقالِ والقيلِ والتَّحليلاتِ والأخبارِ! ولذلكَ جاءَ الأجرُ الكبيرُ، للعابدِ في زمانِ القتلِ والتَّهجيرِ، فقالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ"، فنحتاجُ أيامُ الفِتنِ إلى عبادةٍ ودُعاءٍ، وإلى خوفٍ ورجاءٍ، وأنصتوا إلى نصيحةِ الحسنِ البصريِّ -رحمَه اللهُ تعالى- في زمنِ فِتنةِ الحجَّاجِ: "يا أيُّها النَّاسُ، إنَّه واللهِ ما سَلَّطَ اللهُ الحجَّاجَ عليكم إلا عقوبةً، فلا تُعارِضوا عقوبةَ اللهِ بالسَّيفِ، ولكن عليكم بالسَّكينةِ والتَّضرعِ، فإنَّ اللهَ -تعالى- يَقولُ: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ)[المؤمنون: 76].
والأعظمُ من هذا كلِّه، أنَّ الفِتنَ تجعلُ الرَّجلَ ينسلخُ من دينِه كما تنسلخُ الأفاعِي من الجُلودِ، يبيعُ لأجلِ متاعِ الدُّنيا الزَّائلِ جنَّةَ الخُلودِ، كما جاءَ في الحديثِ: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا"، فاللهمَّ سلِّمْ.
ثُمَّ ذكرَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ سببَ هذه الفِتنِ، في قولِه: "مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الخَزَائِنِ"، فما يُفتحُ على النَّاسِ من الخزائنِ والأموالِ، هو سببٌ رئيسيٌّ لتغيُّرِ الأحوالِ، وهذا أمرٌ مُشاهدٌ، واسمعْ معي لهذا الشَّاهدِ، عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُما-، عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا فُتِحَتْ عَلَيْكُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ، أَيُّ قَوْمٍ أَنْتُمْ؟" قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-: نَقُولُ كَمَا أَمَرَنَا اللهُ –نحمدُه ونشكرُه-، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، تَتَنَافَسُونَ، ثُمَّ تَتَحَاسَدُونَ، ثُمَّ تَتَدَابَرُونَ، ثُمَّ تَتَبَاغَضُونَ، ثُمَّ تَنْطَلِقُونَ فِي مَسَاكِينِ الْمُهَاجِرِينَ، فَتَجْعَلُونَ بَعْضَهُمْ عَلَى رِقَابِ بَعْضٍ".
وصدقَ بأبي وأمي -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-، لقد عاشَ النَّاسُ الفقرَ إلى زمنٍ قريبٍ، فلا ترى فيهم إلا الأخَ والجارَ والحبيبَ .. وإنكَ لتعجبُ من الأُسرِ الكبيرةِ كيفَ كانتْ تعيشُ في بُيوتٍ صِغارٍ، فيزولُ عجبُكَ عندما تعلمُ حقيقةَ قلوبِ النَّاسِ الكِبارِ، كانوا يجتمعونَ على صحنٍ فيه دَجاجةٌ واحدةٌ، فيقومونَ وقد باركَ اللهُ فيها والألسنُ حامدةٌ، لا مكانَ بينهم لعاقٍّ أو قاطعِ رحمٍ أو قتَّاتٍ، فالوَصلُ والحبُّ قائمٌ بينهم مع قِلةِ المواصلاتِ والاتصَّالاتِ، القلوبُ صافيةٌ، والأبدانُ في عافيةٍ، لم نسمعْ أبانا يوماً اشتكى من ضيقِ الحالِ، ولم نرى أمَّنَا يوماً تتذمرُ من الفقرِ وكثرةِ العِيالِ، وكانَ الحياءُ هو الخُلقُ السَّائدُ في المجتمعاتِ، بين الرِّجالِ والنِّساءِ والشَّبابِ والفتياتِ، كانتْ الحياةُ حقَّاً بألوانِها جميلةً، فيها الخيرُ والمحبةُ والاستقامةُ والفضيلةُ، وانظرْ حولَك اليومَ في الأحوالِ لترى الفَرقَ، بعدَ أن أغدقَ اللهُ -تعالى- على النَّاسِ من رزقٍ.
ولذلكَ لم يكن صلى اللهُ عليه وسلمَ يخافُ على أمتِه من الفقرِ، وإنما يخافُ عليهم انفتاحَ الدُّنيا، قَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الْأَنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَوَافَوْا صَلَاةَ الْفَجْرِ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- انْصَرَفَ، فَتَعَرَّضُوا لَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ رَآهُمْ، ثُمَّ قَالَ: "أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ؟" فَقَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: "فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ".
ثُمَّ ذكرَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وسيلةً عظيمةً للثَّباتِ أيامَ الفتنِ، فقالَ: "مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الحُجُرَاتِ، يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ لِكَيْ يُصَلِّينَ"؛ فأرشدَ أهلَه لقيامِ اللِّيلِ، لما فيه من الخيرِ الجزيلِ، وذلك عندما ينزلُ ربُّنا -سبحانَه وتعالى- إلى السماءِ الدُّنيا، فتنفضَّ ناعمَ فِراشِك، وتتركَ لذيذَ نومِكَ، وتُطهِّرَ شريفَ أعضائك، وتقفَ بينَ يديهِ مُكبِّراً قائلاً في استفتاحِكَ: "اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"، فأيُّ فتنةٍ تضرُّكَ بعدَ اليومِ، إن عصمَكَ الحيُّ القيومُ!.
أقولُ هذا القولَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه؛ إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
ثُمَّ ختمَ حديثَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بذكرِ فتنةٍ مُوبقةٍ، كانتْ سبباً في هلاكِ الأممِ السَّابقةِ، فقالَ: "رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا، عَارِيَةٍ فِي الآخِرَةِ"؛ تلبسُ في الدُّنيا لباساً لا يسترُ لأنَّه شفافٌ أو ضَيقٌ أو قَصيرٌ، يذهبُ بلُبِّ الرَّجلِ الحازمِ الكبيرِ، بل فتنتُه أحياناً أعظمُ من فتنةِ التَّعري، فحسابُها في الآخرةِ حسابُ العاريةِ، وقد جاءَ في الحديثِ: "صِنْفَان مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: .. وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُؤُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا".
دخلتْ على بني إسرائيلَ فتنةٌ خطيرةٌ، تركتُهم في المنزلِة الحقيرةِ، كما قالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ".
وهكذا سائرُ الأممِ، ورحمَ اللهُ حَسَّانَ بنَ عَطِيَّةَ إذ قالَ: "مَا أُتِيَتْ أُمَّةٌ قَطُّ إلا مِن قِبَلِ نِسَائِهِم"، ولذلكَ ركَّزَ الأعداءُ على المرأةِ، فليسَ لهم إلا المرأةَ، فتبدأُ مواضيعُهم بالمرأةِ، مروراً بالمرأةِ، ووقوفاً عندَ المرأةِ، وانتهاءً بالمرأةِ، في حالٍ عجيبةٍ من التَّنظيمِ والتَّرتيبِ والصبرِ والمُثابرةِ، مُقتدينَ بأسلافِهم الذينَ قالَ اللهُ -تعالى- فيهم: (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ)[ص: 6]؛.
فعلى وليِ أمرِ الأُسرةِ اليومَ مسئوليةٌ عظيمةٌ، في مواجهةِ أمواجِ التَّحريرِ والتغريبِ، فبيِّنوا لنسائكم وسائلَ الأعداءِ في نزعِ الحياءِ، واحفظوهِنَّ من الذِّئابِ المُجرمةِ، والأعينِ الآثمةِ، وأخبروهنَّ بعظيمِ فضلِ العفافِ والطُّهرِ، وعلِّموا بناتِكم الجميلاتِ في الصِّغرِ، لباسَ الحِشمةِ والسِّترِ، وإذا صَلُحتْ جميعُ الأُسَرِ، لن تجدَ للاختلاطِ والتَّبرجِ من أَثرٍ، وكما أنَّ المرأةَ الفاسدةَ تهدِمُ الأمَّمِ، فالمرأةُ الصَّالحةُ هي التي تبني الأممَ.
اللهم قِنا شرَّ الفتنِ ما ظهرَ منها وما بطَن عن بلدِنا هذا خاصَّةً، وعن كافةِ بلادِ المُسلمينَ عامَّةً يا ربَّ العالمينَ.
اللهمَّ إنا نعوذُ بك من زوالِ نعمتِك، وتحوُّلِ عافيتِك، وفُجاءةِ نقمتِك، وجميعِ سخَطِك.
اللهمَّ إنا نسألُك فعلَ الخيراتِ، وتركَ المُنكَراتِ، وحُبَّ المساكينِ، وأن تغفِرَ لنا وترحمَنا، وإذا أردتَّ بقومٍ فتنةً فاقبِضنا إليك غيرَ مفتُونينَ.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرِنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كلِّ خيرٍ، واجعل الموتَ راحةً لنا من كلِّ شرٍّ.
اللهم آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلِح أئمَّتَنا وولاةَ أمورِنا، وأيِّد بالحقِّ إمامَنا ووليَّ أمرِنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاءِ.
اللهم وفِّقه ووليَّ عهدِه إلى ما فيه خيرُ الإسلامِ والمُسلمينَ، وإلى ما فيه صلاحُ العبادِ والبلادِ يا مَن إليه المرجِعُ يومَ التَّنادِ، (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
التعليقات