عناصر الخطبة
1/من شهادات المنصفين للنبي -عليه الصلاة والسلام- 2/موقف وإرشاد نبوي 3/حدود الحرية وضابطها 4/حرية اللباس وارتباطها بالتحرشاقتباس
فانظروا كيفَ وصلَ الحالُ بالغربِ في لباسِ نسائهم؟! والمُصيبةُ أنَّهم يُريدونَ تصديرَ ما عندَهم من آفاتٍ، إلى بلادِ الإسلامِ بدعوى الحُريَّاتِ، ويَتوَّلى أتباعُهم تَنفيذَ الخُطواتِ، فيَبدأُ الحديثُ عن الخلافِ في كشفِ الوجهِ، ثُمَّ عن الرأيِّ الفقهيِّ في لونِ العباءةِ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمدُ للهِ المُطَلِّعِ على ما في الضَّمائرِ، العَالمِ بما تُكِّنُهُ السَّرائرُ، خَلَقَ فَقدَّرَ، وشَرعَ فَيَّسَرَ، أَحمدُه حَمداً يَليقُ بكريمِ وَجهِه، وبعَظيمِ سُلطانِه، يَسَّرَ عِبادتَه، وسَهَّلَ طَاعتَه، وحَفظَ لعبدِه كَرامتَه، وهو العَظيم ُالقاهرُ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَه لا شَريكَ لَهُ، وأَشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، وصَفيهُ وخَليلُه، أَنارَ بهَديهِ البصائرَ، وأَيقظَ بسنتِه الضمائرَ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه، أَهلِ الفضائلِ والمفاخرِ، وسَلم تَسليماً كَثيراً.
أما بعدُ: فإن كانَ جورج برناردشو المفكرُ والأديبُ الغربيُّ يقول: "لو كَانَ مُحمدٌ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ- حَيَّاً، لَحَلَّ مَشاكلَ العَالمِ أَجمعَ, وهو يَحتسي فِنجاناً من القَهوةِ"، فنحنُ نقولُ: بل لم يَمُتْ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- إلا وقد تركَ ما فيهِ الخيرُ والهدايةُ للبشريةِ جمعاءَ، بما تركَ للعالمِ من كتابِ اللهِ -تعالى- وسُنتِه، حتى قالَ: "تركتُكم على المحجَّةِ البَيضاءِ، ليلُها كنهارِها، لا يَزيغُ عنها إلا هَالكٌ"، فهذا الدينُ قد أكملَه اللهُ -تعالى-، وجعلَه صالحاً لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، ففيه المخرجُ مما يُعانيهِ العالمُ من أزماتٍ، عَلِمَ ذلكَ من عَلِمَ، وجَهِلَ من جَهِلَ.
ومن ذلكَ معينُ السِّيرةِ المُباركةِ، بحرُ العلومِ الذي لا ساحلَ لهُ، في كلِّ موقفٍ منها فوائدُ مثلُ عددِ أزهارِ البُستانِ، ودروسٌ تُقيمُ حياةَ الإنسانِ، وتَصحِّحُ مفاهيمَ الزَّمانِ، وتُزيحُ ما حولَ الصُّورةِ من دُخانٍ.
تأملوا في هذا الموقفِ العابرِ، وما فيهِ من الخيرِ الوافرِ, عَنْ جَرْهَدٍ الْأَسْلَمِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وهو من أهلِ الصُّفةِ الفُقراءِ الذي يَسكنونَ المسجدَ، قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي المَسْجِدِ وَعَلَيَّ بُرْدَةٌ، وَقَدِ انْكَشَفَتْ فَخِذِي، فَقَالَ: "غَطِّ فَخِذَكَ؛ فَإِنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ".
موقفٌ لم يستغرقْ إلا ثوانٍ معدودةً، وكلماتٍ محدودةً، فيهِ حلٌّ لمُعضلةٍ من مُعضلاتِ العصرِ الحديثِ؛ إنَّها مُعضلةُ (الحُريةِ), تلكَ الكلمةُ البرَّاقةُ، ذاتُ المعاني السَّرَّاقةِ، يتغنَّى بها الجميعُ، وتُفتتحُ بها المواضيعُ، حُريَّاتٌ كثيرةٌ؛ فهناكَ حُريةُ الدِّينِ، وحريةُ الرأيِّ، وحريةُ الفكرِ، وحُريةُ اللِّباسِ، والمُصيبةُ أنَّ معنى كلمةِ الحريةِ غيرَ مُحدَّدٍ؛ لذلكَ تَلاعبَ به كلُّ أحدٍ، وإذا أردتَ أن تُنكرَ المعانيَ الخاطئةَ، فأنتَ عدو الحريةِ.
دعونا نرجعُ إلى موقفِ السَّيرةِ، فها هو رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- يمرُّ على جَرهدٍ -رضيَ اللهُ عنهُ- وهو في المسجدِ، فقيرٌ ليسَ عندَه كثيرُ ثيابٍ، رجلٌ بالغٌ ليسَ في كَشفِ فَخذِه ما يُثيرُ الشَّهوةِ، قد "انكشفتْ فخذُه" مما يدلُّ على أنَّه بغيرِ قصدٍ منه، جاهلٌ بالحكمِ فلا يعلمُ أن الفخذَ عورةٌ، ومع ذلكَ كلِّه يقول لهُ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمُ-: "غَطِّ فَخِذَكَ؛ فَإِنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ".
فهذا مِثالٌ على حُريَّةِ اللِّباسِ، وسائرُ الحُريَّاتِ عليهِ تُقاسُ، وليسَ كما يَقولونَ: تَنتهي حُريَّتُكَ عندَما تَبدأُ حُريةُ الآخرينَ؛ بل حُريَّتُنا تنتهي عندَ حدودِ الشَّرعِ، فمن كشفَ عورتَهُ، فقد تجاوزَ حُريتَه، ووجبَ الأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُّ عن المنكرِ؛ لأجلِ المُحافظةِ على سِترِ وصلاحِ المُجتمعِ، وحتى لا تغرقَ السَّفينةُ.
فأنتَ حرٌّ فيما تلبسُ، وفيما تقولُ، وفيما تأكلُ، وفيما تشربُ، ما لم تصلْ إلى حدودِ اللهِ -تعالى-، فإذا وصلتْ إلى حدودِ اللهِ فقِفْ، كما قالَ -سُبحانَه-: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[البقرة: 229]، فهل رأيتُم أسهلَ من تعريفِ معنى الحُريَّةِ؟، ولكن بمعناها الشَّرعيِّ الصَّحيحِ.
أما الغربُ فقد خَبطَ في معنى الحُريةِ خبطَ عشواءَ، يُفسِّرُها كيفما يشاءُ، وما كانَ حُريَّةً لهم فليسَ بُحريَّةٍ لغيرِهم، فهم الشَّعبُ الذي يستحقُّ أن يعيشَ حُرَّاً، وأما باقي الشُّعوبِ فالعبوديةُ لهم قَدَراً.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ، هديتَ فلكَ الحمدُ، وغَفرتَ فلكَ الحمدُ، وأعطيتَ فلكَ الحمدُ، نَشهدُ أن لا إلهَ إلا أنتَ مُخلصينَ لكَ الدينَ، ونَشهدُ أنَّ محمداً عَبدُه ورَسولُه، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه الطيبينَ الطاهرينَ.
أما بعدُ: وإذا كانَ الحديثُ عن حُريَّةِ اللِّباسِ، فانظروا كيفَ وصلَ الحالُ بالغربِ في لباسِ نسائهم؟! والمُصيبةُ أنَّهم يُريدونَ تصديرَ ما عندَهم من آفاتٍ، إلى بلادِ الإسلامِ بدعوى الحُريَّاتِ، ويَتوَّلى أتباعُهم تَنفيذَ الخُطواتِ، فيَبدأُ الحديثُ عن الخلافِ في كشفِ الوجهِ، ثُمَّ عن الرأيِّ الفقهيِّ في لونِ العباءةِ، ثُمَّ أنَّه لا نجاحَ مع نقابٍ، ثُمَّ تتدرجُ الأمورُ إلى ما لا يُحمدُ عُقباهُ، إذا لم يتداركْ العقلاءُ الأمرَ، ويجعلُ اللهُ بعدَ عُسرٍ يُسراً.
والأخطرُ أنَّها تنتشرُ مع التَّبرجِ والسُّفورِ ظاهرةُ التَّحرشِ بأنواعِهِ، في عمليةٍ طَرديةٍ لا يشكُ فيها عاقلٌ، ولا يُنكرُها جاهلٌ، واسألوا الغربَ وقد طبَّقَ الرَّقابةَ الدَّقيقةَ، وسَنَّ العُقوباتِ الوَثيقةَ، ومع ذلكَ لا تَزالُ حالاتُ التَّحرشِ بل حالاتُ الاغتصابِ في ازديادٍ، وليسَ هذا تبريراً للتَّحرشِ، وإنما هو تشخيصٌ للسببِ الدَّافعِ، ومعرفةٌ للعلاجِ النَّافعِ، وإذا كانَ اللهُ أمرَ خيرَ النِّساءِ، بأن يحتجبنَ عن خيرِ الرَّجالِ، وقالَ: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)[الأحزاب: 53], فكيفَ بغيرِهم؟، فمُحاربةِ التَّحرشِ لا تَكونُ إلا بالرُّجوعِ إلى السِّترِ والعفافِ.
دَعوا الحجابَ لنـا عـِزَّاً ومَكرمـةً *** دَعوهُ نُـوراً مـن التَقـوى وبُرهانا
دَعوهُ سَـدَّاً أَمامَ العَابثينَ بِما *** يَسمو بِهِ دِينُنا طُهْـراً وإحصانا
شَتَّانَ بينَ حِجابٍ تَستضيءُ بِـهِ *** أُنثى، وبيـنَ ظَلامِ العُـرْيِ شَتَّانا
اللهمَّ إنَّكَ تَسمعُ كَلامَنا، وتَرى مَكانَنا، وتَعلمُ سِرَّنا وعَلانيتَنا، ولا يَخفى عَليكَ شَيءٌ من أَمرِنا، نَسألُكَ مَسألةَ المساكينِ، ونَدعوكَ دُعاءَ من خَضعتْ لكَ رقبتُه، وذَلَّتْ لَكَ نَفسُه، نَسألُك أن تَحفظَ بناتِنا وبناتِ المسلمينَ، ونسائَنا ونساءَ المسلمينَ، من شَرِّ الفتنِ ما ظَهرَ منها وما بَطنَ، واغرسْ فِيهنَّ الحياءَ والعَفافَ، اللهمَّ واحرُسهُنَّ من دَعواتِ المفسدينَ، واجعل هذا البلدَ آمناً مُطمئناً وسائرَ بلادِ المسلمينَ يا ربَّ العالمينَ، اللَّهُمَّ احفظ علينا أمنَنا وإيمانَنا واستقرارَنا في أوطانِنا، وأَصلحْ سُلطانَنا، وولي علينا خيارَنا، واكفنا شَرَّ شرارِنا، اللهم الطفْ بإخوانِنا المستضعفينَ في كلِّ مكانٍ، اللهم كن لهم مؤيدًا ونصيرًا، ومعينًا وظهيرًا، اللهم اجعلْ لهم من كلِّ همٍ فَرجًا، ومن كلِّ ضيقٍ مَخرجًا، ومن كلِّ بلاءٍ عافيةً، أنتَ نِعمَ المولى، ونِعم النَّصيرُ.
التعليقات