عناصر الخطبة
1/الشوق إلى الحج والمشاعر 2/الحج ذكريات وأمنيات 3/دروس في التسليم والانقياد لأحكام الشريعة 4/فضائل يوم عرفة 5/آداب الأضحية.اقتباس
عندما يعطش القلب من معين الوحي الصافي، وترتوي العقول من شبهات كل قلب خاوٍ، تصبح الأحكام والنصوص الشرعية حِمًى مستباحًا يلغ فيها كلُّ دَعِيّ، وتتسلل إلى أعماق قلوب كثير من الأبناء والبنات المعاني الجوفاء، والتشكيك بوحي السماء؛...
الخطبة الأولى:
لكَ الحمدُ ربنا حمداً يملأ السما *** وأقطارها والأرضَ والبرَّ والبحرا
لكَ الحمدُ مقروناً بشكركَ دائماً *** لكَ الحمدُ في الأولى لك الحمدُ في الأخرى
وأشهد أن نبينا محمداً عبدُ الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وعلى من سار على دربهم واتبع الآثار إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)[الحج:27]. كم تشتاق القلوب لبلوغ تلك المشاعر العظام، وكم تتقطع الأعناق لرؤية البيت الحرام.
يا راحلين إلى البيت العتيق لقد *** سرتم جسومًا وسرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عذرٍ وعن قدرٍ *** ومن أقام على عذر فقد راحـا
الحج ذكريات وأمنيات كل مُهلِّل ومُكبِّر..
تالله ما أحلى المبيت على منى *** في ليل عيدٍ أبرك الأعياد
الحج مع مشقته مرغوب، ومع نَصَبه محبوب.. الحج جماله ببساطته، وبهاؤه بقلة الكلفة فيه. كانت أَسْمَاءَ بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- كُلمَا مَرتْ بِالحَجُونِ تَقُولُ: "صَلَّى اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ لَقَدْ نَزَلْنَا مَعَهُ هَا هُنَا، وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ خِفَافٌ، قَلِيلٌ ظَهْرُنَا قَلِيلَةٌ أَزْوَادُنَا، فَاعْتَمَرْتُ أَنَا وَأُخْتِي عَائِشَةُ، وَالزُّبَيْرُ، فَلَمَّا مَسَحْنَا البَيْتَ أَحْلَلْنَا ثُمَّ أَهْلَلْنَا مِنَ العَشِيّ بِالحَجّ"(متفق عليه).
الحج ابتدأ ميلاده يوم ألقى إمام الحنفاء، وشيخ الأنبياء، زوجه وسلوة فؤاده، ومعها فلذة كبده في فلاة من الأرض، فما وهن ولا استكان، وما تضعضع وما تزعزع، وإنما نادى ربه: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)[إبراهيم:37].
أُمّ وزوجة فيا لها في إيمانها *** يا لها من عين أبت أن تدمعا
وحدها والطفلُ في أحضانِها *** وصدى من زوجِها حين دعا
فامضِ يا جبريل واحفر زمزما *** ورَوِّ إسماعيلَ حتى يشبعا
وَرَوِّ أجيالاً عطاشا بعدهُ *** من حجيج البيت كأسا مُترعا
نعم اروِ أجيالاً عطاشًا من دروس التسليم والانقياد في زمن أصبحت الأفكار الكاسدة والعقول الناقصة هي مصدر التحكيم في الثوابت والمُسلَّمات.
اروِ أجيالاً عطاشًا من عبقريات الأمة ومعلمي الأمة وقادة الأمة حين يقف فارُوقُ الإسلام يُعلم الناس عقيدَةَ التّسْليمِ يوم أن قبَّلَ الحجَرَ الأسودَ، فقالها كلماتٍ خالداتٍ باقياتٍ: "إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنّكَ حَجَرٌ لَا تَضُر وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ".
عطشت أفئدةٌ وتاهت عقول جَعَلَت مشرُوعَها تطبِيعَ المحَرماتِ والمنكراتِ في المجتمعاتِ، والاستهانة بالأحكامِ الشرعيةِ بعرضِها على يهواه العقل أو ما يرده.
اورِ أجيالاً عطاشًا من معاني الحجِ المبرور، حين وقف الجيل الأول يترقب المعصوم، متى يدفع؟ وكيف يرمي؟ وأين يبيت؟ دون تعنُّت أو تردُّد أو تتبُّع لشواذ الأقوال.
اروِ جيلاً من فتياتٍ عطشت أفكارهن حين غابت عنهن صنيع من ارتوين من معاني التسليمُ والانقياد عند نزول الآيات الواضحات (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)[الأحزاب:59]، قالت أم سلمة: "خرجَ نِسَاءُ الأنصارِ كأن على رؤوسِهِنَّ الغِرْبانَ مِنَ الأكْسِيَة".
وقالت عائشة: "شققن أكنَفَ مُرُوطِهِنَّ، فاخْتَمَرْنَ بها"(أخرجه أبو داود).
عندما يعطش القلب من معين الوحي الصافي، وترتوي العقول من شبهات كل قلب خاوٍ، تصبح الأحكام والنصوص الشرعية حِمًى مستباحًا يلغ فيها كلُّ دَعِيّ، وتتسلل إلى أعماق قلوب كثير من الأبناء والبنات المعاني الجوفاء، والتشكيك بوحي السماء؛ (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ)[النحل:116].
الحج أشهر معلومات، وأيام معدودات، يُعْلَن فيه أنه لا يُدْعَى مع الله أحدٌ، ولا يُشْرَك في حكمه أحد، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.
أَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ وللمسلمين والمسلمات فاستغفروه إن ربنا لغفور شكور.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على خير خلقه أجمعين وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد: يوم عرفة خير أيام الله، والوقوف على صعيد عرفات منحة ربانية؛ بلَّغنا الله إياها
من نال من عرفات نظرة ساعة *** نال السرور ونال كل مراد
و"مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟"(أخرجه مسلم).
ويُشْرَع صيامه لأهل الأمصار، قال -عليه الصلاة والسلام-: "صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ"(أخرجه مسلم).
وخير الدعاء دعاء عرفة، فابتهلوا فيه إلى ربكم، وتضرعوا إلى مولاكم، وأحسنوا الظن بالله يَغْفر لكم ويجيب دعواتكم، قال عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: "جِئْتُ إلَى سُفْيَانَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَهُوَ جَاثٍ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَعَيْنَاهُ تَهْمِلاَنِ، فَالْتَفَتُ إِلَيه فَقُلْتُ: مَنْ أَسْوَأُ هَذَا الْجَمْعِ حَالاً؟ قَالَ: الَّذِي يَظُنُّ أَنَّ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لاَ يُغْفَرَ لَهُ".
ومن تَمام شُكْرُ المولى -عَزَّ وَجَلَّ- التقرُّب إليه بذبح الأضاحي سنة محمد -صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قال ابن عمر أقامَ النبيُّ -صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالمدينة عشرَ سنين يضحّي كل سنة. (أخرجه الإمام أحمد).
والأضحية تجزئ عن الرجل وأهل بيته، قال عطاء بن يسار: سألت أبا أيوب -رضي الله عنه-: كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "كان الرجل يضحّي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويُطْعِمون، حتى تباهَى الناس فصارت كما ترى"(أخرجه مالك والترمذي وصححه).
ويشترط أن تكون سالمةً من العيوب، وفي سِنها المعتبر شرعًا، فالضأن ما تم له ستة أشهر، والماعز ما تم له سنة، والبقر ما تم له سنتان، والإبل ما تم له خمس سنين.
اللهم صَلِّ وسَلِّم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن صحابته أجمعين وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
التعليقات