عناصر الخطبة
1/الأمر بإحسان العمل وإتقانه 2/ما تميز به الإسلام في مفهوم الجودة الشاملة 3/الحكمة من الأمر بالإحسان عند الذبح والقتلاقتباس
وتميز ديننا بإضافةِ لفتة إنسانية حانية في الجودة لم تصل لها تلك التشريعات؛ ففي اختيار المثلين الذين ذكرهما الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- في الحديث عَجَب!, لقد اختار أعمالاً نتيجتها الهلاك، ومع ذلك اشترط فيها الجودةَ في الأداء...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
أيها الإخوة: إتقانُ الأعمالِ وإحسانُها في الإسلامِ مطلبٌ شرعيٌ, حَثَّ عليه رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وأكدَه, ويتجلى ذلك في توجيهِهِ وسيرتِه, فَمِنْ ذلك ما رواه مسلمٌ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ -رَضْيَ الَلَّه عَنْهُ- قَالَ: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ, فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ, وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ, وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ"(رواه مسلم).
أيها الإخوة: كلما سمعت أو قرأت هذا الحديث تأكدت لي عظمُةَ هذا الدين, وجلالَةُ رسولِه -صلى الله عليه وسلم-؛ فالإحسانُ في قَولِهِ: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ" هو الأداء الحسن, الأداء الكامل, الأداء المتقن, الأداء الجميل, قال ابن رجب: "وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْإِحْسَانِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، لَكِنَّ إِحْسَانَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ".
إذاً المقصود من هذا الحديث هو ترسيخ مبدأ الإحسان, مبدأ الأداء الكامل, مبدأ الأداء الحسن المتقن, وعليه أطلق لفكرك العنان؛ ليحلق في مجالات إتقان الأداء وإحسانه, في كل مجالاته الشكلية والنفسية, وهو مطلب شرعي، عَلَى كلِّ عَمَلٍ بحسبه, فالمعلم مطلوب منه إتقان الأداء وإحسانه, والطبيب والمهندس والباحث والكاتب والمدير, وغيرهم من العاملين مهما كانت مهنهم, كل منهم مطالب بإتقان الأداء وإحسانه.
وبهذا يتبن لنا أن ديننا سبق منظري الإدارة، ومن يسمون روادها عندما أطلقوا مبدأ "الجودة الشاملة", وأنه مطلب إداري مهم، وعلم يُعلم, وتقام لتعلِيمِ أصولِه الدورات، وتُعقد من أجله المؤتمرات، وتؤلف فيه الكتب، وتشكل له فرق العمل، بل وتُنشأُ له الإدارات في كل القطاعات الحكومية والأهلية.
إن الإسلام لا يكتفي بأداء الأعمال على أية صورة، بل يجعل الإحسانَ في الأداء أحد متطلباته, وإنه لا يقنع من الناس بأن يؤدوا ضروراتهم بلا إتقان بحجة أنها ضرورة، وإنما يتطلب الإحسانَ في التنفيذ!.
ويوضح هذا المعنى أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَزَّ- يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ"(رواه البغوي في شرح السنة، والطبراني في معجمه الأوسط عَنْ عَائِشَةَ -رَضْيَ الَلَّه عَنْهَا-, وحسنه الألباني في صحيح الجامع"؛ قال المناوي -رحمه الله-: "أَي: يُحكِمه كَمَا جَاءَ مُصَرحًا بِهِ فِي رِوَايَة أبي يعلى, ولفظه: "إِذا عَمِلَ الْعَبَدُ عَمَلا أنْ يُحكمَه"؛ وَذَلِكَ لأنّ الْإِمْدَاد الإلهي يَنْزِلُ على الْعَامِل بِحَسب عَملِهِ، فَكلُ من كَانَ عملُه أتقنَ وأكملَ؛ فالحسناتُ تضَاعف لهُ أَكثر، وَإِذا أَكثر العَبْد أحبه الله -تَعَالَى-".
وخلاصة القول: إن مطلب ما يسمى الآن "الجودة الشاملة" مطلب شرعي, حث عليه ديننا ودعانا له، بل جعله الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- مما كتبه الله على عباده.
أيها الإخوة: وتميز ديننا بإضافةِ لفتة إنسانية حانية في الجودة لم تصل لها تلك التشريعات؛ ففي اختيار المثلين الذين ذكرهما الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- في الحديث عَجَب!, لقد اختار أعمالاً نتيجتها الهلاك، ومع ذلك اشترط فيها الجودةَ في الأداء!, وأكد عليها أولاً بقوله: "أَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ"، "أَحْسِنُوا الذَّبْحَ", وهذا توجيه عام للمطالبة بالإتقان وجودة الأداء عموماً، ثم بين التفصيل, ففيهما معنى آخر تتجلى فيه الجودة بأعلى معاييرها عندما قال: "وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ", عجباً من هذا الأمر!, متى وكيف يريحها وهو مُقْدم على ذبحها؟, يريحها في هذا الوقت؟!.
نعم, إنها رحمة الأنبياء, ووحي الله لهم, يتجلى في هذا التوجيه النبوي، إنه ارتقاء بالمشاعر البشرية لتبلغ القمة التي ليس وراءها شيء, إنها الرحمة التي لا تقف عند الأناسي من الخلق، ولا يحكُمُها انحيازُ الإنسانِ لنفسِهِ واعتدادِهِ بجنسِهِ, وإنما تتعداها إلى المجالِ الواسعِ الفسيح الذي يشملُ كل الأحياء في الكون.
مفهوم أن تقول: لا تقتل هذا العصفور؛ فإنه ضعيف مسكين، وهو جميل لطيف لا يستحق القتل, ولا تقتل هذه الفراشة الطائرة القافزة الرشيقة، فماذا تستفيد من قتلها؟, كل ذلك مفهوم, والقلب البشري الطيب يمكن أن يُوَجَهَ إليه في يسر، فيعتاده فيصبح من طباعه.
ولكن هناك درجة وراء هذا المفهوم أعلى وأشف، وهي أن أقول لك: هذه الذبيحة التي ستذبحُها، والتي سَتَفْقِدُ الحياة بعد لحظات, أحْسِنْ ذَبْحَتَها, ولا تُطلْ آلامها, وهو ما عَنَاهُ الرَسُولُ -صلى الله عليه وسلم- لما مَرَّ على رَجُلٍ وَاْضِعٍ رِجْلَهُ عَلَى صَفْحَةِ شَاةٍ, وَهُوَ يُحِدُّ شَفْرَتَهُ لِيَذْبَحَهَا، وَهِىَ تَلْحَظُ إِلَيْهِ بِبَصَرِهَا فَقَالَ: "أَفَلاَ قَبْلَ هَذَا؟؛ أَتُرِيدُ أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَات؟! هَلَّا أَحْدَدْتَ شَفْرَتَكَ قَبْلَ أَنْ تُضْجِعَهَا"(رواه الحاكم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-, وقال: صحيح على شرط البخاري, ونحوه عند الطبراني, وصححه الألباني).
أيها الأحبة: لنتأمل قولَه -صلى الله عليه وسلم- في الحديث "وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ", لقد حرصَ نبيُ الرحمةِ -صلى الله عليه وسلم- على إراحةِ الذبيحةِ وهي تذبح, وهي تساق إلى العدم، وتصير إلى الفناء, إلى حيث لا توجد ولا تشعر, عجباً ثم عجباً من هذه الرحمة!.
وهنا يبرز لنا سؤال: ما القيمةُ العملية لإراحةِ الذبيحةِ هذه الثواني المعدودة, التي تنتقل فيها من عالم الوجود إلى عالم الفناء؟, بل ما قيمةُ إراحتِها وأنت مقبلٌ على إيلامِها أشدَ ألمٍ يمكن أن تتعرضَ له وهو الذبح؟!.
في الظاهر, لا شيء, وفي الباطن كلُ شيء!, إن الذبيحةَ ستموت, أرحتها أم لم ترحْها, وهي متألمة سواءً قطر قلبُك رحمةً بها أم كنت تذبحها مُجَرَّدَ القلبِ من المشاعرِ متلبدَ الوجدان, وهي لن تلقَاك بعد اليوم فتشكو إليك عُنفك معها إن كنت ممن يفهمون عن هذه الخلائق، ويجاوبون ما يصدر عنها من الأحاسيس, ولن يضيرَها كثيراً وهي مسوقة إلى الفناءِ الكامل الوشيك في هذه الحياة, أنها ذاقت قبل ذلك بلحظة شيئاً من الغلظة أو شيئاً من الجفاء!.
إذاً فالقيمة العملية بالنسبة للذبيحة, لا شيء, ولكن القيمة العملية لك أنت كل شيء!, وهل ثمة شيءٌ أكبرَ من أن يكون لك قلبُ إنسانٍ؟! قلبُ إنسانٍ امتلاء بالرحمة, حتى للحيوان, وحري بك أن تدرك رحمة الله التي وَعَدَ بها رسولُ الرحمةِ -صلى الله عليه وسلم- عندما قَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي لَأَذْبَحُ الشَّاةَ، وَأَنَا أَرْحَمُهَا, أَوْ قَالَ: إِنِّي لَأَرْحَمُ الشَّاةَ أَنْ أَذْبَحَهَا فَقَالَ: "وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللهُ، وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللهُ"(رواه البخاري بالأدب المفرد, وأحمد في مسنده عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ وصححه الألباني).
فاللهم رحمتك, وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الخطبة الثانيـة:
أيها الإخوة: لم تكن هذه الرحمة ولم يكن ذلك الإحسان مطلوبين في ذبح البهيمة فقط؛ بل هما مطلوبان كذلك في أمرِ القتل أيُ قَتْلٍ؛ ولذلك قال الهادي البشير -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ"(رواه مسلم وغيره).
والمسلم المخاطب بهذا القول من الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يقتل إلا بالحق, ولا قتل لمن يستحقه إلا بإذن من الله -سبحانه- لولي أمر المسلمين بذلك, في قائمةٍ من الضوابط والتحفظات توجب العناية بحفظ الدماء.
ولكن الواجب أن يُحَسَنَ التنفيذُ عند الإذنِ به؛ لقَولِه -صلى الله عليه وسلم-: "فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ", مع أن القتيل لن يستفيد شيئاً من أن تُحْسَنَ القِتلة؛ فهو مفارق للدنيا, والألم واقع به ما له عنه من محيص, فيستوي أن تحسن أو لا تحسن, أو أن الفارق في الحقيقة ضئيل, إذاً لا قيمة عملية من إحسان القتل بالنسبة للقتيل, ولكن القيمة الكبرى -نقولها مرة أخرى- هي لمنفذ القتل؛ بأن يكون له قلب إنسان!.
أيها الأحبة: الخلاصة المستفادة من هذين المثالين: أن الإنسان لا ينبغي له أن يغفل عن الإحسان في الأداء وهو ينفذ إزهاق تلك الروح، بِأَنْ يُهذبَ الوسائل وينظف الأداء؛ ليكون جديراً بتكريم الله له, والخلافة في هذه الأرض, وعلى ذلك فالحديث واسع شامل, يشمل كل عمل وكل فكرة وكل شعور.
إذاً المطلوب هو الإتقان الذي تصحبه المشاعر الإنسانية الرقيقة, ويصحبه الإحساس بالله في قرارة الضمير، والعمل من أجل خشيته ومن أجل مثوبته ورضاه, بأَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ.
فاللهم هب لنا من لدنك رحمة, وأتم علينا نعمك ظاهرة وباطنه؛ إنك جواد كريم.
وصلوا وسلموا على نبيكم؛ يعظم الله أجركم, فقد أمركم بذلك ربكم فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
التعليقات