عناصر الخطبة
1/ عظيم فضل الله تعالى بعباده ورحمته بهم 2/ سعة رحمته لا تعني عدم تعذيبه للمستهترين المعرضين 3/ بين السلف والخلف في طلبهم للجنة 4/ المقصود بالإيمان بالجنة والخوف من النار ما يدفع للعمل الجاد 5/ التملص من أداء العبادات وترك المعاصي 6/ بعض صفات للمؤمنين من أهل الجنةاهداف الخطبة
اقتباس
فوا عجبًا لتلك الدار كيف نام طالبها؟! وكيف لم يسمع بمهرها خاطبها؟! وكيف طاب العيش في هذه الدار بعد سماع أخبارها؟! وكيف قرَّ للمشتاق القرار دون معانقة أبكارها؟! وكيف قرت دونها أعين المشتاقين؟! وكيف صبرت عنها أنفس الموقنين؟! وكيف صرفت عنها قلوب أكثر العالمين؟! وبأي شيء تعوضت عنها نفوس المعرضين؟! ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
حديثنا اليوم -أيها المسلمون- حول قوله تعالى: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) [آل عمران: 185].
أيها المسلمون: روى المزني قال: دخلت على الشافعي في مرضه الذي مات فيه، فقلت له: كيف أصبحت؟! قال: أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقًا، ولسوء عملي ملاقيًا، ولكأس المنية شاربًا، وعلى الله واردًا، ولا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنئها، أم إلى النار فأعزيها، ثم أنشأ يقول:
ولما قسـا قلبي وضـاقت مذاهبي *** جعلت الرجـا مني لعفـوك سُلَّمًا
تعــاظمني ذنبي فلمـا قرنتــه *** بعفوك ربي كان عفـوك أعظمـا
وما زلتَ ذا عفو عن الذنب لم تزل *** تجــود وتعفـو منَّـةً وتكرُّمـًا
وصدق الله الغفور الرحيم إذ يقول: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) [النساء:147].
حقيقة عظيمة يقررها لنا الله -عز وجل- وهي أنه لا منفعة له –سبحانه وتعالى- في أن يعذب عباده، بل هو يريد رحمتهم ويقدمها على تعذيبهم، فلا يعذب إلا من لا يسوغ في حقه العفو بحال من الأحوال، فرحمته سبحانه سبقت غضبه، وهو العفو الغفور لمن توجه إليه وخافه.
وما أجمل ما قاله الفضيل بن عياض -رحمه الله- حين نظر إلى تسبيح الناس وبكائهم يوم عرفة فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل يسألونه دانقًا -وهو سدس الدرهم، أتفه وأحقر شيء من المال في ذلك الزمان- أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل يسألونه دانقًا، أكان يردهم؟! فقيل: لا. فقال: والله، المغفرة عند الله -عز وجل- أهون من إجابة رجل لهم بدانق.
ومما يدل على عظيم فضل الله -عز وجل- وسعة عطائه، ما رواه الإمام مسلم -رحمه الله- عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "آخر من يدخل الجنة رجل يمشي مرة ويكبو مرة وتسفعه النار مرة، فإذا جاوزها التفت إليها فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئًا ما أعطاه أحدًا من الأولين والآخرين، فترفع له شجرة فيقول: أي رب، أدنني من هذه الشجرة فأستظل بظلها، وأشرب من مائها، فيقول الله: يا ابن آدم، لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها. فيقول: لا يا رب. ويعاهده أن لا يسأله غيرها، وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى، فيقول: أي رب، أدنني من هذه الشجرة؛ لأشرب من مائها وأستظل بظلها، لا أسألك غيرها. فيقول: يا ابن آدم: ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟! فيقول: لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها. فيعاهده أن لا يسأله غيرها، وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه -أي من جمال شجر الجنة وما فيه- فيدنيه منها، فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين، فيقول: أي رب، أدنني من هذه فأستظل بظلها وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها. فيقول: يا ابن آدم: ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟! قال: بلى -يا رب- هذه لا أسألك غيرها. وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فإذا أدناه منها سمع أصوات أهل الجنة، فيقول: أي رب: أدخلنيها. فيقول: يا ابن آدم: ما يصريني منك -أي ما تقطع مسألتك مني- أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟! قال: أي رب: أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟! فضحك ابن مسعود، فقال: ألا تسألوني مم أضحك؟! فقالوا: مما تضحك؟! فقال: هكذا ضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟! قال: من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟! فيقول: إني لا أستهزئ منك ولكني على ما أشاء قدير".
فسبحان من يعطي عبده أكثر مما يطلبه، وفوق ما يأمله، وخيرًا مما يسأله: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 156]. نعم، ليس معنى سعة رحمته تعالى أنه لا يعذب المستهترين المعرضين، وإنما يكتب رحمته للذين يخافون يوم يبعثون، ذلك اليوم العظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين، وقال الله -عز وجل-: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرحمن:46]. فالجنة يدخلها الذين يخافون، وليس المراد أنهم لم يذنبوا قط، وإنما يخافون ذنوبهم ولا يصرون عليها، أما الذين استولت عليهم شهواتهم، ولم يفكروا فيما وراء دنياهم، فهؤلاء في خطر وإن صلوا وصاموا وحجوا، يدل على ذلك ما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لهم: "والذي نفسي بيده، ما منكم من أحد بأشد منا شدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا: كانوا يصومون معنا، ويصلون، ويحجون، فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم، فيخرجون خلقًا كثيرًا"، ففي هذا الحديث دلالة على أن خلقًا كثيرًا ممن يصلون ويصومون ويحجون يعذبون في النار إلى ما شاء الله من الزمان، ثم يخرجون بشفاعة المؤمنين ومناشدتهم لله -عز وجل- أن يخرجهم من النار.
وفي هذا بيان لمن يعقل ويخاف الله -عز وجل- أنه لا ينجيه من النار إلا أن يكون في جميع شئونه مرتبطًا بالله –سبحانه وتعالى- حذرًا من عقابه، منخلعًا عن تسلط الدنيا وشهواتها على نفسه، لا كحال كثير من المصلين الذين اكتفوا بنقر تلك الركعات في بيوتهم في أغلب الأحوال أو في بعض المساجد أحيانًا، ثم تراهم بعد ذلك لا ولاء لهم لله ولدينه وللمؤمنين، لا يهتمون بأمر النجاة من النار ومن سوء الخاتمة، بل لسان حالهم يقول: إن دخلنا الجنة فلا بأس، وإن دخلنا النار أيضًا فلا بأس!! فلا تجد في تصرفاتهم معنى الحرص على الجنة، وفرق بين تمني الجنة والحرص الفعلي عليها؛ إذ كيف يكون حريصًا على الجنة من ليس عنده أدنى استعداد لأن يُرهَق في شيء في سبيل الله، وفي سبيل الفوز بالجنة؟! كيف يكون حريصًا على الجنة من يتأول لنفسه مائة باب وباب ليستمر في المعصية ويتكاسل عن الطاعة؟! بل الجنة غدت عند كثيرين شيئًا في عالم القصص والأمثال.
فأين ذلك من شعور عباد الله المتقين الذين كانوا يحيون في الدنيا وكأنهم يرون الآخرة رأي العين، ويرون القبر رأي العين، ويرون النار رأي العين، وقلوبهم يقين بحقارة الدنيا وسرعة رحيلهم عنها، وما تركوا سبيلاً يقربهم إلى الجنة إلا سلكوه، ولا بابًا يوصلهم قريبًا منها إلا طرقوه؟! حتى بلغ الأمر أن بعضهم لم يكتفِ بالعبادة حتى تفكر فيما يحثه عليها، ونظر إلى من تدفعه رؤيته إليها. قال بعضهم: كنت إذا اعترتني فترة في العبادة نظرت إلى وجه محمد بن واسع وإلى اجتهاده، فعملت على ذلك أسبوعًا. وكان أبو الدرداء -رضي الله عنه- يقعد إلى القبور، فقيل له في ذلك، فقال: أجلس إلى قوم يذكروني معادي، وإن غبت لم يغتابوني.
وكان أبو الدرداء -رضي الله عنه- وسلمان الفارسي أخوين في الله، وفي حياتهما كثير من المواقف الدالة على زهدهما في الدنيا وحرصهما على الآخرة، بكى سلمان الفارسي عند موته فقيل له: ما يبكيك؟! فقال: عهد إلينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يكون زاد أحدنا كزاد الراكب، وحولي هذه الأزواد. وقيل: إنما كان حوله إجانة وجفنة ومطهرة.
وقال ميمون بن مهران: خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقبرة، فلما نظر إلى القبور بكى، ثم أقبل عليَّ فقال: يا ميمون: هذه قبور آبائي بني أمية، كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذاتهم وعيشهم، أما تراهم صرعى قد حلت بهم المثلات، واستحكم فيهم البلاء، وأصاب الهوام مقيلاً في أبدانهم؟! ثم بكى وقال: والله، ما أعلم أحدًا أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد أمن من عذاب الله تعالى.
فهكذا كان وقع آيات العذاب عليهم، وأثر أخبار القبر وما فيه على نفوسهم، وهكذا كل مؤمن على يقين أن ما قال الله كما قال، وأن عذابه يتحقق كما أراد، لابد وأن يتحرك في نفسه الخوف والوجل.
عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: يُلقى على أهل النار الجوع، فيعدل عندهم ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون بالطعام، فيغاثون بالضريع، لا يسمن ولا يغني من جوع، فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة، فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص بالشراب، فيستغيثون بالشراب، فيغاثون بالحميم، ينالونه بكلاليب من حديد، فإذا دنا منهم شوى وجوههم، وإذا دخل بطونهم قطع ما في بطونهم، فيطلبون إلى خزنة جهنم أن: (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ) [غافر: 49]، فيجيبونهم: (قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ) [غافر: 50]، فيقولون: سلوا مالكًا، فيقولون: (يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ)، فيقول: (إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) [الزخرف: 77]، فيقولون: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ) [المؤمنون:107]، فيقول -عز وجل-: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون: 108]. فعند ذلك ييأسون من كل خير، ويأخذون في الشهيق والويل والثبور.
ولسنا نعني بالخوف -إخوة الإسلام-: رقة آنيَّة، نبكي ساعة ثم نترك العمل، وإنما نريد خوفًا يمنع المعاصي، ويحث على الطاعة، فأما خوف الحمقى الذين اقتصروا على سماع الأهوال وأن يقولوا: استعنا بالله، نعوذ بالله، يا رب سلم. وهم مع ذلك مصرون على القبائح، والشيطان يسخر منهم كما يسخر ممن قصده سَبُع ضارٍ وهو إلى جانب حصن، فيقول: أعوذ بالله من هذا، وهو لا يدخل الحصن ولا يبرح مكانه. أتدرون ما الحصن وما دخوله؟! إنه الإذعان لله، وأداء أوامره، واجتناب نواهيه، فذاك هو الحصن الحصين الذي أمر الله بدخوله؛ إذ يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) أي في الإسلام بجميع شرائعه، (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [البقرة:208]، فمن دخل ذلك الحصن فقد أمن من عذاب الله في الآخرة وفاز بسعادة (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن الإيمان بالجنة والخوف من النار، إنما نقصد بهما حقيقتهما التي تدفع إلى العمل الجاد، كأن يرى الجنة والنار أمامه، ويشعر بالآخرة قريبة مقبلة، وبالدنيا حقيرة مدبرة، نريد مثل ذلك الإيمان الواعي والخوف الحقيقي الذي يدفع مثل عمير بن الحمام حين سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول يوم بدر: "والذي نفسي بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل، فيُقتل صابرًا محتسبًا مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة". فيقول عمير: أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء، وكان يأكل تمرات، فألقى بها وقاتل حتى قتل.
نريد إيمانًا كإيمان حنظلة بن عامر، نريد طلبًا للجنة وحورها كطلب حنظلة الذي سمع صيحة الحرب -وكان قد أعرس من الليلة- فخرج من توه إلى الهيجاء، تاركًا فراشه وعروسه؛ ليقاتل ويُقتل، وتغسله الملائكة، ويلقى دارًا خيرًا من داره، وحورًا تنتظرنه في الجنة خيرًا من أهله.
أمثال هؤلاء يستحقون الجنة، سلعة الله الغالية، وأولئك الذين يتقبل الله عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون. نعم، (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:111]، أما الكسالى المتميعون فما أبعدهم عن هذه البيعة، وعن تلك الصفقة المباركة الرابحة، لا تطلب من أحدهم اليوم أن يقدم روحه لدينه، ولا أن يراق دمه في سبيل الله، ولكن تقول له: لا تفعل تلك المعصية، لا تأكل الربا، أموالك التي في البنوك وتجني رباها وتضعه نارًا في بطنك، أما تتقي الله وتنهي معاملتك تلك المحرمة، فبماذا يجيبك؟! أتظنه حنظلة الذي يشتري الآخرة بالدنيا، أم تحسبه عمير بن الحمام الذي لم يعد يرى أمامه غير الجنة فلا يصبر عنها؟! كلا، إنما يقول لك: وماذا أفعل؟! إن الطرق الأخرى للكسب صعبة، أنا مضطر لتزويج الولد أو البنت أو لبناء مسكن يليق، والضرورات تبيح المحظورات، والشيخ فلان يقول: لا بأس. وإن كان ورعًا قال لك: وإن شاء الله إذا وجدت مصدرًا للكسب أفضل فسأنهي تلك المعاملة المحرمة... إلى آخره من إجابات المتميعين الذين لا حرص لهم على الجنة، وإنما هم أهل كلام وادعاء. ويا ليت حرصهم على الجنة كحرصهم على أي أمر من أمور دنياهم وأموالهم وأبدانهم، وترى أحدهم قد يشتكي شيئًا في بدنه أو يتوهمه، فيذهب للطبيب، فيفيده أنه سليم، ولا يحتاج إلى علاج، فيصر على أخذ علاج للوقاية، وإن اقتضى أن يمنع بعض الأشياء عن نفسه أو يتحمل مرارة العلاج، فهذا يقال عنه: إنه شديد الحرص على نفسه وعلى صحته وبدنه، ومثل ذلك الحرص كان ينبغي أن يكون على ما ينجي من النار ويدخل الجنة، ولكن لا تجد مع الأسف ذلك الحرص والصدق في طلب الجنة والفرار من النار.
وتقول للمرأة: ألا تخافين من عذاب الله وقد خالفتِ أمره وخلعت حجابك عنك، وخرجت في سوق الفتن؟! فلا تجد إلا تميعًا وتحججًا بسلامة الضمير وسلامة القصد، والله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وتقول للرجل: ألا تنزل إلى المسجد وهو تحت دارك أو بجوار دكانك؟! فكأنك تخاطب نفسك، وما كان منه إلا أن ينظر إليك نظرة استغراب، ويتحفك بمحاضرة في يسر الإسلام وكراهية التنطع. فأمثال تلك الكائنات الهشة والأوراق البالية، وأمثال هذه الموائع وتلك القطع الملتوية، على أي أساس تطمع فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؟!
وإنما أعد الله ذلك للعابدين المجاهدين، يقول الحق -تبارك وتعالى-: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:15-17]، (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [الذاريات:17-19].
فلا أدري –والله- متى نصل إلى تلك المراتب، فيا ليتنا من أهلها، ويقرأ الإنسان في صفات أهل الجنة المفلحين مثل قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) [المؤمنون:1]، ثم يقف يتأمل الصفات الواردة، ويتألم حين لا يكاد يجد نفسه قد تحقق بصفة أو صفتين منها (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون: 1، 2]، فهل يرى كل واحد منا أنه قد تحقق بهذه الصفة؟! ثم انظر إلى الأخرى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) [المؤمنون:3]، يا للأسى، والله عقبات بعد عقبات تريد من يقتحمها، ولا أدري متى يستطيع الإنسان أن يتخلص فعلاً من اللغو -وهو كل ما لا يثاب عليه الإنسان-؟! متى يصل الإنسان إلى تلك المرتبة التي يعرض فيها عن اللغو؟! وكلنا يعرف حاله وهي أنه أحيانًا لا يلغو.
(وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ) [المؤمنون:4]، فيا كل صاحب مال: هل جردت أموالك كل عام، وسألت أهل العلم عن نصابها وزكاتها، وأخرجتها في مصارفها الشرعية بلا رياء ولا سمعة؟!
(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) [المؤمنون: 5، 6]، وحفظ الفرج أمر عظيم يقتضي صيانته، وصيانة كل ما يتصل به من مؤثرات، كبصر وسمع ولسان، عن إحراز شهوة آثمة، فهل التزمنا بذلك؟!
(وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) [المؤمنون:8]، حفظ الأمانات، وأداء الحقوق، والوفاء بالوعود والعهود مع الله ومع الخلق، كم وعد وعهد أخلفناهما؟! وكم من أمانة أو حق قصرنا في حفظهما أو أدائهما؟!
(وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) [المؤمنون:9]، عليها جميعًا في أوقاتها وبصفاتها الشرعية وآدابها: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون: 10، 11]، وما أدراك ما الفردوس!! نعيم لا يعلوه نعيم، حيث لا أسقام ولا أمراض، ولا لغو ولا هموم ولا أحزان، ولا نصب ولا لغوب، ولا موت ولا ذهول، أهلها لا يَظلمون ولا يُظلمون، ولا يتباغضون ولا يتنافرون، لهم فيها ما يشتهون، ولا يبولون ولا يتغوطون، متحابون متصافون.. عيشة بلا كدر، وحياة بلا طواغيت وبلا مجرمين، لا يسبِّح فيها أحد بحمد طاغوت، لا اشتراكية ولا ديمقراطية ولا شيوعية ولا قومية ولا وطنية، إنما يسبِّحون بحمد ربهم، يلهمون التسبيح كما يلهمون النَفَس، وينتهون من نعيم ولذة ليشرعوا في نعيم ولذة، أهلها وجوههم ناعمة، وجوههم ناضرة، وقلوبهم راضية، ونفوسهم هانئة، خدمهم مخلدون، يطوفون عليهم، إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤًا منثورًا، فإذا كان ذلك حال خدمها فكيف حال أهلها؟!
فوا عجبًا لتلك الدار كيف نام طالبها؟! وكيف لم يسمع بمهرها خاطبها؟! وكيف طاب العيش في هذه الدار بعد سماع أخبارها؟! وكيف قرَّ للمشتاق القرار دون معانقة أبكارها؟! وكيف قرت دونها أعين المشتاقين؟! وكيف صبرت عنها أنفس الموقنين؟! وكيف صرفت عنها قلوب أكثر العالمين؟! وبأي شيء تعوضت عنها نفوس المعرضين؟! دار أهلها النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، دار أهلها المجاهدون المخلصون، يقول الحبيب المصطفى –صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله". نعم، المجاهد الذي يبذل روحه ودمه وكل ما يملك لينشر رسالة الله في الأرض؛ فالرسالة هي حياة العالم وروحه وسعادته، وهي الهداية التي يملك المجاهدون أن يهدوها للبشرية، نعم، مائة درجة في الجنة للمجاهدين الذين يجاهدون في سبيل الله، في كل زمان وفي كل مكان ليتحرر الإنسان، وينتصر الإسلام، وتعلو راية الإيمان، وتحكم شرعة الرحمن، ويكون الدين كله لله، يطلبون من الله الفضل والرضوان، والعتق من النيران، ولا يبتغون غير ذلك من شيء: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص:83].
اللهم اجعل لنا نصيبًا في تلك الدار، ولا تجعل مصيرنا إلى النار، واجعل الجنة لنا دار القرار.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
التعليقات