عناصر الخطبة
1/وجوب تعظيم الفرائض وتقديمها على ما دونها 2/تقديم النوافل على غيرها علامة جهل العبد وليس تقواه وأمثلة من الواقع 3/بالفرائض تبرأ ذمة العبد والنوافل جبران لهااقتباس
وَهَذِهِ الأَعْمَالُ مَعَ جَلَالَتِهَا إِلَّا أَنَّهُ لَا تُقَارَنُ بِأَيِّ حَالٍ مِنَ الأَحْوَالِ مَعَ مَا أَوْجَبَهُ اللهُ عَلَى العَبْدِ، فَمَحَبَّةُ اللهِ لِمَنَّ تَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِالفَرَائِضِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِمَّنْ تَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ، وَقَدْ...
الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ هَذَا الدِّينَ عَظِيمٌ وَدَقِيقٌ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، فَلَمْ يَتْرُكْ فُرْصَةً لِلْأَهْوَاءِ وَلَا لِلْأَمْزِجَةِ وَلَا لِلرَّغَبَاتِ الشَّخْصِيَّةِ لِلتَّفْضِيلِ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ بِالوَحْيِ، سَوَاءٌ فِي الكِتَابِ أَوْ فِي السُّنَّةِ، وَمِنْ ذَلِكَ تَعْظِيمُ الفَرَائِضِ عَلَى النَّوَافِلِ، وَإِنَّكَ لَتَعْجَبُ مِمَّنْ يُعَظِّمُونَ النَّوَافِلَ عَلَى الفَرَائِضِ، مَعَ وُرُودِ النَّصِّ الصَّرِيحِ، حَيْثُ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَـيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ …" الحَدِيثَ (رَوَاهُ البُخَارِيُّ)، وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي وَصِيَّتِهِ لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ: "اعْلَمْ أَنَّ لِلَّهِ عَلَيْكَ حَقًّا بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ، وَحَقًّا بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ النَّافِلَةَ حَتَّى تُؤَدِّيَ الفَرِيضَةَ"(ا. هـ).
فَالفَرَائِضُ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ النَّوَافِلِ، وَتَقْدِيمُ مَحْبُوبِ اللهِ لِنَيْلِ مَحَبَّةِ اللهِ مَطْلَبُ العُقَلَاءِ، وَنَهْجُ النُّبَلَاءِ، وَكَمَا قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ: "فَالْـمُتَقَرِّبُونَ إلَى اللَّهِ بِالفَرَائِضِ: هُمُ الْأَبْرَارُ الْـمُقْتَصِدُونَ أَصْحَابُ اليَمِينِ، وَالْـمُتَقَرِّبُونَ إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ الَّتِي يُحِبُّهَا بَعْدَ الفَرَائِضِ: هُمُ السَّابِقُونَ الْـمُقَرَّبُونَ، وَإِنَّمَا تَكُونُ النَّوَافِلُ بَعْدَ الفَرَائِضِ"(ا. هـ).
فَصِيَامُ القَضَاءِ لِـمَنْ عَلَيْهِ قَضَاءٌ فِي رَمَضَانَ أَوْلَى وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ صِيَامِ النَّفْلِ، وَإِنَّكَ لَتَعْجَبُ مِمَّنْ يَبْدَؤُونَ صِيَامَ السِّتِّ، وَهِيَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ وَقَضَاءُ مَا أَفْطَرُوهُ فِي رَمَضَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ مُتَعَلِّقٌ بِالذِّمَّةِ، وَالغَرِيبُ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُسَوِّفُ وَيُؤَجِّلُ القَضَاءَ حَتَّى يَضِيقَ الوَقْتُ عَلَيْهِ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ القَضَاءَ إِلَّا بَعْدَ رَمَضَانَ القَادِمِ، فَيَقَعُونَ فِي الْإِثْمِ.
وَمِنْ أُولَئِكَ -أَيْضًا- الَّذِينَ وَقَعَ مِنْهُمُ الخَلَلُ، مِمَّنْ تَرَاهُمْ فِي رَمَضَانَ، يَتَسَابَقُونَ فِي الوُصُولِ إِلَى مَسَاجِدَ عُرِفَ أَئِمَّتُهَا بِجَمَالِ الصَّوْتِ، وَيَسْمَعُونَ وَهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ مَسَاجِدَ تُقِيمُ لِصَلَاةِ العِشَاءِ وَعِنْدَهُمْ يَقِينٌ أَوْ شِبْهُ يَقِينٍ بِأَنَّهُمْ لَنْ يُدْرِكُوا الجَمَاعَةَ الأُولَى فِي المَسْجِدِ المَقْصُودِ، وَلَكِنْ لِجَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ فِقْهِهِمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُصَلُّوا مَعَ الإِمَامِ المَقْصُودِ، إِلَّا جَمَاعَةً مُنْفَرِدَةً، أَوْ يُصَلِّي هُوَ النَّفْلَ وَيُصَلُّونَ هُمْ بِنِيَّةِ الفَرْضِ فكان عليهم أن يتوقفوا ويصلوا الفرض لأنه أحب إلى الله من النفل الذي قصدوه.
الفَرَائِضُ -يَا عِبَادَ اللهِ- أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ النَّوَافِلِ. وَمِثَالُ ذَلِكَ: صَلَاةُ الفَجْرِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الفَجْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، فَأَجْرُ الْفَرْضِ أَعْظَمُ فِيهَا، وَصَلَاةُ الظُّهْرِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ رَاتِبَةِ الظُّهْرِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، أَوْ سِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، بَلْ وَأَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ صَوْمِ عَاشُورَاءَ أَوْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ، مع عظم أجور تلك الأعمال ولكن أجور الفرائض أعظم من أجور النوافل.
وَلَعَلَّ العِلَّةَ فِي ذَلِكَ كما قال الطوفي -رحمنا الله وإياه-: "الأَمْرُ بِالفَرَائِضِ جَازِمٌ وَيَقَعُ بِتَرْكِهَا الْمُعَاقَبَةُ بِخِلَافِ النَّفْلِ فِي الأَمْرَيْنِ وَإِنِ اشْتَرَكَ مَعَ الفَرَائِضِ فِي تَحْصِيلِ الثَّوَابِ فَكَانَتِ الفَرَائِضُ أَكْمَلَ؛ فَلِهَذَا كَانَتْ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ –تَعَالَى- وَأَشَدَّ تَقْرِيبًا، وَأَيْضًا فَالفَرْضُ كَالأَصْلِ وَالأُسِّ وَالنَّفْلُ كَالفَرْعِ وَالبِنَاءِ، وَفِي الإِتْيَانِ بِالفَرَائِضِ عَلَى الوَجْهِ المَأْمُورِ بِهِ امْتِثَالُ الأَمْرِ وَاحْتِرَامُ الآمِرِ وَتَعْظِيمُهُ بِالِانْقِيَادِ إِلَيْهِ وَإِظْهَارُ عَظَمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَذُلِّ العُبُودِيَّةِ فَكَانَ التَّقَرُّبُ بِذَلِكَ أَعْظَمَ العَمَلِ، وَالَّذِي يُؤَدِّي الفَرْضَ قَدْ يَفْعَلُهُ خَوْفًا مِنَ العُقُوبَةِ وَمُؤَدِّي النَّفْلِ لَا يَفْعَلُهُ إِلَّا إِيثَارًا لِلْخِدْمَةِ فَيُجَازَى بِالمَحَبَّةِ الَّتِي هِيَ غَايَةُ مَطْلُوبِ مَنْ يَتَقَرَّبُ بِخِدْمَتِهِ"(ا.هـ).
وَمِنَ العَجَائِبِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ يَنْشَغِلُ بِقِيَامِ اللَّيْلِ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَيْقِظَ لِصَلَاةِ الفَجْرِ، وَصَلَاةُ الفَجْرِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ جَمِيعِ النَّوَافِلِ، فكان الأولى أن يجمع بينهما.
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَنْ يَنْشَغِلُ بِالعِلْمِ أَوْ أَعْمَالِ البِرِّ أَوْ صِلَةِ الأَرْحَامِ المُسْتَحَبَّةِ، فَيُقَدِّمُهَا عَلَى مَا أَوْجَبَهُ اللهُ عَلَيْهِ مِنَ الطَّاعَاتِ، فَمَثَلًا تَجِدُهُ يَقُومُ بِتَوْزِيعِ الإِفْطَارِ عَلَى الصَّائِمِينَ، عِنْدَ إِشَارَاتِ المُرُورِ، أَوْ فِي غَيْرِهَا مِنْ مَوَاقِعِ الإِفْطَارِ، ثُمَّ لَا يُصَلِّي المَغْرِبَ في المسجد، مَعَ سَمَاعِهِ لِلْأذَانِ وَقُرْبِهِ مِنَ المَسَاجِدِ، وَلَكِنَّ عَاطِفَتَهُ وَحَمَاسَهُ وَقِلَّةَ فِقْهِهِ جَعَلَتْهُ يُؤْثِرُ النَّفْلَ غَيْرَ الوَاجِبِ عَلَى الفَرْضِ الوَاجِبِ، بَلْ قَدْ تَجِدُ بَعْضَ طَلَبَةِ العِلْمِ قَدْ يَنْشَغِلُ بِالعِلْمِ وَمُدَارَسَتِهِ وَتَفُوتُهُ الصَّلَاةُ أَوْ بَعْضُهَا.
وَهَذِهِ الأَعْمَالُ مَعَ جَلَالَتِهَا إِلَّا أَنَّهُ لَا تُقَارَنُ بِأَيِّ حَالٍ مِنَ الأَحْوَالِ مَعَ مَا أَوْجَبَهُ اللهُ عَلَى العَبْدِ، فَمَحَبَّةُ اللهِ لِمَنَّ تَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِالفَرَائِضِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِمَّنْ تَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[آل عمران: 31]؛ فَالتَّقَرُّبُ إِلَى اللهِ بِمَا أَوْجَبَهُ يَحْتَاجُ إِلَى مُكَابَدَةٍ وَمُجَاهَدَةٍ، وَفِيهِ النَّجَاةُ مِنْ عَذَابِهِ وَفِيهَا بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، فَفَرْضٌ وَاحِدٌ عَلَى حَسْبِ ظَاهِرِ الحَدِيثِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ جَمِيعِ النَّوَافِلِ، فَعَلَيْنَا مَعْرِفَةُ فِقْهِ الأَوْلَوِيَّاتِ، فَإِنَّ فِيهَا النَّجَاةَ وَلَا يَعْرِفُهَا إِلَّا مَنْ عَظُمَ فِقْهُهُ وَتَوَسَّعَتْ مَدَارِكُهُ، نَفَعَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ بِالقُرْآنِ العَظِيمِ وَرَزَقَنَا الفِقْهَ النَّافِعَ وَالعَمَلَ الصَّالِحَ.
عِبَادَ اللهِ: وَالتَّقَرُّبُ إِلَى اللهِ بِالفَرَائِضِ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الفَرِيضَةِ دُونَ النَّفْلِ، بَلْ حَتَّى إِذَا تَعَارَضَتِ الوَاجِبَاتُ قُدِّمَ الأَوْجَبُ، وَمِنْ ذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ الجِهَادُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي اكُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، وَامْرَأَتِي حَاجَّةٌ، قَالَ: "ارْجِعْ، فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ"(رَوَاهُ البُخَارِيُّ)؛ فَوَاجِبُ المَحْرَمِيَّةِ أَوْجَبُ مِنْ وَاجِبِ الجِهَادِ، بَلْ وَجَعَلَ بِرَّ الوَالِدَيْنِ أَوْجَبَ مِنَ الجِهَادِ لِحَدِيثِ الرَّجُلِ الَّذِي اسْتَأْذَنَهُ فِي الجِهَادِ، فَقَالَ: "أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟"، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ"(رَوَاهُ البُخَارِيُّ)؛ فدل على أن بر الوالدين أولى من الجهاد بكافة أنواعه وصوره إلا إذا عينه الإمام، فإنه مقدم على كافة أنواع البر، لأن فيه مصلحة عامة للأمة، والمصالح العامة عند التعارض مقدمة على المصالح الخاصة.
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا عِنْدَ تَعَارُضِ وَاجِبِ التَّحَلُّلِ لِلْحَاجِّ الَّذِي يُضَحِّي، فَهَلْ يَأْخُذُ مِنْ شَعْرِهِ لِأَنَّهُ مَنْسَكٌ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، أَمْ يُمْسِكُ حَتَّى يَذْبَحَ أُضْحِيَتَهُ؟ فَهُنَا وَاجِبُ الحَجِّ مُقَدَّمٌ عَلَى وَاجِبِ الأُضْحِيَةِ، فَعَلَيْهِ حَلْقُ شَعْرِ رَأْسِهِ أَوِ التَّقْصِيرُ مِنْهُ، وَلَوْ لَمْ يَذْبَحْ أُضْحِيَتَهُ.
وَمِنْ ذَلِكَ العِلْمُ، فَالعِلْمُ بِضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَعِلْمُ العَقِيدَةِ مُقَدَّمٌ فِي ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ العُلُومِ، لِأَنَّ بِهِ يُعْرَفُ الحَقُّ مِنَ البَاطِلِ فِي المُعْتَقَدَاتِ، وَالمَسْنُونُ مِنَ المُبْتَدَعِ فِي العِبَادَاتِ. وَكَذَلِكَ بِرُّ الوَالِدَيْنِ وَالإِحْسَانُ إِلَيْهِمَا مُقَدَّمٌ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِ النَّفْلِ، فَبِرُّ الوَالِدَيْنِ عِنْدَ احْتِيَاجِهِمَا مُقَدَّمٌ عَلَى حَجِّ النَّفْلِ، وَهَكَذَا نَعْلَمُ بِأَنَّ الفُرُوضَ لَا تُقَدَّمُ عَلَى النَّوَافِلِ فَقَطْ، بَلْ إِنَّ الفُرُوضَ وَالوَاجِبَاتِ يُقَدَّمُ الأَوْلَى مِنْهُمَا فَمَعْرِفَةُ فِقْهِ الأَوْلَوِيَّاتِ يُزِيلُ عَلَى الإِنْسَانِ كَثِيرًا مِنَ الحَرَجِ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
عِبَادَ اللهِ: ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَ التَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ بِالفَرَائِضِ، التَّقَرُّبُ إِلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ، فَيَنَالُ بِالتَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ مَحَبَّةَ اللهِ، لِأَنَّهُ إِذَا أَدَّى الفَرَائِضَ وَدَاوَمَ عَلَى إِتْيَانِ النَّوَافِلِ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَغَيْرِهِمَا أَفْضَى بِهِ ذَلِكَ إِلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ -سبحانه وتَعَالَى- له؛ فَالنَّافِلَةُ لَا تُقَدَّمُ عَلَى الفَرِيضَةِ؛ لِأَنَّ النَّافِلَةَ إِنَّمَا سُمِّيَتْ نَافِلَةً لِأَنَّهَا تَأْتِي زَائِدَةً عَلَى الفَرِيضَةِ؛ فَمَا لَمْ تُؤَدَّ الفَرِيضَةُ لم تبرأ الذمة، وَمَنْ أَدَّى الفَرْضَ ثُمَّ زَادَ عَلَيْهِ النَّفْلَ وَأَدَامَ ذَلِكَ تَحَقَّقَتْ مِنْهُ إِرَادَةُ التَّقَرُّبِ؛ لِأَنَّ فِي النَّافِلَةِ جَبْرًا لِنَقْصِ الفَرَائِضِ، فَلْنُكْثِرْ مِنَ النَّوَافِلِ كَنَوَافِلِ الصَّلَاةِ، والصَّدَقَةِ، وَالصَّوْمِ، والْحَجِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النَّوَافِلِ فَلَا يَزَالُ العَبْدُ يَتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى يُحِبَّهُ اللهُ، فَإِذَا أَحَبَّهُ اللهُ كَانَ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَهُ لَيُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَهُ لَيُعِيذَنَّهُ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ لِصَاحِبِهِ إِلَّا إِذَا قَدَّمَ الفَرَائِضَ عَلَيْهَا.
التَّقَرُّبُ إِلَى اللهِ بِالنَّوَافِلِ يَحْتَاجُ إِلَى مُجَاهَدَةٍ وَمُكَابَدَةٍ، لِأَنَّهُ لَا تُؤَدَّى جَمَاعَةً، فَنَجِدُ الصَّلَوَاتِ المَفْرُوضَةَ بِفَضْلِ اللهِ أَيْسَرَ مِنَ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ، وَنَجِدُ صِيَامَ رَمَضَانَ أَيْسَرَ مِنْ صِيَامِ أَيَّامِ السِّتِّ وَالْبِيضِ، لِأَنَّهَا لَا تُؤَدَّى جَمَاعَةً يَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُ النَّاسِ، بِعَكْسِ رَمَضَانَ الَّذِي يَصُومُهُ أَهْلُ الإِسْلَامِ، وَلِذَا نَجِدُ أَنَّ صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ فِي رَمَضَانَ، مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِ رَكْعَاتِهَا وَطُولِهَا لِأَنَّهَا تُؤَدَّى جَمَاعَةً أَيْسَرُ عَلَى عَامَّةِ النَّاسِ مِنْ رَكْعَةِ وِتْرٍ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، وَلَعَلَّ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِنَا، أَنَّهُ جَعَلَ الفَرَائِضَ هِيَ الأَوْلَى بها تبرأ الذمة، فَعَلَيْنَا إِشَاعَةُ ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ مَعَ الحِرْصِ عَلَى حَثِّهِمْ عَلَى النَّوَافِلِ.
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا الفِقْهَ فِي الدِّينِ.
التعليقات