عناصر الخطبة
1/ الوقت هو عمر الإنسان 2/ تنوع فرص استغلال وقت المسلم 3/ كثرة مشاغل الدنيا وشهواتها 4/ قلة اغتنام الأوقات في الصالحات 5/ أصناف الناس بعد التقاعد عن العمل 6/ مضار التقاعد وفوائده.اهداف الخطبة
اقتباس
إن مما غُبن فيه كثير من عباد الله، فلا يحسنون استغلاله هو فراغ الإنسان من عمل الدنيا الراتب، وذلك عندما يبلغ سن التقاعد، ويُحال عن العمل أو يطلب التقاعد المبكر، والناس في ذلك أصناف كل منهم قد سلك طريقاً يخسر فيه، وقليل منهم الذي يسلك سبيل الرشاد. فمنهم الكئيب الحزين، ومنهم الفرح المغتبط، ومنهم من أهمه وقته وكيف يقضيه، ومنهم من ساورته الشكوك والأوهام والوساوس.. ومنهم الذي قد أعد العدة ليخوض غمار التجارة والعقار، ومنهم الذي قرر شراء أرض زراعية وهلم جرا، وقليل منهم من قال: ذهب العمر، والواجب العكوف على الطاعة، فالرحيل قريب، وما يأتيني من الرزق كافٍ حتى وقت الرحيل. وتذكر بتقاعده عن العمل: تقاعده عن الدنيا بأسرها، فجد واجتهد لآخرته...
الخطبة الأولى:
الحمد لله ...،
أما بعد: معاشر المؤمنين:
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه *** وأراه أسهل ما عليك يضيع
لقد افترق الناس في أفكارهم ومفاهيمهم تجاه استغلال الوقت، فمن شاطح إلى معتدل إلى غالٍ في ذلك، والسعيد من وفق لحفظ وقته.
فالوقت هو عمر الإنسان، والعمر هو أغلى ما يملكه ابن آدم، فإما أن يكون عمره نعمة عليه أو نقمة، والعياذ بالله.
أيها المؤمنون: إن فرص استغلال وقت المسلم تتاح أحيانًا وتصعب أخرى، والواجب على المسلم متى ما أُتيحت له فرصة استغلال الوقت أن يسعى بكل طاقته لانتهاز هذه الفرصة التي ربما لا تتعوض مرة أخرى، وهذا ما أشار إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "اغتنم خمسًا قبل خمس"، وذكر منها: "فراغك قبل شغلك".
فما هي فرص استغلال الوقت التي تمر على العبد في هذه الحياة؟ هي كثير جدًّا، يكفي منها أنك من الأحياء، فالحياة بحد ذاتها فرصة لكسب الخيرات، ولكن الأحياء جميعًا يشتركون في فرص معينة، منها: إجازة الأسبوع الخميس والجمعة، ومنها: الإجازة الرسمية عن العمل، كالصيف ونحوها، ومنها: وقت الفراغ العارض، في أثناء اليوم.
ومنها: نظام التقاعد، الذي يحيل المرء عن العمل، والأوقات كثيرة جدًّا، ونحن ننظر إليها من جهتين، الأولى: عدم استغلالها بما يعود بالنفع على المسلم، الثانية: أن القلوب إذا ازدحمت عليها الأعمال لم تتفرغ للمطلوب الأسمى، ألا وهو عبادة الله تعالى.
عبا د الله: إن أعمال هذه الحياة تزدحم على المسلم حتى إنها لتشغله عن أمر الآخرة، إلا من رحم الله.
بل إنها لتزدحم على قلب المسلم فلربما تربعت فيه وأزاحت كل ما يدعوه إلى أمر الآخرة، ولهذا متى ما ابتعد المسلم عن مشاغل الدنيا، هدأت نفسه، وسكن قبله، وذاق لذة الراحة والعبادة.
ومما يظهر لنا أن الغالبية العظمى من الناس قد خسروا في مسألة اغتنام الأوقات، إلا من رحم الله، أخرج البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس قال -صلى الله عليه وسلم-: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ"، ومعنى مغبون: أي لم يستعملها كالمرابح الذي غُبن في صفقته، فخسر ولم يربح.
معاشر المؤمنين: إن طرق استغلال الوقت كثيرة جدًّا، فما على العبد إلا أن يستشعر قيمة الزمن، ويفاضل بين الأعمال، ويسعى جاهداً في تحصيلها، ولا يتسنى للمرء هذا الفعل إلا إذا تدبر في الغاية التي من أجلها خُلق وعُمر هذه الأرض، فإذا علم العبد أنه خُلق لعبادة الله -جل وعلا-، علم أن كل شواغل الدنيا مهما عظمت فإنها ما لم تعين على طاعة الله -جل وعلا- فهي من ضياع الوقت المحذر منه، أخرج الترمذي في جامعه من حديث أبي هريرة قال -صلى الله عليه وسلم-: "الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً أو متعلماً".
ولقد قال المولى سبحانه: (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [لقمان: 33]، والمعنى: لا تغرنكم الحياة الدنيا بشغلكم عما ينفعكم عند وقوع وعد الله ولقائه سبحانه.
أيها المؤمنون: ألا ترون إلى مشاغل الدنيا وشهواتها، كيف تشغل المرء عن طاعة ربه، وأعظم من ذلك شغلها لقلبه، فقلبه مشغوف بحبها، تعلقت الدنيا بنياط قلبه، فبها يفكر ولها يعمل حتى أصبح وكأنه خُلق لجمع حطامها، والله المستعان.
فتجد بعض الخلق من بكرة يومه وهو في عمل الدنيا، وحتى نهاية يومه مساء، وهو في دأب مستمر، وكأن الفقر يلوح بين عينيه يهدده بالهلاك، والشيطان يعده ويمنيه، فبالله عليكم أي وقت جعل هذا لربه؟! ثم لأهله؟
أخرج الإمام أحمد من حديث ابن عباس قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما لي وللدنيا، ما لي للدنيا، والذي نفسي بيده ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من النهار ثم راح وتركها".
أيها المؤمنون: لقد كان سلف الأمة في حذرهم من الدنيا وفتنتها مضرب للمثل، فلقد كانت الدنيا في أيديهم والآخرة في قلوبهم، فإذا عرض لهم أمر الآخرة رموا بالدنيا وأقبلوا على الآخرة، (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [النور: 36- 37].
فهذا حماد بن سلمة -رحمه الله- يجلس في السوق ويبسط بضاعته، فإذا باع ما يقوته يومه وليليته شد بضاعته وانصرف، ويقول: هذا رزق اليوم، ورزق غد عند الله.
وأخرج الترمذي في جامعه من حديث أنس قال -صلى الله عليه وسلم-: "من كانت الآخرة همه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له".
ألا فليتدبر كل منا حاله، وليعرف مصيره ومآله، ولنحذر من الغبن في الدنيا، فإنه علامة للغبن في الآخرة.
وليعد المسلم على نفسه بالمحاسبة، فما كان من الأعمال للدنيا صرفا فليبرأ منه، وليقبل على أمور الآخرة حتى يتذوق حلاوة الإيمان.
اللهم أيقظنا من الرقدات، وأعذنا من الفتن والمضلات.
الخطبة الثانية:
معاشر المؤمنين: إن المسلم في هذه الحياة ليس عنده وقت فراغ من الأعمال، بل هو دائم الطاعة لله تعالى.
كما قال جل وعلا: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) [الشرح: 7- 8]، فهو يعمل لقوت يومه، وما يطعمه ولده، ثم ينصب لعبادة ربه، ويرغب إليه في الدعاء.
عباد الله: إن مما غُبن فيه كثير من عباد الله، فلا يحسنون استغلاله هو فراغ الإنسان من عمل الدنيا الراتب، وذلك عندما يبلغ سن التقاعد، ويُحال عن العمل أو يطلب التقاعد المبكر، والناس في ذلك أصناف كل منهم قد سلك طريقاً يخسر فيه، وقليل منهم الذي يسلك سبيل الرشاد.
فمنهم الكئيب الحزين، ومنهم الفرح المغتبط، ومنهم من أهمه وقته وكيف يقضيه، ومنهم من ساورته الشكوك والأوهام والوساوس، فجعل يتساءل هل أصبحت عضواً مبتوراً من المجتمع عاطلاً مستغنًى عنه، أما ماذا؟!
ومنهم الذي قد أعد العدة ليخوض غمار التجارة والعقار، ومنهم الذي قرر شراء أرض زراعية وهلم جرا، وقليل منهم من قال: ذهب العمر، والواجب العكوف على الطاعة، فالرحيل قريب، وما يأتيني من الرزق كافٍ حتى وقت الرحيل. وتذكر بتقاعده عن العمل: تقاعده عن الدنيا بأسرها، فجد واجتهد لآخرته.
معاشر المسلمين: إن التقاعد له مضار وفوائد، فمن أحسن استغلاله فاز بالفوائد وسلم من المضار، فإن العبد يتقاعد عن العمل في سن الستين أو قريب منه، وهو سن قد ضعف فيه العبد ورق عظمه، واقترب أجله، مهما كانت قوته، فإن النهاية قد اقتربت، أخرج الترمذي في جامعه من حديث أبي هريرة قال -صلى الله عليه وسلم-: "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك"، وفي رواية "معترك المنايا ما بين الستين والسبعين".
فهذا خبر من الصادق المصدوق، أن من بلغ الستين فقد تم سنه واقترب رحيله، حتى قال بعض المفسرين في قوله: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) [فاطر: 37]، قال: هو عمر الستين، فالعاقل اللبيب من أدرك هذا السن، ألا يكون عليه وبالاً، فيُغبن في وقته، وينشغل بالدنيا عن الدين، وتتسلط عليه الأوهام، ويضيع وقته بالسهر والمفرط، أو السفر الكثير، وينشغل عن تربية أولاده، وعمارة أوقاته بالطاعة.
والواجب على من بلغ هذا السن أن يسعى في تحسين أعماله حتى يقدم على ربه بأعمال صالحات، وقد كان السلف يدأبون في الطاعة وقت الشباب، فإذا شاب أحدهم اجتهد أكثر مما كان قبل.
روى صالح بن موسى الطلحي عن أبيه قال: اجتهد أبو موسى الأشعري قبل موته، اجتهاداً شديداً، فقيل له: لو أمسكت ورفقت بنفسك، قال: "إن الخيل إذا أُرسلت فقاربت رأس مجراها، أخرجت جميع ما عندها والذي بقي من أجلي أقل من ذلك".
عباد الله: إن الواجب على المكلفين جميعاً، أن يتفرغوا لطاعة الله، وألا تشغلهم الدنيا عن الطاعة، إلا بقدر كسب القوت والحاجات، وأما من بلغ الستين أو جازها فما له عذر عن الانكباب على الطاعة، فيا من أحلت عن العمل ضع لنفسك جدولاً، ونظّم وقتك فيما يعود عليك بالنفع.
فإنك ترى كثيرًا من المتقاعدين لم تتغير حاله في الطاعة عما هو عليه قبل التقاعد، فلا زال في مؤخرة الصفوف في الصلاة، ولا زال يصلي في البيت أحيانًا، ولا زال هاجرًا للقرآن، ولم يتزود من أمور الآخرة وكأنه انتقل من عمل إلى عمل آخر، فيا سبحان الله.!
فأين أنت عن قيام الليل، ومناجاة رب الأرض والسماوات، فلقد جعل الله لك في النهار خلفًا عن الليل، بل أين أنت من قراءة القرآن وختمه وتعلمه، وحفظ ما تيسر منه.
وأين أنت من التزود من العلم في القراءة في تفسير القرآن وسنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
لقد تفرغت أيضًا لأولادك ولتحسن إليهم وتأطرهم على الأخلاق الفاضلة والآداب الإسلامية، وتحافظ عليهم من مجاري السوء وأهله.
أيها المؤمنون: إن الدنيا لها بنون والآخرة لها بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، رحمكم الله.
وإن الدنيا قد ولت وآذنت بصرم، فتزودوا بالطاعات قبل الممات، واغتنموا النشاط قبل ذهاب القوة وفتور العزيمة.
اللهم أعنا على اغتنام أوقاتنا بالطاعات يا كريم.
التعليقات