عناصر الخطبة
1/ استثمار التعليم في الإنسان أعظم استثمار 2/ التجربة الأيوبية في إحياء الأمة بالتعليم وإزالة الجهل 3/ رسالة للقائمين على العملية التعليمية وللمتعلميناقتباس
أَعْظَمُ مَجَالٍ لِلِاسْتِثْمَارِ هُوَ الْإِنْسَانُ، وَأَرْبَحُ مَا يَسْتَثْمِرُهُ الرَّجُلُ اسْتِثْمَارُهُ فِي أَوْلَادِهِ بِتَرْبِيَتِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ مَا يَنْفَعُهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَأَعْظَمُ تَرِكَةٍ يُخَلِّفُهَا الرَّجُلُ لِوَلَدِهِ مَعْرِفَةٌ وَأَدَبٌ؛ فَبِالْمَعْرِفَةِ يَسُودُ، وَبِالْأَدَبِ يَمْلِكُ الْقُلُوبَ، وَالْمَعْرِفَةُ وَالْأَدَبُ هُمَا مِفْتَاحَا النَّجَاحِ...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْأَعْلَى؛ خَلَقَ فَسَوَّى، وَقَدَّرَ فَهَدَى، وَإِلَيْهِ الرُّجْعَى، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ فَضَّلَ الْعِلْمَ عَلَى الْجَهْلِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ سَبَبٌ لِلْهُدَى، وَلِأَنَّ الْجَهْلَ سَبَبٌ لِلضَّلَالَةِ (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزُّمَرِ: 9]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَرْسَلَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- بِدِينِ الْحَقِّ؛ لِيُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، فَفَتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَاعْتَبِرُوا بِمُرُورِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ، وَانْقِضَاءِ الشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَارِكُمْ. وَقَدْ كُنْتُمْ تَنْتَظِرُونَ هذا الْعَامَ وَالآنَ تُوَدِعُونَهُ وتَنْتَظِرُونَ عَامًا جَدِيدًا، وَكَانَ أَوْلَادُكُمْ بِالْأَمْسِ يُوَدِّعُونَ الْمَدَارِسَ وَهُمُ الْآنَ يَعُودُونَ إِلَيْهَا، وَمَا انْقِضَاءُ الْأَعْوَامِ إِلَّا مِنْ أَعْمَارِنَا، فَلْنَسْتَوْدِعْ فِيهَا الْيَوْمَ عَمَلًا صَالِحًا نَجِدْهُ غَدًا أَمَامَنَا (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزَّلْزَلَةِ: 6 - 8].
أَيُّهَا النَّاسُ: أَعْظَمُ مَجَالٍ لِلِاسْتِثْمَارِ هُوَ الْإِنْسَانُ، وَأَرْبَحُ مَا يَسْتَثْمِرُهُ الرَّجُلُ اسْتِثْمَارُهُ فِي أَوْلَادِهِ بِتَرْبِيَتِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ مَا يَنْفَعُهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَأَعْظَمُ تَرِكَةٍ يُخَلِّفُهَا الرَّجُلُ لِوَلَدِهِ مَعْرِفَةٌ وَأَدَبٌ؛ فَبِالْمَعْرِفَةِ يَسُودُ، وَبِالْأَدَبِ يَمْلِكُ الْقُلُوبَ، وَالْمَعْرِفَةُ وَالْأَدَبُ هُمَا مِفْتَاحَا النَّجَاحِ. وَالنَّجَاحُ فِي الْحَيَاةِ يَأْتِي بِالْمَالِ، وَلَا يَأْتِي الْمَالُ بِالنَّجَاحِ. وَكَمْ مِنْ أَبٍ وَرَّثَ لِأَوْلَادِهِ ثَرَوَاتٍ طَائِلَةً بَدَّدُوهَا فِيمَا يَضُرُّهُمْ، وَكَمْ مِنْ أَبٍ لَمْ يُخَلِّفْ لِذُرِّيَّتِهِ إِلَّا مَعْرِفَةً وَأَدَبًا عَاشُوا بِهَا أَعِزَّةً أَغْنِيَاءَ، نَفَعُوا أَنْفُسَهُمْ وَأُمَّتَهُمْ.
وَتَجَارِبُ إِحْيَاءِ الْأُمَمِ بِالْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ، وَإِزَالَةِ الْجَهْلِ وَالتَّجْهِيلِ عَدِيدَةٌ، وَفِي الْقَرْنَيْنِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ الْهِجْرِيَّيْنِ دَبَّ الضَّعْفُ فِي أُمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَانْتَشَرَ فِيهَا الْجَهْلُ، وَتَسَلَّطَ عَلَيْهَا الْبَاطِنِيُّونَ فَأَسَّسُوا دُوَيْلَاتٍ صَغِيرَةً خَرَجَتْ عَنْ نَسِيجِ الدَّوْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَصَارَتْ خَنَاجِرَ فِي خَاصِرَةِ الْأُمَّةِ، فَنَشَأَتِ الدَّوْلَةُ الْحَمْدَانِيَّةُ الْبَاطِنِيَّةُ فِي بَعْضِ بِلَادِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ، وَظَهَرَتِ الدَّوْلَةُ الْبُوَيْهِيَّةُ الْبَاطِنِيَّةُ فِي بِلَادِ فَارِسَ وَالْعِرَاقِ، وَتَمَكَّنَتِ الدَّوْلَةُ الْعُبَيْدِيَّةُ الْبَاطِنِيَّةُ فِي مِصْرَ، وَتَنَمَّرَتِ الدَّوْلَةُ الْقِرْمِطِيَّةُ الْبَاطِنِيَّةُ فِي الْإِحْسَاءِ، وَكَانَتِ الْمَذَاهِبُ الْبَاطِنِيَّةُ تَنْخِرُ جَسَدَ الْأُمَّةِ الْمُسْلِمَةِ، وَعَقَائِدُهُمْ تَتَمَكَّنُ مِنَ الْعَوَامِّ فَتَفْتِكُ بِهِمْ. ثُمَّ زَحَفَ الصَّلِيبِيُّونَ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَاحْتَلُّوهُ، وَأَنْشَئُوا أَرْبَعَ إِمَارَاتٍ صَلِيبِيَّةٍ فِي بِلَادِ الشَّامِ. فَكَانَتِ الْأُمَّةُ الْمُسْلِمَةُ تُوَاجِهُ عَدُوًّا صَلِيبًا شَرِسًا، وَعَدُوًّا بَاطِنِيًّا يَتَغَلْغَلُ بِعَقَائِدِهِ فِي الْعَامَّةِ، وَتُوَاجِهُ جَهْلًا مَكَّنَ لِلصَّلِيبِيِّينَ وَالْبَاطِنِيِّينَ أَنْ يَطَئُوا بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ وَيَسْتَبِيحُوهَا، مَعَ تَفَرُّقٍ وَاخْتِلَافٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَكَانَ لَا بُدَّ لِمُوَاجَهَةِ هَذَا الْعَدُوِّ الثُّلَاثِيِّ مِنْ نَشْرِ الْعِلْمِ فِي الْأُمَّةِ، وَرَفْعِ الْجَهْلِ عَنْ أَفْرَادِهَا، وَزِيَادَةِ الْوَعْيِ فِيهَا، فَانْتَبَهَ لِذَلِكَ الْوَزِيرُ السَّلْجُوقِيُّ نِظَامُ الْمُلْكِ الطُّوسِيُّ، وَسَخَّرَ نُفُوذَهُ فِي إِنْشَاءِ الْمَدَارِسِ، وَالْوَقْفِ عَلَيْهَا، وَالْعِنَايَةِ بِالْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ، وَأَكْمَلَ مَسِيرَةَ الْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ نُورُ الدِّينِ زِنْكِي الَّذِي كَانَ مُحِبًّا لِلْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ بَنَى مَدْرَسَةً لِلْحَدِيثِ، وَأَوْقَفَ عَلَيْهَا الْأَوْقَافَ.
فَلَمَّا خَلَفَهُ صَلَاحُ الدِّينِ، انْتَزَعَ مِصْرَ مِنَ الْعُبَيْدِيِّينَ الْبَاطِنِيِّينَ، وَكَانَ الْمَذْهَبُ الْبَاطِنِيُّ مُتَغَلْغِلًا فِيهَا، فَوَجَّهَ هِمَّتَهُ إِلَى إِكْمَالِ الْمَسِيرَةِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي بَدَأَهَا نِظَامُ الْمُلْكِ فِي الْعِرَاقِ، وَنُورُ الدِّينِ فِي الشَّامِ، فَابْتَنَى الْمَدَارِسَ فِي مِصْرَ، قَالَ الْمَقْرِيزِيُّ فِي الْخِطَطِ: "فَلَمَّا انْقَرَضَتِ الدَّوْلَةُ الْفَاطِمِيَّةُ عَلَى يَدِ السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ أَبْطَلَ مَذَاهِبَ الشِّيعَةِ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ، وَأَقَامَ بِهَا مَذْهَبَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَمَذْهَبَ الْإِمَامِ مَالِكٍ، وَاقْتَدَى بِالْمَلِكِ الْعَادِلِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ زِنْكِي، فَإِنَّهُ بَنَى بِدِمَشْقَ وَحَلَبَ وَأَعْمَالِهِمَا عِدَّةَ مَدَارِسَ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَبَنَى لِكُلٍّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ مَدْرَسَةً بِمَدِينَةِ مِصْرَ. وَأَوَّلُ مَدْرَسَةٍ أُحْدِثَتْ بِدِيَارِ مِصْرَ الْمَدْرَسَةُ النَّاصِرِيَّةُ بِجِوَارِ الْجَامِعِ الْعَتِيقِ بِمِصْرَ، ثُمَّ الْمَدْرَسَةُ الْقَمْحِيَّةُ الْمُجَاوِرَةُ لِلْجَامِعِ أَيْضًا، ثُمَّ الْمَدْرَسَةُ السُّيُوفِيَّةُ الَّتِي بِالْقَاهِرَةِ، ثُمَّ اقْتَدَى بِالسُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ فِي بِنَاءِ الْمَدَارِسِ بِالْقَاهِرَةِ وَمِصْرَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَعْمَالِ مِصْرَ وَبِالْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ وَالْجَزِيرَةِ أَوْلَادُهُ، وَأُمَرَاؤُهُ، ثُمَّ حَذَا حَذْوَهُمْ مَنْ مَلَكَ مِصْرَ بَعْدَهُمْ مِنْ مُلُوكِ التُّرْكِ وَأُمَرَائِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا".
وَذَكَرَ الْمَقْرِيزِيُّ أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، هَدَمَ سِجْنًا أَقَامَهُ الْعُبَيْدِيُّونَ وَابْتَنَى مَكَانَهُ مَدْرَسَةً عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَهِيَ أَوَّلُ مَدْرَسَةٍ عُمِلَتْ بِدِيَارِ مِصْرَ، وَأُوقِفَ عَلَيْهَا.
كَانَ صَلَاحُ الدِّينِ يَقْصِدُ قُصُورَ الْعُبَيْدِيِّينَ، وَبُيُوتَ وُزَرَائِهِمْ، فَيُحَوِّلُهَا إِلَى مَدَارِسَ، وَيُوقِفُ عَلَيْهَا أَوْقَافًا جَيِّدَةً لِيَسْتَمِرَّ عَطَاؤُهَا.
وَكَانَ وُزَرَاءُ صَلَاحِ الدِّينِ وَرِجَالُ دَوْلَتِهِ وَأَغْنِيَاؤُهَا يَتَنَافَسُونَ فِي بِنَاءِ الْمَدَارِسِ حَتَّى كَثُرَتْ فِي مِصْرَ، وَانْتَشَرَ بِهَا الْعِلْمُ وَالْمَعْرِفَةُ، وَرُفِعَ الْجَهْلُ، وَتَلَاشَتِ الْمَذَاهِبُ الْبَاطِنِيَّةُ. بَلْ وَشَارَكَتِ النِّسَاءُ الثَّرِيَّاتُ فِي بِنَاءِ الْمَدَارِسِ، فَابْتَنَى عَدَدٌ مِنْهُنَّ مَدَارِسَ، وَأَوْقَفْنَ عَلَيْهَا أَوْقَافًا لِضَمَانِ بَقَائِهَا. يَقُولُ الْمَقْرِيزِيُّ مُبَيِّنًا أَثَرَ الْمَدَارِسِ الَّتِي أَنْشَأَهَا صَلَاحُ الدِّينِ فِي مِصْرَ: "وَاخْتَفَى مَذْهَبُ الشِّيعَةِ وَالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ وَالْإِمَامِيَّةِ حَتَّى فُقِدَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ كُلِّهَا".
وَلَمَّا اسْتَرَدَّ صَلَاحُ الدِّينِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ مِنَ الصَّلِيبِيِّينَ فِي أُخْرَيَاتِ الْقَرْنِ السَّادِسِ بَادَرَ بِبِنَاءِ مَدْرَسَةٍ فِي الْقُدْسِ، وَعَهِدَ بِإِدَارَتِهَا لِلْقَاضِي بَهَاءِ الدِّينِ بْنِ شَدَّادٍ، فَكَثُرَتْ وُفُودُ طَالِبِي الْعِلْمِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، كَمَا أَمَرَ صَلَاحُ الدِّينِ بِتَنْظِيمِ الْعَمَلِ فِي شَتَّى الْمَدَارِسِ الَّتِي أَنْشَأَهَا عَلَى اخْتِلَافِ تَخَصُّصَاتِهَا فِي أُمُورِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، فَكَانَ الْقَائِمُونَ بِالتَّدْرِيسِ يَنْقَسِمُونَ إِلَى فَرِيقَيْنِ: فَرِيقِ الْمُدَرِّسِينَ، وَهُمُ الْأَسَاتِذَةُ الْمُتَبَحِّرُونَ فِي الْعِلْمِ. وَفَرِيقِ الْمُعِيدِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِإِعَادَةِ مَا يُلْقِيهِ الْمُدَرِّسُونَ عَلَى الطُّلَّابِ، وَيَشْرَحُونَ لَهُمْ مَا عَسَرَ عَلَيْهِمْ.
وَقَدْ زَارَ ابْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْدَلُسِيُّ فِي رِحْلَتِهِ الْمَشْهُورَةِ مِصْرَ، وَرَأَى تِلْكَ الْمَدَارِسَ وَمَا أُوقِفَ عَلَيْهَا، وَقَالَ: "وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ الْقَرَافَةَ -وَهِيَ مِنْ أَعْمَالِ الْفُسْطَاطِ فِي مِصْرَ- كُلُّهَا مَسَاجِدُ مَبْنِيَّةٌ، وَمَشَاهِدُ مَعْمُورَةٌ، يَأْوِي إِلَيْهَا الْغُرَبَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالصُّلَحَاءُ وَالْفُقَرَاءُ، وَالْأُجَرَاءُ عَلَى كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهَا مُتَّصِلٍ مِنْ قِبَلِ السُّلْطَانِ فِي كُلِّ شَهْرٍ، وَالْمَدَارِسُ الَّتِي بِمِصْرَ وَالْقَاهِرَةِ كَذَلِكَ".
وَنَقَلَ الْقَاضِي ابْنُ شَدَّادٍ أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ كَانَ يُكْرِمُ مَنْ يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَشَايِخِ وَأَرْبَابِ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ وَذَوِي الْأَقْدَارِ، قَالَ: "وَكَانَ يُوصِينَا بِأَنْ لَا نَغْفُلَ عَمَّنْ يَجْتَازُ بِالْخِيَمِ مِنَ الْمَشَايِخِ الْمَعْرُوفِينَ حَتَّى يُحْضِرَهُمْ عِنْدَهُ، وَيَنَالَهُمْ مِنْ إِحْسَانِهِ".
قَالَ ابْنُ شَدَّادٍ يَصِفُ صَلَاحَ الدِّينِ: "وَكَانَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- شَدِيدَ الرَّغْبَةِ فِي سَمَاعِ الْحَدِيثِ، وَمَتَى سَمِعَ عَنْ شَيْخٍ ذِي رِوَايَةٍ عَالِيَةٍ وَسَمَاعٍ كَثِيرٍ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَحْضُرُ عِنْدَهُ اسْتَحْضَرَهُ وَسَمَّعَ عَلَيْهِ فَأَسْمَعَ مَنْ يَحْضُرُهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ مِنْ أَوْلَادِهِ وَمَمَالِيكِهِ الْمُخْتَصِّينَ بِهِ، وَكَانَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالْجُلُوسِ عِنْدَ سَمَاعِ الْحَدِيثِ إِجْلَالًا لَهُ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْخُ مِمَّنْ لَا يَطْرُقُ أَبْوَابَ السَّلَاطِينِ وَيَتَجَافَى عَنِ الْحُضُورِ فِي مَجَالِسِهِمْ سَعَى إِلَيْهِ وَسَمَّعَ عَلَيْهِ".
وَمَا كَانَتْ هَذِهِ الْحَفَاوَةُ مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ بِالْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ إِلَّا لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُوَازِيَ حَمْلَتَهُ الْعَسْكَرِيَّةَ عَلَى الْبَاطِنِيِّينَ وَالصَّلِيبِيِّينَ حَمْلَةٌ فِكْرِيَّةٌ عِلْمِيَّةٌ تَبُثُّ الْوَعْيَ فِي جُمْهُورِ الْأُمَّةِ، وَتَدُلُّهَا عَلَى الدِّينِ الصَّحِيحِ، وَتُخَلِّصُهَا مِنْ أَوْضَارِ الْبَاطِنِيِّينَ وَخُرَافَاتِهِمْ، وَتُعْلِي قِيمَةَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ -تَعَالَى- وَمَكَانَتِهِ مِنَ الدِّينِ، وَأَنَّهُ ذُرْوَةُ سَنَامِ الْإِسْلَامِ.
وَلَا سَبِيلَ لِنُهُوضِ الْأُمَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ إِلَّا بِبِنَاءِ الْأَطْفَالِ وَالشَّبَابِ بِنَاءً عِلْمِيًّا قَوِيًّا، وَبَثِّ الْوَعْيِ فِيهِمْ، وَانْتِشَالِهِمْ مِنَ اللَّهْوِ وَالْعَبَثِ، وَجَعْلِهِمْ رَقْمًا مُهِمًّا فِي الْأُمَّةِ، بَلْ هُمْ أَهَمُّ رَقْمٍ فِيهَا؛ فَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَانَ أَكْثَرُ أَتْبَاعِهِمْ مِنَ الشَّبَابِ، وَالدَّعَوَاتُ الْمُؤَثِّرَةُ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِيَّةِ لَمْ تَقُمْ إِلَّا عَلَى أَكْتَافِ الشَّبَابِ، وَالْإِسْلَامُ حَمَلَهُ شَبَابُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- فَبَلَّغُوهُ، وَبَلَغُوا بِهِ أَقَاصِيَ الْأَرْضِ. وَتَجْهِيلُ الشَّبَابِ وَغَمْسُهُمْ فِي اللَّهْوِ وَالْعَبَثِ هُوَ أَخْطَرُ دَاءٍ تُصَابُ بِهِ الْأُمَمُ.
نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يُصْلِحَ شَبَابَنَا وَشَبَابَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَجْعَلَهُمْ قُرَّةَ أَعْيُنٍ لِأَهْلِهِمْ وَدُوَلِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ، وَأَنْ يَنْفَعَ بِهِمُ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ وَاقْتَفَى أَثَرَهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الْبَقَرَةِ: 281].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: الْأُمَمُ الْحَيَّةُ هِيَ الْأُمَمُ الَّتِي لَهَا رِسَالَةٌ تُؤَدِّيهَا، وَالْأُمَمُ الْمَيْتَةُ هِيَ الْأُمَمُ اللَّاهِيَةُ الْعَابِثَةُ، الَّتِي لَا تَحْمِلُ رِسَالَةً وَاضِحَةً. وَالْمُسْلِمُونَ يَحْمِلُونَ أَعْظَمَ رِسَالَةٍ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ تَبْلِيغُهَا إِلَى كُلِّ الْعَالَمِ لِإِخْرَاجِهِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَالْهَوَى إِلَى نُورِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ.
يَجِبُ عَلَى الْقَائِمِينَ عَلَى الْعَمَلِيَّةِ التَّعْلِيمِيَّةِ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُؤَسِّسُوا التَّعْلِيمَ عَلَى مَنْهَجِ الْإِسْلَامِ الْحَقِّ، الْبَعِيدِ عَنِ الْغُلُوِّ وَعَنِ التَّفَلُّتِ مِنَ الدِّينِ، وَأَنْ تَكُونَ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمَرْجِعَ الْأَهَمَّ لِلْمُعَلِّمِينَ وَالْمُتَعَلِّمِينَ، وَتَرْكُ مَا عَارَضَهَا.
وَيَجِبُ عَلَى الطُّلَّابِ وَالطَّالِبَاتِ أَنْ يَعُوا دَوْرَهُمْ فِي بِنَاءِ بَلَدِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ، وَرَدِّ الْعُدْوَانِ عَنْهَا، وَالْوَعْيُ بِالْأَخْطَارِ الْمُحْدِقَةِ بِهَا، وَتَفْوِيتُ الْفُرْصَةِ عَلَى الْأَعْدَاءِ لِيَنَالُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بُغْيَتَهُمْ.
عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْعِلْمَ النَّافِعَ، وَالْمَعْرِفَةَ الصَّحِيحَةَ، تَنْفَعُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ بِبِنَاءِ أَنْفُسِهِمْ بِنَاءً صَحِيحًا، وَبِنَاءِ بُلْدَانِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ، وَتَنْفَعُهُمْ فِي أُخْرَاهُمْ فَتَكُونُ حُجَّةً لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَلَنْ تَزُولَ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ بِهِ، فَلْيُعِدُّوا لِلسُّؤَالِ جَوَابًا.
أَلَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ...
التعليقات