عناصر الخطبة
1/أساس الدين مبني على الاتباع 2/ذم محض التقليد والتعصب 3/خطورة التعصب المذموم 4/حث أئمة السلف على الاتباع وترك التقليد 5/حقيقة الاستقامة على الدين 6/نماذج من التعصب المذموم.اقتباس
من نظر إِلَى أعظم أسباب الفُرقة والشذوذ، والخلاف الواقع بين المسلمين قديمًا وحديثًا؛ يجد أن أعظم أسبابه وأهم دواعيه وبواعثه: هو هذَا التَّعَصُّب المذموم. ومن ذلك: التَّعَصُّب للآراء المبتدعة، والأهواء المضلة. ومن ذلك أَيضًا: التَّعَصُّب للمذاهب الفقهية بغير هدى...
الخطبةُ الأولَى:
الحَمْدُ للهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ ومن سلف من إخوانه من المرسلين، وسار عَلَى نهجهم، واقتفى أثرهم إِلَى يوم الدين وأحبهم وذَبَّ عنهم إِلَى يوم الدين، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: عباد الله: فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فـ(اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أَيُّهَا المؤمنون: جعل الله -عَزَّ وَجَلَّ- قوام هذَا الدين عَلَى الاتِّبَاع، ولم يجعله عَلَى محض التقليد وَالتَّعَصُّب، اتِّبَاع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي بعثه الله إلينا نبيًّا خاتمًا رسولاً، فمن أطاعه؛ دخل الجَنَّة، ومن عصاه؛ دخل النَّار؛ قَالَ الله -جَلَّ وَعَلَا- في حق نصارى نجران لمَّا قدموا عليه -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وادّعوا أنهم يحبون الله، وأنهم يطيعون الله، وأنهم يعبدون الله.
فأنزل الله اختبارهم في سورة آل عمران؛ فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)[آل عمران: 31، 32].
ولهذا جاء في الصحيح قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى"، فَقَالَ الصَّحَابَة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-: وَمَنْ يَأْبَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "مَنْ أَطَاعَنِي؛ دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي؛ فَقَدْ أَبَى".
وَالاتِّبَاع -يا عباد الله- هو اتِّبَاع لهذا النَّبِيّ بعِلْمٍ ورشَد، لا محض تقليد وتعصُّب؛ ولهذا لما استبَّ رجل يهودي مع رجلٍ مسلم في سوق من أسواق المدينة وهما يتبايعان سلعة، قَالَ المسلم: "لا وَالَّذِي اصطفى مُحَمَّدًا عَلَى البشر"، فَقَالَ اليهودي: "لا وَالَّذِي اصطفى موسى عَلَى البشر"، فلطم المسلم اليهودي، فجاء اليهودي شاكيًا إِلَى النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- مِن فِعْل هذَا المسلم، وهو من الصَّحَابَة.
فَقَالَ -عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وهو ينصر الحق، دون تعصبٍ لصاحبه-، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى مُوسَى بن عمران"؛ فإني أفيق يوم القيامة، "فإن النَّاس يُصعقون يوم القيامة فأفيق، فإذا موسى آخذٌ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي، أم أنه جوزي بصعقة الطور؟".
دلَّ عَلَى أنَّ اتِّبَاعنا لنبيِّنا -عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- اتِّبَاع هدى، وَاتِّبَاع علمٍ ونور، لا تعصُّب وتقليد أعمى من غير ما حجة وبرهان.
وكذلك -يا عباد الله- من نظر إِلَى أعظم أسباب الفرقة والشذوذ، والخلاف الواقع بين المسلمين قديمًا وحديثًا؛ يجد أن أعظم أسبابه وأهم دواعيه وبواعثه: هو هذَا التَّعَصُّب المذموم.
ومن ذلك: التَّعَصُّب للآراء المبتدعة، والأهواء المضلة. ومن ذلك -أَيضًا-: التَّعَصُّب للمذاهب الفقهية بغير هدى، وبغير علمٍ، وبغير دليل.
قَالَ الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "إذا جاء الدليل عن رسول الله؛ فعَلَى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصَّحَابَة؛ فعَلَى الرأس والعين، وإذا جاء عن التَّابِعِينَ؛ فهم رجال ونحن رجال"؛ لأنَّ أبا حنيفة معدود من صغار التَّابِعِينَ؛ -رَحِمَهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا وَرَضِيَ عَنْهُمْ-.
وَقَالَ الإمام مالك، إمام دار الهجرة، مالك بن أنس الأصبحي: "كلنا رادٌّ ومردودٌ عليه، إِلَّا صاحب هذَا القبر"؛ يشير إِلَى قبر النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-.
وَقَالَ الإمام المُطلبي، مُحَمَّد بن إدريس الشَّافِعِيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "إذا جاءك الحديث عن رسول الله، وجاءك قولي؛ فاضرب بقولي عرض الحائط"؛ أي: فخذ بقول رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-.
وَقَالَ إمام أهل السُّنَّة وَالْجَمَاعَة أحمد بن مُحَمَّد بن حنبل: "أجمعوا عَلَى أنَّ من استبانت له سنة النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-؛ لم يكن ليدعها لقول أحد كائنًا من كان".
وإذا نظرنا في حال المسلمين قديمًا وحالهم المعاصر؛ وجدنا هذَا البلاء العظيم في التَّعَصُّب للمذاهب، أو للأقوال، أو للشيوخ، أو للأفراد من غير ما هدى وغير ما دليل، فإذا قرأت عليه قول الله -جَلَّ وَعَلَا-، وإذا قرأت عليه أَيضًا حديث النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-؛ ردَّ ما جاء عن الله، وما جاء عن رسول الله؛ تقليدًا وتعصُّبًا أعمى لمذهبه ولقوله الَّذِي نشأ عليه.
وَأَمَّا المؤمن حقَّ الإيمان؛ فإنه إذا جاءه عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أو عن ربه؛ اتبع وانقاد لما جاءه عن الله وعن رسول الله، وَهذَا الانقياد والإذعان والاستسلام لحكم الله وأمره، ولحكم النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وشرعه، هو حقيقة إقرارك بـ"لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ)[النساء: 125]، (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[فصلت: 33].
نعم -يا عباد الله- الإذعان لأمر الله، والإذعان لأمر رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- هو حقيقة استقامتك عَلَى دين الله، نعم هو حقيقة استقامتك عَلَى دين الله، أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)[الأحزاب: 36]؛ فما قضاه الله، وما قضاه رسوله، ليس لك فيها خيارٌ أَيُّهَا المؤمن، إِلَّا الاتِّبَاع وَالطَّاعَة والانقياد.
نفعني الله وَإِيَّاكُمْ بالقرآن العظيم، وما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذَا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه كان غفَّارًا.
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ للهِ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)[الأنعام: 1]، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، شهادةً أرجو بها الخلود يوم اللقاء، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، المُرتضى، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أولي النهى، الحائزين مراتب العُلا، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
إنَّ من التَّعَصُّب المذموم -يا عباد الله- ما يثير الشحناء والبغضاء، ويورث في القلوب الضغائن: التَّعَصُّب للقبيلة، وَالتَّعَصُّب للعرق، وَالتَّعَصُّب للأرض، وَالتَّعَصُّب الَّذِي درج الآن بين شباب من المسلمين، وهو التَّعَصُّب الرياضي لناديه الَّذِي يشجّعه أو لفريقه الَّذِي يحبه، هذَا التَّعَصُّب المذموم أورث في النَّاس أحقادًا، تأخذ عَلَى ذلك سنين، قبل أن تزول عن صدورهم وعن قلوبهم.
إنَّ المؤمن إِنَّمَا ينقاد لأمر الله، ولا يتبع هواه، واعلموا أنَّ هذِه التَّعَصُّبات بأنواعها؛ إِمَّا لقوله الَّذِي قاله، أو لرأيه الَّذِي انتحله، أو لقبليته، أو لعرقه وطائفته، أو لأرضه، أو لتشجيعه ناديه؛ كل ذلك من حبائل الشيطان، حَتَّى يجعلكم في دائرة اتِّبَاع الهوى، والهوى لا يزال يعظم -يا عباد الله- في بعض النفوس، حَتَّى يكون إلهًا -أي: معبودًا- في نفس هذَا الَّذِي اتخذه إلهه هواه.
وَهذَا الهوى هو الَّذِي أضلَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- به كَثِيرًا من العالمين، كَثِيرًا من الإنس والجان، فكانوا حصبًا لجهنم لمَّا اتخذوا أهواءهم آلهة، قَالَ الله -جَلَّ وَعَلَا-: (أَفَرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ)[الجاثية: 23].
فاحذروا -عباد الله- احذروا هذِه التَّعَصُّبات، التَّعَصُّبات الجاهلية القديمة والحديثة، احذروها واتقوها ودافعوها بالإيمان بالله -جَلَّ وَعَلَا-، وبطاعة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ بالسمع وَالطَّاعَة لمن ولَّاه الله -جَلَّ وَعَلَا- أمركم، وانبذوا هذِه المعارف الجاهلية، وَهذِه العادات الموروثة المستوردة من هاهُنا ومن ها هناك، حَتَّى يكون ولاء النَّاس، ولاؤهم لله ولدينه، لا ولاؤهم لأهوائهم مِمَّا يشتهونه، وَمِمَّا يعظمونه.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي العَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللهم وارضَ عن الأربعة الخلفاء، وعن العشرة وأصحاب الشجرة، وعن المهاجرين والأنصار، وعن التابع لهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنك ورحمتك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهمَّ أعزَّ الإسلام وانصر المسلمين، اللهم انصر دينك وكتابك، وسنة نبيك عَلَى العالمين، اللهمَّ انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك وأولياءك المؤمنين.
اللهمَّ أبرم لهذِه الأُمَّة أمر رشدًا، يُعزُّ فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، يا ذا الجلال والإكرام، اللهمَّ اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
اللهمَّ كن لإخواننا المقهورين المستضعفين في كل مكان، وكن لجنودنا المرابطين عَلَى حدودنا، اللهمَّ أفرغ عليهم الصَّبْر إفراغًا، اللهمَّ وحِّد كلمتهم، اللهمَّ كُن لهم نصيرًا وظهيرًا، اللهمَّ عليك بمن ضارّنا وضارّهم، أو ضارّ المسلمين يا خير الماكرين.
اللهمَّ أنت الله لا إله إِلَّا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهمَّ أغثنا، اللهمَّ أغثنا، اللهمَّ غيثًا مغيثًا، هنيئًا مريئًا، سحًّا طبقًا مجللاً، اللهمَّ ترى ما بنا من الحاجة واللأواء، وإنه لا غنى لنا عن فضلك؛ اللهم فأدرَّ علينا السماء مدرارًا.
اللهمَّ أنزل علينا الخير مدرارًا، اللهمَّ أمطرنا برحمتك يا ولي يا حميد، اللهمَّ أغث بلادنا بالأمطار والخيرات، وأغث قلوبنا بمخافتك وتعظيمك، وتوحيدك يا ذا الجلال والإكرام، عَلَى بلدنا هذَا خاصة، وعَلَى سائر بلاد المسلمين عامةً يا رب العالمين.
سُبْحَانَ رَبِّك رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
التعليقات