عناصر الخطبة
1/ الترويح ومفهومه الشرعي ومفاهيم مغلوطة حوله 2/ الترويح عند الصحابة السلف وسبب حاجتهم إليه 3/ من مزاح النبي -صلى الله عليه وسلم- 4/ عدم المنافاة بين المزاح المحمود والعبودية 5/ الفراغ وبعض مفاسده ووسائل استثمارهاهداف الخطبة
اقتباس
الترويح في حياة أمة الإسلام ليس هو كل شيء في حياتها، تصبح وتمسي عليه، وإنما هو ترويح بقدر؛ لئلا يزحف على الأعمال الجادة، والواجبات الأخرى، ولأن عمر الإنسان أغلى وأسمى من أن تُضيَّع أيامه بين لهو عابث، وعبث باطل، ولهذا ثبت من فعل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهم كانوا يتبادحون -أي يترامون- بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا ..
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فاتقوا الله -تعالى-، وتذكروا مصيركم، وانظروا ما قدمتم من أعمال، ولا تغرنكم الحياة الدنيا، فإنها متاع الغرور، قال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
عباد الله: في مثل هذه الأيام من مواسم الإجازة، يشغل كثير من الآباء والمربين بقضيتين هامتين، هما الترويح ومفهومه، والفراغ وهمومه.
وإذا قرأت حديث حنظلة الأسيدي وقفت منبهرًا أمام شمول الإسلام، والمنهج الشامل؛ فحنظلة من جيل حرص على أن يبقى يومه كلّه، بل حياته كلها على أعلى مستويات الإيمان ودرجات الكمال، وظن أن المرح مع زوجه وترويحه مع ولده وبسمته ومداعبته تنافي منهج العبودية، وإعلان الاستسلام المطلق لله -تبارك وتعالى-، يقول له أبو بكر: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله، يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيرًا، قال أبو بكر: فوالله، إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، قال: قال رسول الله: "وما ذاك؟" قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيرًا، فقال رسول الله: "والذي نفسي بيده، إن كنتم تدومون على ما تكونون وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة -ثلاث مرات-" (أخرجه مسلم).
عباد الله: إن المراوحة في الأشياء، تزيل التعب والإرهاق، وتجدد النشاط، وتقوي على العمل، وتزيد الطاقة والإنتاج، وليس معنى قوله: "ساعة وساعة" أن يقطع المسلم يومه لهوًا ولعبًا، ويشغل الأوقات بالعبث والمجون، أو بالعكوف على أفلام ومجلات خليعة، تثير الغرائز، وتفسد القلوب.
قال عمر بن عبد العزيز: "لا بأس على المسلم أن يلهو ويمرح ويتفكه، على أن لا يجعل ذلك عادته وخلقه، فيهزل في موضع الجد، ويعبث ويلهو في وقت العمل".
وكان عبد الله بن مسعود يقول: "وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخولنا بها مخافة السآمة علينا" (أخرجه البخاري ومسلم).
والتخول: هو التحول من حال إلى حال، لكن الفهوم السقيمة تتكئ على هذه النصوص لتضيق ساعة الذكر والجد والحزم، وتوسّع ساعة الترويح واللهو، فتهجر مجالس العلم والوعظ إلا قليلاً.
قد ينقدح في بعض الأذهان عند الحديث عن الترويح أنه سلوك بلا ضوابط، وممارسة بلا منهج، وتعدّ على حدود الشرع، فيمارسون الترويح بأي وسيلة، دون تقيّد بحلّ أو حرمة أو فضيلة.
وهنا لا بدّ أن نستقرئ ترويح السلف الصالح، لنتبين منهجهم في هذا الميدان:
هذا ابن مسعود -رضي الله عنه- يبين أهمية الترويح بقوله: "أغيثوا القلوب، فإن القلب إذا أكره عمي".
ويقول علي -رضي الله عنه-: "أجموا هذه القلوب، والتمسوا لها طرائف الحكمة، فإنها تملّ كل تملّ الأبدان".
قال أبو الدرداء: "إني لأستجم قلبي من اللهو المباح، ليكون أقوى لي على الحق".
إذا قررنا أن الترويح سلوك قائم في حياة الرعيل الأول. فلنا أن نتساءل: لماذا يمارسون الترويح؟ هل هو انعكاس لمعاناة من فراغ؟ أو شعور بالسآمة والملل؟ كلا وحاشا؛ لقد كان ترويحهم ترويحًا للنفس حتى تتهيأ للجد، وكسبًا لنشاط أقوى، وهمة أعلى؛ لتحقيق الغاية من خلق الإنسان، وهي عبادة الله -تبارك وتعالى-.
لم يكن الترويح في حِسِّهم غاية يسعون لبلوغها، أو هدفًا لذاته يبذلون في سبيله الأوقات والأموال.
تفرز ممارسات الترويح المعاصر ذوبان الشخصية، وتمييع أحكام الشرع، وسلوكيات لا تقرها من تفاهة وانحلال.
وهذا نتاج المفهوم المعاصر للترويح، كونهم جعلوا الترويح هدفًا لذاته وغاية.
أما الترويح -كما فهمه الرعيل الأول- فهو وسيلة سامية تخدم مصالح ومقاصد عالية، تُبنَى في ظلها سمات الشخصية، تُقوَّى الأجساد، تُهذَّب الأخلاق، تُدرِّب على الرجولة والجد، تفتح آفاقًا من العلم والعمل، مسابقة بالأقلام، مصارعة لتربية الأجسام، تحفيز على تعلّم الرمي، سابق رسول الله أصحابه، كما سابق عائشة.
صارع رسول الله ركانة فصرعه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان ذلك سببًا في إسلام ركانة.
وخرج رسول الله على قوم من أسلم يتناضلون في السوق فقال: "ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميًا" (أخرجه البخاري).
ويقول عمر بن عبد العزيز: "تحدثوا بكتاب الله، وتجالسوا عليه، وإذا مللتم فحديث من أحاديث الرجال حسنٌ جميل" (أخرجه البيهقي).
إخوة الإسلام: إن الترويح الذي مارسه الرعيل الأول ليس عبثا، بل ترويح تترتب عليه مصالح وفوائد، لا يتضمن سخرية بالآخرين ولمزا بالمسلمين، ولا غيبة ونميمة، لا يتضمن كذبًا وافتراءً، ذلك أن الترويح الذي لا منفعة فيه دنيوية ولا أخروية يضيع عمر الإنسان بما لا فائدة فيه.
ليس من الترويح المباح التجول في الشوارع والأسواق، وتتبع العوار، والجلوس في المقاهي والشوارع والطرقات، الترويح في الإسلام ليس كأي ترويح، بل يجب أن يكون بريئًا من كل إسفاف، أو خروج على الأخلاق الإسلامية، محفوظًا عن اختلاط الرجال بالنساء، والنظرة المحرمة، أو أي ذريعة لمخالفة شرعية أكبر.
يقرر سلف الأمة أن النفس لها إقبال وإدبار، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إن للقلوب شهوة وإقبالاً، وفترة وإدبارًا، فخذوها عند شهواتها وإقبالها، وذروها عند فترتها وإدبارها".
لكنهم لا يسمحون للنفس وقت توريحها أن تفرط في حقوق الله، فلا ترويح في أوقات الصلوات، فهذا اعتداء على حقوق الله، ولا ترويح في أوقات العمل، فهذا اعتداء على حقوق الناس.
الترويح في حياة أمة الإسلام ليس هو كل شيء في حياتها، تصبح وتمسي عليه، وإنما هو ترويح بقدر؛ لئلا يزحف على الأعمال الجادة، والواجبات الأخرى، ولأن عمر الإنسان أغلى وأسمى من أن تُضيَّع أيامه بين لهو عابث، وعبث باطل، ولهذا ثبت من فعل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهم كانوا يتبادحون -أي يترامون- بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال (أخرجه البخاري في الأدب المفرد).
وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: "لم يكن أصحاب رسول الله منحرفين ولا متماوتين، وكانوا يتناشدون الأشعار في مجالسهم، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيء من دينه دارت حماليق عينيه" حماليق العين، هو ما يسوده الكحل من باطن أجفان العين، وهو كناية عن فتح العينين، والنظر الشديد (أخرجه البخاري في الأدب المفرد).
كان رسول الله يمزح ويداعب؛ جاءته امرأة عجوز تقول: يا رسول الله، ادع الله لي أن يدخلني الجنة؟ فقال لها: "يا أم فلان، إن الجنة لا يدخلها عجوز" وانزعجت المرأة وبكت؛ ظنًا منها أنها لن تدخل الجنة، فلما رأى ذلك منها، بيّن لها غرضه أن العجوز لن تدخل الجنة عجوزًا، بل يبعثها الله خلقًا آخر، فتدخلها شابة بكرًا، وتلا قول الله -تعالى-: (إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء* فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً) [الواقعة: 25 - 27] (أخرجه الطبراني).
وجاءته امرأة في حاجة لزوجها، فقال لها: "من زوجك؟" فقالت: فلان، قال: "الذي في عينيه بياض؟" وفي رواية: فانصرفت عجلى إلى زوجها، وجعلت تتأمل عينيه، فقال لها: ما شأنك؟ فقالت: أخبرني رسول الله أن في عينيك بياضًا, فقال لها: أما ترين بياض عيني أكثر من سوادهما؟!
وعن أنس بن مالك قال: قال لي رسول الله : "يا ذا الأذنين" (صحيح سنن أبي داود: 4182).
هذه الشخصية التي تمارس المزاح والمداعبة هي ذاتها التي تقوم الليل وتصوم النهار، تجاهد في سبيل الله، تبذل النفس والنفيس، ويدها سخّاء، فحين نسلّط الضوء على جوانب من شخصيته في المرح والمزاح والمداعبة يجب أن نوقد السراج طويلاً، ونقرأ مليا صفحات أخرى من شخصيته، فالهدي واحد، والشخصية كلّ لا يتجزأ، فمع كونه يمارس المزاح والمداعبة، كان طويل العبادة والخشوع، كثير البكاء والخضوع، لا يفتر لسانه من ذكر، ولا يهدأ باله من تأمل وفكر.
قال: "إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه" (أخرجه البخاري).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
وفي الإجازة تبرز مشكلة تقضّ مضاجع الآباء والأمهات والمربين، ألا وهي الفراغ الذي يغمر أوقات الأبناء والبنات، بل إن انحراف الشباب وجنوحهم صدى لهذه المشكلة، والحضارة المادية المعاصرة توسع دائرة الخطر، وتزيد من عمق الضرر.
النفس التي تفرغ من الجدّ تنتهي إلى حالة من الشر والانحلال، وخطورة الفراغ أنه لا يبقى فراغًا أبدًا، فلا بد أن يملأ بخير أو شر، ومن لم يشغل نفسه بالحق شغلته بالباطل.
نعم؛ إذا زاد وقت الفراغ، وترك دون استغلال، فإنه يتحول إلى مشكلة، ولا يخفى أن وقت الفراغ يقوي قابلية الانحراف، وأسباب الفساد، يقتل الفكر، ويبطل العقل، ويفتح أبواب الوساوس، ويثير كوامن الأفكار والأوهام.
وشهد أصحاب الاختصاص أن نسبة الجرائم والمشكلات الأخلاقية تبلغ ذروتها مع البطالة والفراغ، ويزداد الأمر خطورة مع وسائل العصر الحديثة، تلك التي تغري الشباب، وتفتح آفاقًا من الشر وهدر الأوقات؛ ولئلا يفعل الفراغ فعله في النفوس، فإن ملأ الأوقات بالمفيد، والانتقال من عمل إلى آخر حصانة ووقاية.
ومن الوسائل المفيدة لملء الفراغ أداء العبادات والسنن، والقراءة المفيدة في أمور الدين، والسيرة النبوية، وحياة الصالحين، والأخلاق، وكان عبد الله بن المبارك يمكث في بيته بعد علمه وتجارته قارئًا لتراث السلف، فإذا ما سئل: ألا تستوحش؟ أجاب: كيف أستوحش وأنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه؟!.
إن الأمة التي تملأ وقتها بقراءة المفيد، وتعلّم النافع، ترقى في سلم التقدم والحضارة، وستكون قادرة على فهم الحياة، وإصلاح حالها، وبلوغ أهدافها، أما الأمة التي لا تتعدى ثقافتها ميادين اللهو واللعب والأزياء فستظل تابعة ذليلة في مؤخرة الركب لا وزن لها.
ومن الأعمال المفيدة في الإجازة: حضور المحاضرات والندوات والدروس العلمية، وصلة الأرحام، والزيارات، والاشتراك في أنشطة المراكز الصيفية، وممارسة الترويح بالضوابط التي ذكرت آنفًا.
قال عمر بن الخطاب: "إن هذه الأيدي لا بد أن تُشغل بطاعته، قبل أن تشغلك بمعصيته".
ألا وصلوا -عباد الله- على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الآل والصحب الكرام، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك، يا أرحم الراحمين.
التعليقات