عناصر الخطبة
1/شيوع الفساد والخلل عند استحكام الآفات والعلل 2/خطأ بعض الناس بحفظ الفروع وتضييع الأصول 3/بعض صور حفظ الفروع وتضييع الأصول 4/من أسباب حفظ الفروع وتضييع الأصول 5/وسائل علاج حفظ الفروع وتضييع الأصولاقتباس
إنَّ عِظَمَ الخسارةِ التي يُمنى بها مَنْ يحفظ فروعًا ويُضيِّع أصولًا لاسيما إذا كانت هذه الأصول توحيدًا وإيمانًا خَلِيقٌ بِأَنْ يَحمِل أُولِي الألباب على كمال العناية بهذا الأمر، وشدة الحذر من التردي في وهدته، وتمام الحرص على التجافي عن كل سبيل يفضي إليه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي مَنَّ على عباده بنعمة الإسلام، أحمده -سبحانه- لا تدركه الأبصارُ ولا تحيط به الأفهامُ، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، الملك القدوس السلام، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، بيَّن للأُمَّة أصولَ وفروعَ هذا الدين، وأركانَه العظامَ، اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ، وعلى آله وصحبه، الأئمة المتقين الأبرار الأعلام، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقبت الليالي والأيام.
أما بعدُ: فاتقوا الله -عبادَ اللهِ-، فإن التقوى سبيل الأيقاظ، ونَهْج أُولي النُّهى، وطريق أولي الأبصار، فيها الأمنُ مِنَ العثارِ، والفوزُ بالجنةِ، والنجاةُ من النار؛ (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)[النُّورِ: 52].
أيها المسلمون: حين تستحكم الآفات، وتستشري العِلَل، وتكثر الأدواء، تضطرب عند ذلك الألباب، وتلتاث العقول، وتحار الأفهام فتنأى بالمرء عن سلوك الجادَّة، وتحيد به عن الصراط، وتُحدِث في نظام الحياة فسادًا عريضًا، حيث يشيع الخلل، ويفشو العِوَج، وتختل الموازين، وتنعكس الأمور؛ فيقدم المؤخر، ويؤخر المقدم، وتصغر العظائم، وتعظم الصغائر، وتحفظ الفروع وتضيع الأصول.
وإن في دُنيا الواقع -يا عباد الله- مِنْ صُوَر حفظ الفروع وتضييع الأصول ما لا يكاد يحصى من الصُّوَر؛ فترى في الناس من يجتهد في ألوان القربات ليله ونهاره، ليزدلف بها إلى مولاه، ويحظى عنده بالدرجات العلا والنعيم المقيم، لكنَّه يقرن ذلك بما يُفسِد عليه جَدَّه ونصبَه، ويُحبِط عملَه واجتهادَه، حين يشرك بالله غيره؛ بدعاء أو باستعانة أو باستغاثة، أو بذبح أو بنذر أو بصرف أي نوع من أنواع العبادة التي هي حق خالص لله، لا يجوز صرف شيء منه لغيره -سبحانه-، وحين يأتي كاهنا أو عرافا فيسأله ويصدقه، وحين يعلق تميمة أو ودعة يستدفع بها بزعمه الضر عن نفسه أو أهله وولده، مع أن الله -تعالى- قد بيَّن لعباده في كتابه بواضح البيان أن عاقبة ما كان من هذا الإشراك شركًا أكبر، هو حبوط العمل، وفساده، وعدم انتفاع عامله به في الآخرة، وتحريم الجنة عليه، وجعل مأواه النار، فقال -سبحانه-: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الزُّمَرِ: 65]، وفي صحيح السُّنَّة أيضًا من البيان النبوي الرفيع لمآل هذا الأمر ما لا مزيد عليه، فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه بإسناد صحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-"، وأخرج الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه أيضًا بإسناد صحيح عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ".
ومِنَ الناس مَنْ يُعنى بإقامة حروف القرآن وتجويدها وتحسين الصوت بالتلاوة، لكنَّه يُضيِّع حدودَه، ويُهمِل العملَ بما أنزَل اللهُ فيه، ويُغمِض الأجفانَ عن تدبُّر معانيه والتأثُّر بعظاته، والاعتبار بقصصه وأمثاله.
ومِنَ الناس مَنْ يحترز مِنْ رشاش النجاسات أن يصيب ثيابَه شيءٌ منها، لكنَّه لا يتَّقِي من غيبة أو نميمة، أو قول زور، ومَنْ يُكثِر من الصدقات لكنَّه لا يتورع عن مال حرام.
ومن الناس مَنْ يُصلِّي بالليل ويصوم النهار، لكنَّه يؤذي جيرانه، ويتعدى على حقوقهم، ويستطيل في أعراضهم حتى تكون جيرتُه عليهم همًّا ثقيلًا، وشرًّا مستطيرًا وبلاءً عظيمًا.
ومِنَ الناس مَنْ يَبَرُّ معارفَه وعُشراءه بإقامة أوثق العلائق معهم، لكنَّه يعق والديه، ويقطع رحمه، ويتبرأ من قرابته وأهل بيته.
ومِنَ الناسِ مَنْ يجود على الفقير البعيد، لكنَّه يدع أهل بيته عالة يتكففون الناس، أو يضيق عليهم في النفقة الواجبة، فلا يعطيهم ما يكفيهم بالمعروف.
ومِنَ الناس مَنْ يصون لباسه ومركبه وفراشه عن الأدناس والأقذار، لكنَّه لا يحفظ سمعه وبصره عن التلوث بأرجاس الحرام.
ومِنَ الناسِ مَنْ يطيع في صغار الأمور دون كبارها، وفيما تخف عليه مؤونته دونما عليه فيه مشقَّة، قال العلامة بن الجوزي -رحمه الله-: "وفي الناس من هذه الفنون -أي المتعلِّقة بحفظ الفروع وتضييع الأصول- مما رأيناه عجائب يطول ذكرها".
عبادَ اللهِ: إنَّه لا ريبَ أن مبعثَ هذا الانحراف ومصدرَ هذا العِوَج في تضييع الأصول وحفظ الفروع إنما هو الخضوع لسلطان العادات، والإذعان ليمنة الأعراف، بعيدًا عن أنوار الوحيين، قصيًّا عن ضوابط التنزيلين، وكذا اتباع الهوى بغير هدى من الله، وكذا جهل بدين الله وقلة الناصح وندرة المعين.
ألَا وإن المخرج من كل أولئك -يا عباد الله- لا يكون إلا بدواء العلم والعمل؛ أما العلم فإنَّه يقف صاحبه على القواعد والأصول والأُسُس التي تبتنى عليها الفروع، وتقوم عليها الجزئيات، وينشئ له فِكْرًا منظَّمًا منضبطا، يضع الأشياء في مواضعها، ويعرف للأعمال مراتبها ومنازلها، وأمَّا العمل فلأنه يقع صحيحًا موافقًا لما شرعه الله، ماضيًا على نهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، سعيدًا بالقَبول، مبلغًا كل مأمول.
وإن مخالفة الهوى والاجتهاد في ضبط الأعراف والعادات بضوابط الشرع مما يرجى أن يستصلح به هذا الانحراف، ويقام به هذا العوج، ويثوب به المسلم إلى طريق دينه القويم.
نفعني الله وإيَّاكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولكافة المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الحكم العدل اللطيف الخبير، أحمده -سبحانه-، له الدنيا والآخرة، وإليه المصير، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، البشير النذير، والسراج المنير، اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِكَ ورسولِكَ محمد، وعلى آله وصحبه.
أمَّا بعدُ، فيا عبادَ اللهِ: إنَّ عِظَمَ الخسارةِ التي يُمنى بها مَنْ يحفظ فروعًا ويُضيِّع أصولًا لاسيما إذا كانت هذه الأصول توحيدًا وإيمانًا خَلِيقٌ بِأَنْ يَحمِل أُولِي الألباب على كمال العناية بهذا الأمر، وشدة الحذر من التردي في وهدته، وتمام الحرص على التجافي عن كل سبيل يفضي إليه، وكل حامل يحمل عليه، وأي خسارة يا عباد الله أعظم من أن يحبط عمل العامل، أو ينتقص من أمره، أو يضاعف في وزره؟!
فاتقوا الله -عباد الله- وحذارِ من تضييع الأصول، واعرفوا لكل شيء قدره، وأنزلوه منزلته تستقم أموركم، وتطب حياتكم، وتحظوا برضوان ربكم.
واذكروا على الدوام أن الله -تعالى- قد أمركم بالصلاة والسلام على خير الورى، فقال -جل وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، اللهمَّ بارك على محمد وعلى آله محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، وارض اللهمَّ عن خلفائه الأربعة الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خير من تجاوز وعفا.
اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، وأَذِلَّ الشركَ والمشركينَ، واحم حوزة الدين، وانصُرْ عبادَكَ الموحِّدينَ، واجعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مطمئنًّا وسائرَ بلاد المسلمين يا ربَّ العالمينَ.
اللهمَّ آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين، وهيئ له البطانة الصالحة، ووفقه لما تحب وترضى، يا سميع الدعاء، اللهمَّ وفقه وولي عهده إلى ما فيه خير الإسلام وعز المسلمين، وإلى ما فيه صلاح البلاد والعباد، يا من إليه المرجع يوم المعاد.
اللهمَّ احفظ هذه البلاد حائزة كل خير، سالمة من كل شر، وسائرَ بلاد المسلمين يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ حرر المسجد الأقصى، اللهمَّ احفظ المسلمين في فلسطين، اللهمَّ احفظهم من بين أيديهم، ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ومن فوقهم، ونعوذ بعظمتك أن يغتالوا من تحتهم، اللهمَّ ارحم شهداءهم، اللهمَّ اكتب أجر الشهادة لقتلاهم، واشف مرضاهم، وارحم ضعفهم يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ كن لهم معينًا وظهيرًا، ومؤيدا ونصيرًا، اللهمَّ انصرهم على عدوك وعدوهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهمَّ أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهمَّ آت نفوسنا تقواها، وزَكِّها أنتَ خيرُ مَنْ زكَّاها، أنت وليها ومولاها، اللهمَّ أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأَجِرْنا من خزيِ الدنيا وعذابِ الآخرةِ، اللهمَّ أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهمَّ إنَّا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفُجَاءةِ نقمتك، وجميع سخطك يا ربَّ العالمينَ.
اللهمَّ إنَّا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكَرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهمَّ اكفنا أعداءك وأعداءنا بما شئت يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ إنَّا نجعلك في نحور أعدائك وأعدائنا يا ربَّ العالمينَ، ونعوذ بك من شرورهم، اللهمَّ اشف مرضانا، وارحم موتانا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، وصلِّ اللهمَّ وسلِّم على عبدِكَ ورسولِكَ، نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
التعليقات