عناصر الخطبة
1/ التثبت من علامات توفيق الله للإنسان 2/ العجلة من صفات الإنسان 3/ وجوب التثبت والحذر من العجلة 4/ التثبت من سمات النبي -صلى الله عليه وسلمَ- والصحابة 5/ بعض فوائد التثبت ومفاسد العجلةاهداف الخطبة
اقتباس
إن تبين الأمور فيها حفظ للأرواح، وصيانة الدماء، ووقاية المجتمع من مخاطر التسرع والفضائح، وتشويه السمعة، ويبعده عن الهواجس والشكوك، ويحفظ حقوق المسلمين. وإن الاستعجال في الأمور، ومعالجة الأحوال، والبت فيها بسرعة؛ دليل على خفة العقل، وتخبط الفكر، ولذلك...
الخطبة الأولى:
الحمد لله (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء) [إبراهيم: 27]، أحمده سبحانه وأشكره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأبرار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى- ما استطعتم، واستمسكوا من دينه بالعروة الوثقى، و (اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 200].
عباد الله: إذا أراد الله بعبده خيرا وفقه ورزقه التأني والتثبت في كل أموره، وما يعرض له، وجنبه الاستعجال والتسرع في الحكم على الأشخاص والأشياء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات: 6]، فبدا المرء بعد نعمة الله عليه سمحا وقورا في سرّائه، رابط الجأش، حليما متوكلا على ربه في ضرائه، يقول رسول الله -صَلى الله عليه وسلم- لأشح بن عبد القيس: "إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة" (رواه مسلم).
والأناة هي التثبت وترك العجلة، وقديما قالوا: "في التأني السلامة، وفي العجلة الندامة".
وبعضهم قال: "التثبت من الله، والعجلة من الشيطان".
والإنسان فيه الغضب والعجلة مركبة فيه، ولكن أعطاه الله -تعالى- القدرة على التحكم فيها، وربطها ومنع نفسه منها متى شاء، يقول تعالى: (خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ) [الأنبياء: 37]، ويقول: (وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً) [الإسراء: 11]، قال الحافظ ابن كثير: "يعني ضجرا لا صبر له على سراء ولا ضراء".
وقال: (وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً) [الإسراء: 11] يخبر الله -تعالى- عن عجلة الإنسان ودعائه في بعض الأحيان على نفسه وولده، أو ماله بالشر، أي بالموت والهلاك والدمار واللعنة، وغير ذلك، فلو استجاب له ربه لهلك بدعائه: (وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً) [الإسراء: 11]، ولما جاءهم الرسول بالحق من ربهم وقع في نفوسهم سرعة الانتقام منه، واستعجلت ذلك نفوسهم، وقد جاءهم بالهدى والنجاة والسلامة.
أيها المسلمون: إنه لعاقبة التأني الحميدة وعاقبة التبين والتثبت من الأمور السعيدة، وخطورة الاستعجال وعواقبه الوخيمة، من أجل هذا أمر الله -سبحانه- بالتأني، واستيضاح الأمور قبل الإقدام عليها، أو الولوج فيها، ونهى عن الاستعجال، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) وفي قراءة: (فتثبتوا) (أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ) [الحجرات: 6] أي أنه إذا جاءكم من ينقل الأخبار فتبينوا منه، وتثبتوا من الخبر، ولا تستعجلوا في قبوله، فقد يكون كاذبا مغرضا فتقعون في الإثم والخسارة والمؤاخذة.
وقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [النساء: 94].
وأرسل رسول الله -صَلى الله عليه وسلم- الوليد بن عقبة ليأتي بزكاة بني المصطلق، فخرج إليهم فلما كان في منتصف الطريق خاف ورجع، وقد خرجوا له لاستقباله ومعهم الزكاة، فجاء إلى رسول الله -صَلى الله عليه وسلم- وقال: إنهم منعوا الزكاة، فغضب رسول الله -صَلى الله عليه وسلم- وحدث نفسه بغزوهم، فجاؤوا إليه وأخبروه بالحادثة، وأنزل الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات: 6].
وغضب النبي -عليه الصلاة والسلام- ولم يرض عن فعل أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- عندما قتل الذي قال: لا إله إلا الله، السلام عليكم؛ مظهرا إسلامه، ومعلما إياهم أنه مسلم، فقتله متأولا: أنه إنما قال هذه الكلمة خائفا من السيف والقتل، فأنزل الله معاتبا الصحابة: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [النساء: 94] (رواه البخاري ومسلم) قال القرطبي: "إن الله في هذه الآية أعاد الأمر بالتبيين مرتين للتأكد بأن الله كان بما يعملون خبيرا، تحذيرا عن مخالفة أمره، فاحفظوا أنفسكم، وجنبوها الزلل الموبق لكم".
وأخبر الله -سبحانه- أن إبراهيم -عليه السلام- تبرأ من والده الكافر بعد التبين، ولما كان التثبت منهجا ربانيا مأمورا به، فقد عملت به الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، فإبراهيم -عليه السلام- ما زال يتبين من أبيه وحاله حتى عرف كفره وعناده ثم تبرأ منه: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) [التوبة: 114].
وهو منهج الصحابة الكرام وخيرة الأمة؛ فهذا عمر -رضي الله عنه- يخبره رسول الله -صَلى الله عليه وسلم- عن فضل أويس القرني ومكانته، فيبحث عنه، ويتبينه بين الناس حتى عثر عليه فأخبره بخبر رسول الله -صَلى الله عليه وسلم-.
ويأتي ماعز الأسلمي إلى رسول الله -صَلى الله عليه وسلم- ليقيم عليه الحد، يخبره أنه وقع في الفاحشة، فيتبين رسول الله -صَلى الله عليه وسلم- أمره ثلاث مرات، يسأل عنه أصحابه يقول لهم: "أتعلمون بعقله بأسا تنكرون منه شيئا؟" فقالوا: "ما نعلمه إلا وفيّ العقل، من صالحينا فيما نرى، حتى أمر به بعد الثالثة فرجم".
ويشتكي أهل الكوفة سعد بن أبي وقاص وكان واليا عليهم في عهد عمر -رضي الله عنهما- يشتكونه بأنه لا يحسن الصلاة، ولا يقسم بالسوية ولا يعدل في الرعية، فتبين عمر من سعد، فبيّن له سعد كذب وافتراء هؤلاء، فقال له: الظن بك يا أبا اسحاق، يعني هذا الذي أظنه فيك أنك صاحب سنة وإمام وتعدل بين الخصوم وهو كذلك رضي الله عنه، ثم دعا سعد على من تزعم هذه الفرية عليه وهو رجل يسمى: أبو سعدة، فقال: "اللهم إن كان عبدك هذا قام مقام رياء وسمعة فأطل عمره، وأدم فقره، وأعم بصره، وعرّضه للفتن"، فكان راوي الحديث جابر بن سلمة يقول: "فأنا رأيته بعد ذلك شيخا كبيرا قد سقط حاجباه على عينيه يقف في الطريق فيغمز الجواري، فيقال له، يعني ما هذا الذي أصابك؟ فيقول: "شيخ مفتون أصابته دعوة سعد".
أيها المسلمون: في التبين والتثبت نجاة وسلامة وفوز كبير، فيعرف المسلم به الحلال من الحرام، ويسلم من التقول على الله بغير علم، ويسلم من الزلل، وينجو من البدعة، وسوء المنقلب، وما وقع الناس في البدعة إلا عندما أهملوا استيضاح الأمور وما يعرض عليهم...
إن المسلمين اليوم في أمس الحاجة إلى التثبت واستيضاح الأمور لكثرة المخرفين والمبتدعين ودعاة جهنم، والمفترين على الله ورسوله، والخائضين في الحلال والحرام، والزندقة والإلحاد، وظهور فرق الكفر والإلحاد كهؤلاء التي يسمون أنفسهم: عبدة الشيطان، وانتشار المخدرات والمحرمات والمجرمين الذين يوردون الشباب موارد الهلاك، ويغررون بهم.
إن الإنسان المسلم -يا عباد الله- إذا كان من أهل التبين واستيضاح الأمور يشار إليه بالثبات، ورجاحة العقل، والتوفيق والتسديد، وسلامة التفكير، وثقة النفس، وسلامة الدين والمعتقد.
إن تبين الأمور فيها حفظ للأرواح، وصيانة الدماء، ووقاية المجتمع من مخاطر التسرع والفضائح، وتشويه السمعة، ويبعده عن الهواجس والشكوك، ويحفظ حقوق المسلمين.
وإن الاستعجال في الأمور، ومعالجة الأحوال، والبت فيها بسرعة، دليل على خفة العقل، وتخبط الفكر، ولذلك يشار إلى هذا بأنه عجول، لا يصلح لحل المسائل والمشاكل، وينصح الناس بعضهم بعضاً بتركه، والحذر منه، والبعد عن مشاورته وفساد معتقده وتفكيره.
وفي الاستعجال زلات ووقعات وسقطات ما ينهض منها إلا أن يشاء الله -تعالى-
كم للاستعجال من مآسٍ؟ وكم من بيت تخرب؟ وكم من سمعة شوهها الاستعجال؟ وكم من مظلوم بسبب عدم الاستيضاح والتوثق منها؟ كم من أسرة تهدمت؟ وكم من أرحام تقطعت؟ وكم من أخوة تهتكت؟
إن استعجال الأمور يكفيها أنها مخالفة صريحة لشرع الله ورسوله، وإن استيضاح الأمور يكفيها أنها امتثال للشرع، وتشبه بالأنبياء والصالحين، والنتائج الإيجابية، والثمرات الجميلة التي تقتطف.
هذه هي ثمرات التبين، وهذه هي مصائب الاستعجال، فإذا علمتموها فاعلموا أن أكثر الناس لا يتبينون أمورهم وما يعرض عليهم ولا يتثبتون من الأخبار التي ترد إليه، ولا من حلال وحرام، وبدعة وسنّة، وجائز فعله وغير جائز، بل يندفعون إلى الاستجابة إلى الداع دون تثبت أو دراسة، فلذلك الواقعون كثيرون في البدعة والحرام، والخطأ والزلل.
فاتقوا الله -يا أمة المسلمين- وتثبتوا فإن عدوكم الشيطان يغرر بكم فاحذروه.
بارك الله لي ولكم...
التعليقات