البشارة بالجنة وأثرها في السلوك

إسماعيل بن عبدالرحمن الرسيني

2024-06-30 - 1445/12/24
عناصر الخطبة
1/محبة النفوس للبشريات 2/أهمية البشريات والمبشِّرات 3/الأمر بالتبشير والنهي عن التنفير 4/التوازن بين البشارة والنذارة 5/نماذج من البشارات النبوية بالجنة لبعض صحابته 6/فوائد وثمرات البشارة بالجنة.

اقتباس

فما أجمل وأنبل هذا الخُلق! حتى ترتقي أُسَرُنا، فلا تسمع فيها إلا التبشير والتحفيز، وتجاوز العثرة وعدم الوقوف عندها، ولا التعيير بها، وعدم الوقوف على الخطأ، وما أجمل أن تُسمَع البشائرُ تَترى في مجتمعاتنا وبيوتنا، فاعملوا...

الخُطْبَة الأُولَى:

 

الحمد لله الذي أسبَغ على عباده نعمَه ظاهرةً وباطنة، وذكَّرهم شكر آلائه ونعمه؛ ليزداد عليهم فضله وإنعامُه، وحذَّرهم من كفرها؛ قال الله -تعالى-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم: 7].

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أيَّد أولياءه بنصره، وأمرهم بالتفكر في آياته وآلائه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومَن اقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم القيامة.

 

أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي وصية الله للأولين والآخرين؛ (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا)[النساء: 131].

 

تأنس النفوس وتطمئن لسماع البشائر، فالبشارات والبشرى والمبشِّرات كلمات تبعث الأمل وتسلِّي النفس، وتطرُد اليأس، وهي عاملُ ثقةٍ بموعود الله، تُذهب الهموم وتدفع الغموم، معينة على تجاوز الإخفاق، ومُحفزة لتحقيق الإنجاز.

 

والله أنزل القرآن تبيانًا لكل شيء وبشارة للمسلمين؛ قال -تعالى-: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)[النحل: 89]، وقال -تعالى- عن كتابه: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)[الإسراء: 9].

 

ولأهمية البشرى بشَّر الله عباده المؤمنين في كتابه؛ فقال -تعالى-: (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ)[التوبة: 21]، سَمَّعني الله وإياكم هذه البشارة.

 

ودعا سيد المرسلين إلى التبشير ونهى عن التنفير، فقال: "بشِّروا ولا تنفِّروا، ويسِّروا ولا تعسِّروا"؛ فالتوازن بين البشارة والنذارة هو المنهج الوسط، فنرجو رحمة الله ونخشى عقابه.

 

عباد الله: البشارة دعم معنوي وتثبيت لا غنى عنه، وما أجمل موقفَ أمِّنا خديجة -رضي الله عنها-؛ حيث قالت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- زوجِها: "أبشِر، فوالله لا يُخزيك الله أبدًا"، فما أجمل وأنبل هذا الخُلق، حتى ترتقي أُسَرُنا، فلا تسمع فيها إلا التبشير والتحفيز، وتجاوز العثرة وعدم الوقوف عندها، ولا التعيير بها، وعدم الوقوف على الخطأ، وما أجمل أن تُسمَع البشائرُ تَترى في مجتمعاتنا وبيوتنا، فاعملوا بوصية رسولكم، كلٌّ في مكانه، بشِّروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا.

 

عباد الله: البشارات النبوية بالجنة لبعض صحابته:

أعظم البشارات وأصدقها البشارة من الوحيين، وأعظم مطلوب بعد رضا الله جنته، ولقد بشَّر رسول الله بعض صحابته بأسمائهم في الجنة، لقد "بشر رسول الله خديجة -رضي الله عنها- ببيت في الجنة من قصبٍ، لا صخب فيه ولا نصب"، وبشَّر العشرة المبشرين أبا بكر وعمر وعثمان وعليّ بن أبي طالب، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله".

 

والبشارة بالجنة حاضرة واضحة في كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

البشارة بالجنة وتعلُّق القلوب بها حافزٌ كبير لتحقيق التوحيد في النفوس الذي هو أعدل العدل وأحق الحق؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "من لقِي الله لا يشركُ به شيئًا دخل الجنة"(رواه البخاري).

 

وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: أتيتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو نائمٌ عليه ثوب أبيض، ثم أتيته فإذا هو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فجلست إليه، فقال: "ما من عبدٍ قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك، إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق، قالها ثلاثًا، ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر، قال: فخرج أبو ذر وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر"(رواه مسلم).

 

وفي الحديث: "إن لله تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنة"(رواه البخاري).

 

البشارة بالجنة محفزة لمداومة ذِكْر الله وهذا كثير:

قال -صلى الله عليه وسلم-: "من قال: سبحان الله العظيم وبحمده، غُرست له نخلة في الجنة"، وحديث سيد الاستغفار الذي يرويه الإمام النسائي من حديث شداد بن أوس قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذ بك من شرِّ ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبو لك بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فإن قالها حين يصبح موقنًا بها فمات دخل الجنة، وإن قالها حين يمسي موقنًا بها دخل الجنة".

 

وحديث رافع بن خديج -رضي الله عنه- قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا اضطجع أحدُكم على جنبه الأيمن، ثم قال: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجَّهت وجهي إليك، وألجأت ظهري إليكِ، وفوضت أمري لك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، أؤمن بكتابك وبرسولك، فإن مات من ليلته دخل الجنة"(حسن رواه الترمذي).

 

عباد الله: البشارة بالجنة تغسل ألم المرض، فيَضمد جراحته ويُعينه على تحمُّل مشاقه وآلامه، أما رأيت المرأة التي جاءت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مشتكية مرضَ الصرع، طالبةً من الرسول الكريم الدعاء، فحين قال لها: "إن شئتِ دعوتُ لك، وإن شئت صبرتِ ولك الجنة"، فطار بها الشوق للجنان ونسيت الأحزان، ثم سألت رسول الأنام أن يدعوَ لها فلا تتكشف، فدعا لها، وفي الحديث القدسي: إن الله -تعالى- يقول: "إذا ابتليت عبدي بحبيبتَيه فصبَر، عوَّضتُه منها الجنة"؛ يريد بذلك عينيه.

 

عباد الله: البشارة بالجنة محفِّزة على تعديل السلوك؛ فعن ثوبان قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من فارقت روحه جسده وهو بريء من ثلاث، دخل الجنة، الكبر والدَّين والغُلول"(رواه الترمذي).

 

ومحفِّز لترك الكذب والعناية بالصدق؛ قال -عليه السلام-: "فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة".

 

محفِّز للشعور بالمسؤولية وإحياء روح الأخوَّة بين المسلمين والخوف من إيذائهم، فلو كنت في ذلك المجلس الذي قص فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خبرَ ذلك الرجل الذي جاء فيه: "لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس"(رواه مسلم).

 

ذكر الجنة والبشارة بها محفِّز للقيام بواجب أُخوَّة الإسلام؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من عاد مريضًا أو زار أخًا له في الله، ناداه منادٍ أن طبتَ وطاب ممشاك، وتبوَّأت من الجنة منزلاً"(رواه الترمذي).

 

عباد الله: البشارة بالجنة معينة ومحفّزة لترك الشهوات، ففي صحيح البخاري من حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: "من يضمن لي ما بين لِحييه وما بين رجليه، أضمَن له الجنة".

 

البشارة بالجنة معينة ومحفّزة لطلب معالي الأمور والرُّقي في الدنيا؛ "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة"، ومعينة على الرقي في المطالب والسمو عن سفاسف الأمور؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فإذا سألتم الله الجنة فسلوه الفردوس الأعلى".

 

البشارة بالجنة معينة على تحمُّل المشاق؛ فعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "لا يكون لأحدكم ثلاث بنات أو ثلاث أخوات، فيُحسن إليهنَّ، إلا دخل الجنة".

 

البشارة بالجنة والوعد بها محفّزة للمسابقة على فعل الطاعات؛ فقد روى الإمام مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من أصبح منكم اليوم صائمًا؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن تبِع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟ قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما اجتمعنَ في امرئ إلا دخل الجنة".

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على النبي المصطفى وآله وصحبه ومن اقتفى.

 

أما بعد: فعباد الله: لقد كان ذِكْر الجنة في مجالس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاضرًا محتفًى به منه ومن صحابته، فعظُم طلبُهم لها، وصدَّقوا كلام رسول ربهم، وصدَقوا في أعمالهم، فكانت الجنة همّهم الأول فسعوا إليه، فأين حضور الجنة في مجالسنا، فمن صدق في طلبها فلتنطق كلماته وأفعاله ومنجزاته بالسعي إليها، ونيل أعلى درجاتها؛ قال الله -جل جلاله-: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا)[النساء: 124].

 

سَمَّعِني الله وإياكم بشارته؛ (وَتِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[الزُّخرف:72].

 

اللهم اجعلنا معظِّمين لأمرك، مؤتمرين به، واجعلنا معظمين لِما نهيتَ عنه منتهين عنه، اللهم أعنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

 

اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تُعز الإسلام والمسلمين، وأن تُذل الشرك والمشركين، وأن تدمِّر أعداء الدين، وأن تنصُر من نصَر الدين، وأن تَخذُل من خذَله، وأن توالي مَن والاه بقوتك يا جبَّار السماوات والأرض.

 

اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلح آمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفِّق ولاة أمرنا لما تحب وترضى، وخُذ بنواصيهم للبر والتقوى.

 

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، المؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وجازهم عنا خيرَ الجزاء، اللهم من كان منهم حيًّا فأطِل عمره وأصلِح عمله، وارزقنا برَّه ورضاه، ومن سبق للآخرة، فارحَمه رحمة من عندك تُغنيهم عن رحمة من سواك.

 

اللهم ارحَم المسلمين والمسلمات، اللهم اغفر لأموات المسلمين الذين شهِدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة، اللهم جازهم بالحسنات إحسانًا، وبالسيئات عفوًا وغفرانًا يا رب العالمين.

 

اللهم احفَظنا بحفظك، واكلأنا برعايتك، ووفِّقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك.

 

اللهم أصلحنا وأصلح ذريتنا وأزواجنا وإخواننا وأخواتنا، ومن لهم حق علينا يا رب العالمين.

 

سبحان ربك ربِّ العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life