عناصر الخطبة
1/ التوجُّس من الإسلام وأنواره وظاهرة الإسلامو فوبيا 2/ قيمة الإسلام وأثره في نشر الأخلاقيات 3/ اتهام الإسلام بالإرهاب والسيف 4/ تميز الإسلام بالحكمة واختراق القلوب 5/ الثورة التقنية الحديثة وأثرها 6/ ضرورة التعرف على الإسلام بلا تشويه 7/ شذرات من جماليَّات الإسلام وإشراقاته 8/ التعاون لمواجهة ظاهرة الخوف من الإسلاماهداف الخطبة
اقتباس
الإسلامُ كان ولا يزال في علوٍّ وانتِشار، وانتِصارٍ وازدِهارٍ؛ لأنه دلَفَ إلى القلوب بالحكمةِ والموعظة الحسَنَة والمعروف، لا بالغِلظَة والحُتوف، وأيُّ نعمةٍ تُزجَى أو ثمرةٍ إيمانيَّةٍ تُرجَى ممن أُكرِه على الإيمان... إخوة الإسلام: ومما زادَ الطينَ بِلَّةً، والداءَ عِلَّةً في إذكاء هذه الظاهرة الغريبة: ثورةُ التِّقانة، وغزوُ الفضاء ووسائلُ التواصُل الحديثة، ولا يخفَى ما للإعلام المُؤدلَج المُتحيِّز، الذي لا ينتصِفُ للمِصداقيَّة ولا يُميِّز، من امتِطاء صهَوات التهويلِ والتضخيم، والتشهير والتعميم، واستِغلال بعض الوقائع المُعاصِرة النادَّة، والتصرُّفات الخاطِئة الشاذَّة التي لا تُمثِّلُ بهاءَ...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينُه ونستغفرُه، ونشكرُه -سبحانه- سرًّا وجهارًا، أسبغَ على عباده نعمًا غِزارًا، أجلُّها الإسلامُ عظُم جلالاً وتلألأَ أنوارًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تُعلِي للشِّرعة الغرَّاء منارًا، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا المُصطفى من أرُومَة الطُّهر مُختارًا، صلَّى الله عليه وعلى آله الطاهرين الطيبين، السَّامِين تبجيلاً وإكبارًا، وصحبِه الأُلَى بذَلوا للدين مُهَجًا وأعمارًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ يرجُو من المولَى مُبوَّءًا في الجِنان وقَرارًا، وسلَّم تسليمًا كثيرًا زاكِيًا مِدرارًا.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله -تبارك وتعالى-؛ ففي التقوى العزُّ والسَّنا، وبها يتحقَّقُ المجدُ والغِنى، ويندفعُ الوهَنُ والعَنَا، وينجلِي الكربُ والوَنَا، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].
مـن يتَّقِ اللهَ العظيمَ بفعلِه *** ويُخالِفُ النفسَ التي لا تقنعُ
ذاكَ الذي غنِمَ الدُّنَا بمفازةٍ *** وتراهُ في الفِردوس قدرًا يُرفَعُ
أيها المسلمون: في عصرٍ احتدَمَت فيه التنازُعات، وكشفَت دون مُوارَبَةٍ عن قسَمَاتها الأضاليلُ والشُّبُهات، وفي عالمٍ اعتسَفَت طرائقَ الحقِّ الصُّراح فيه أقوالٌ خاطِئات، وتصوُّراتٌ عن الصوابِ جانِحات؛ ما أسفرَ عن قضيَّةٍ تطايَرَ في الخافِقَيْن شرَرُها، واستشرَى في العالمين ضرَرُا، فصدَّت عن أهنَى معينٍ كثيرًا من الناس، حتى غدَوا جرَّاءَها في تردُّدٍ والتِباس.
ألا وهي: قضيةُ التوجُّس من الإسلام وأنواره، والخوف من فَلَجه وانتِشاره، ووصمِه بنقيضِ حقائقه، وتكدير صفوِ زُلالِه ورائِقِه، أو ما يُعرَفُ في عالَم الغرب اليوم بـ"ظاهرة الإسلام فوبيا".
ولكن أنَّى وهيهات؟! فالإسلامُ دينُ فاطر الأرض والسماوات، الإسلامُ الذي آتَى الروحَ معراجَها، وهدَى البريَّة أدراجَها، وأحلَّها من الحضارات والعلوم شُمَّ أبراجها، وكان لها في آفاق المجد والخُلد ضياءَ سِراجِها: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) [البقرة: 138].
معاشر المسلمين: والمقصِدُ المُستكِنُّ في ذلك الخوف المُروَّج، والأباطيل المُنتحَلَة إنما هو لخدش الإسلام والتشكيك في عدله ورحمته، وسماحته ورأفته، والحيلولة دون سُطوع كوكبه الساري، ونهرِه المُبارَك الجارِي، الذي يحملُ للبشرية صلاحَها وفلاحَها، ورُشدَها ونجاحَها.
الإسلام ولا غير، الإسلام الذي يحسِمُ شِرَّة الخُطوب والكُروب، وينتشِلُ الإنسانيَّة من أوهاقِ البغضاء والشَّحناء إلى مراسِي التوافُق والصفاء، والسِّلم والوفاء، يقول -جل وعلا-: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء: 9]، ويقول -جل وعلا (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107].
ألا فليعلم العالَمُ أجمع أن الإسلام هو النِّبراسُ لأعظم المصالح والمقاصِد، والتحكيمُ الإلهي لكل مُلتمِّسٍ للحقِّ وقاصِد، ليس لحاجةٍ ذرائعيَّةٍ عالميَّةٍ أو دوليَّةٍ، ولكن عقيدةٌ إيمانيَّةٌ، وحقيقةٌ كونيَّةٌ شرعيَّةٌ واقعيَّةٌ؛ لأنه دينُ رب البريَّة، والفِطر السَّوِيَّة: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14].
هو البلسمُ الشافِي لكل عويصةٍ *** أعيَت مخاطِرُها عقولَ أُباتِها
الله قد فطَرَ النفوسَ على الهُدى *** وأنارَ بالإسلام دربَ هُداتِها
أيها المؤمنون: ومن الفِرَى التي أُلصِقَت بالإسلام دون إرواءٍ أو إحجامٍ، وكانت مثارَ التوجُّس والخوف منه: اتِّهامُه بالإرهاب والسَّيف، والعُنف والظلم والحَيْف، وتلك أُكذوبةٌ ظاهرٌ عوارُها، ويُفنِّدُها أُوارُها.
بل إن دعوَتَه السلامُ ودينُه *** رفقٌ ولم يثلِم تُقاهُ خِصامُ
فـوعودُه دارُ السلامِ وربُّه *** منه السلامُ ودينُه الإسلامُ
الإسلامُ كان ولا يزال في علوٍّ وانتِشار، وانتِصارٍ وازدِهارٍ؛ لأنه دلَفَ إلى القلوب بالحكمةِ والموعظة الحسَنَة والمعروف، لا بالغِلظَة والحُتوف، وأيُّ نعمةٍ تُزجَى أو ثمرةٍ إيمانيَّةٍ تُرجَى ممن أُكرِه على الإيمان بالهُندوانيِّ والسِّنان؟! (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل: 125].
أما العدلُ: فقد تنزَّل فيه أعظم الإنصاف والانتِصاف: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة: 8].
يقول الإمام الطبري -رحمه الله-: "أي: ليكن من أخلاقِكم وصِفاتِكم القيامُ بالعدل، ولا تحمِلنَّكم عداوةُ قومٍ على أن لا تعدِلوا في حُكمكم فيهم من أجل ما بينَكم من العداوة".
ويقول الفخرُ الرازيُّ -رحمه الله-: "اعدِلوا فيهم وإن أساؤُوا إليكم، وأحسِنوا إليهم وإن بالَغوا في إيحاشِكم".
الحـقُّ والعدلُ العظيمُ ورحمةٌ *** مثَّلْـنَ أمـةَ أحمـدٍ تمثـيلاً
فاسأَل عن القِبطيِّ يأخُذُ ثأرَهُ *** من عمرو عاصٍ تلقيَنَّ ذُهولاً
واقـرأ أبا بكرٍ يُوصِّي جُندَه *** لترَى غريبًا في العُقول ضئيلاً
إخوة الإسلام: ومما زادَ الطينَ بِلَّةً، والداءَ عِلَّةً في إذكاء هذه الظاهرة الغريبة: ثورةُ التِّقانة، وغزوُ الفضاء ووسائلُ التواصُل الحديثة، ولا يخفَى ما للإعلام المُؤدلَج المُتحيِّز، الذي لا ينتصِفُ للمِصداقيَّة ولا يُميِّز، من امتِطاء صهَوات التهويلِ والتضخيم، والتشهير والتعميم، واستِغلال بعض الوقائع المُعاصِرة النادَّة، والتصرُّفات الخاطِئة الشاذَّة التي لا تُمثِّلُ بهاءَ الإسلام ولا جمالَه شروَى نقيرٍ أو قِطميرٍ. وإن هي إلا تصرُّفاتٌ آحاديَّة، وأفعالٌ فرديَّةٌ لا مسؤولة، ومُجرَّمةٌ لا مقبولةٌ ولا معقولة، يتصيَّدُها الإعلامُ المأجور، المُغرِضُ المسعور؛ لوصمِ الإسلام والمُسلمين بالقسوة والعُنجُهيَّة أجمعين.
وهنا كلا ولا، وحاشاهما على الوِلا؛ فالإسلامُ هو الملَّةُ التي لا تقومُ الدنيا إلا على ضيائِها، ولن ترشُدَ إلا بهديِها وسَنائِها، وألِيَّةٌ لا حِنثَ يعرُوها، أن العالَمَ قد خسِرَ الخُسرانَ المُبينَ بتأخُّر المُسلمين عن منازل السيادة والرِّيادة.
ولما أوصَدَت كثيرٌ من المُجتمعات دون تشريعاته أبوابَها، وأرصَدَت دون إنسانيَّة تعاليمِه شِهابَها، وها هي شهاداتُ الغرب المُنصِفين، وأعلامِه البارِزين الذين عنَّاهم رشقُ الإسلام بالتشويه والشَّنَآن، ها هُم يهتِفون بفِطَرهم السليمة، وعقولِهم القَويمة قائلين: "لا يُوجد دينٌ أُسيءَ فهمُه، وكثُر الهُجومُ عليه من الجهَلة والمُتعصِّبين مثلَ ما أُسيءَ فهمُ الإسلام ومثلَ ما هُوجِم".
وقال آخر: "إن الإسلام يمتدُّ في العالَم كلِّه ومعه تسيرُ الفضائلُ حين سار، وتدورُ معه المكارِمُ حيث دار".
وقال ثالث: "فالحقُّ أن الأمم لم تعرِف فاتِحين راحِمين مُتسامِحين مثلَ العرب والمُسلمين، ولا دينًا مثلَ دينهم".
الله أكبر: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [الروم: 30].
فإلى النابِذين للماديَّة الشائِهة، وشهَوات النفس الزائِلة وأهوائِها، في ديار الغرب وسوائِها. إلى الذين تناوشَتهم سِهامُ الإحباط والقُنوط، واجتالَتهم رياحُ الضلال والشكوك، من الذين يتجرَّعون الهزيمةَ النفسيَّة، ممن تنكَّروا لثوابِت أمَّتهم الإسلامية.
إلى الذين سمِعوا على الإسلام قبل وُروده، ولم يتنسَّموا عبَقَ رياحينه ووروده: هلُمُّوا جميعًا إلى معينِ الإسلام الرَّقراق، وتوحيده الخفيِّ الخفَّاق. هلُمُّوا إلى أفياء العدل والحقِّ والزَّكاء، حيَّهلاً إلى قِمَم الشرف والعَفاف والفضيلة، وسَنآت الهُدى والرَّحمات الظَّليلة.
فلا خوفَ من الإسلام، ولا خطَرَ من شريعة الملكِ العلاَّم، هلُمُّوا إليه بكل تفاؤُلٍ وحيادٍ وتحرُّرٍ من النَّزعة التشاؤُميَّة، والمعايير والمكاييل الازدِواجيَّة، وستُلفُونَه البحرَ الزخَّار بأكرم الآداب وأصدق الأخبار.
ودونَكم شَذراتٌ من جماليَّاته وإشراقاته، وثماره اليانِعات وأخلاقيَّاته، وإنها المِسكُ المُتضوِّعُ الفيَّاح، والأَلَقُ الباهرُ الليَّاح، في الصَّفو والعَفو والتسامُح، والتجاوُز والإغضاء عمَّن أساء، وفي بهاء الرِّفق والإحسان، والتعاوُن والحوارِ والاعتِدال والاتِّزان.
يقول الحبيبُ -عليه الصلاة والسلام-: "والكلمةُ الطيبةُ صدقة، وتبسُّمُك في وجه أخيك صدقة، وإماطةُ الأذى عن الطريق صدقة". فيا لَها من آدابٍ وقِيَمٍ روائِع، وأخلاقٍ عُلويَّةٍ بدائِع.
إخوة الإيمان في كل مكان: وعلى إثرِ بعضِ الغوائِل السُّلُوكيَّة، والجُنوحات المأزومة الفِكريَّة؛ لزِمَ الأمةَ ساسَتها وعلماءَها ودُعاتَها، ونُخبَ الفِكر والثقافة والإعلام، وكذا النَّصَفة في العالمين، لزِمَ الجميع بشتَّى الوسائل والقنوات تبرِئةُ الدين والتديُّن من تلك المزالِّ الفواقِر، والمسالِك البواقِر، والتوارُد على التحذير من أمرٍ عظيمٍ زادَ المرارَة على الواقع، والخرقَ على الرَّاقِع، لطالَما استُغِلَّ في الخوف من الإسلام الحق، ألا وهو: الفتاوى المُتجاسِرة على استِحلال الدماء المعصومة والأموال دون تورُّعٍ أو استِمهالٍ، فجرَّت على المُسلمين الغُصَص والإعنات، والتضييق والويلات، واستغلَّها الإعلامُ في التخويف من الإسلام وبثِّ الشُّبُهات.
فيا سُبحان الله: حِيالَ من يُقدِمُ على سفك الدماء المعصومة وقتل الأبرياء! أين تقوى الله والوجَلُ من المُحرَّم والجريرة؟! أين طُهرُ النفس ورقَّةُ السَّريرة؟! أين نفاذُ العقل والحكمة والبَصيرة؟!
فيا أيها الغالُون: إن الإسلام دينُ التقوى والمُعاملة الحسنة والسماحة، والحَصافة في الأقوال والأفعال والرَّجاحة، وكم جنَت هذه المسالِكُ على الأمة في تاريخِها المَديد، فحوَّلَت الخِلافات السياسيَّة إلى صِراعاتٍ دينيَّة، تُبدِّدُ المُجتمعات، وتُروِّجُ العداوات والخُصومات؟!
وكم من صادقين أساؤُوا في دعوتهم للإسلام، فصدُّوا كثيرًا من الفِئام؟! وما ذلك إلا لضَحالَة علمِهم، وقلَّة حلمِهم، وقُصور أفهامِهم، ونَزَق أحلامِهم، ومُجافاتهم للعلماء الموثوقين الرَّاسِخين علومًا، الباذِخين في التربية والتوجيه فُهومًا، ما أثارَ حفائِظَ القوم في النَّيل من الإسلام، والإساءة لرموزه، وإذكاء التعصُّب والكراهية، والتمييز والعُنصريَّة، والعُنف والطائفِيَّة، وهنا لا بُدَّ من التعاوُن لمُواجَهة ظاهرة الخوف من الإسلام، لاسيَّما في مناهج التعليم ووسائل الإعلام.
هذا هُتافُ الحبِّ من خير ناصحٍ *** بـأن يسِّروا يـا أمتي لا تُعسِّروا
فمـاذا يكونُ العُذرُ يا من تفلَّتُوا *** من المنهَج الأسمَى فتاهُوا وغرَّرُوا
وبعد:
معاشر الأحِبَّة: فإن مما يُسهِمُ في علاج هذه الظاهرة الخطِرة: أن تُؤصَّل الدعوةُ إلى الله -سبحانه-، وتُبنَى على التيسير لا على التعسير، وعلى الرِّفق والحكمة والمُحاسَنة، لا الغِلظة والشدَّة والمُخاشَنة، وأن نجُبَّ طوقَنا ما أُلحِقَ بالدين من مُنكَر القول وفَدَامَة، ونُبرِزُ ما فيه من جلالٍ ووسامَة، وأن تكون الأمةُ قاطِبةً أصدقَ سفير لرسالة العليِّ الكريم الكبير، وسيرة الحبيب البشير -عليه الصلاة والسلام-.
هذا الرجاءُ وذاك الأمل، ومن المولَى نستلهِمُ سديدَ القول وصوابَ العمل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة: 15، 16].
اللهم انفعنا وارفعنا بالقرآن العظيم، وبسُنَّة سيد المُرسَلين، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم؛ فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنه هو التوابُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا يعمُر القلبَ هُدًى وإشراقًا، ونشكُره -سبحانه- خصَّنا بشِرعةٍ سمَت رحمةً وعدلاً وإشفاقًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تُحقِّقُ للعالمين تُآلُفًا ووِفاقًا، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه نحَلَ البريَّة مكارِمَ أعلاقًا، وعلى آله وصحبِه الغُرِّ الميامين الذين ابتدَروا الخيرات تنافُسًا واستِباقًا، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله حقَّ تُقاته، وكونوا من الشريعة السَّمحة خيرَ دُعاتها، وأبِينوا للعالَم دُرَّ صدَفَاتِها، وأنوارَ هِداياتِها؛ تنالُوا العِزَّ والنصرَ في جنبَاتِها.
إخوة الإيمان: ومن الرحمات المُشرِقات التي يجبُ التحقُّقُ بها ذُخرًا وطُهرًا، وإشاعتها سرًّا وجهرًا؛ لتُسهِم في تبديد هذه المُغالَطات: اكتِنازُ هذه الدين للهدايات والخيرات، حتى فيما ظنَّه الخُصومُ سُبَّةً ومعرَّة، وهو الحقُّ والعدالةُ والطُّهرة في القِصاص والحُدود، والاقتِصاد وقضايا المرأة والأُسرة.
يقول الحق -تبارك وتعالى-: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) [آل عمران: 104]، ويقول -سبحانه-: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) [الحج: 77]، الخيرُ بشتَّى ضُروبه، ومُتعدَّد دُرُوبه، في أسمَى معانِيه، وأجلَى مبانِيه؛ لأن أمة المشاعِر الشَّفيفة، والأفعال الوَريفة ترنُو لها العيونُ بالإجلال والإكبار، ودوليًّا وعالميًّا تنقُلُها بالتقدير والأنظار.
فيا أحبَّتنا الأكارِم في سائر الأقطار والديار: تسامَحوا، وتراحَموا، وتآلَفوا، واتَّحِدوا ولا تَخالَفوا، وصُونوا أوطانَكم عن أوابِد العُنف والتخريب، وانأَوا عن مغبَّات التلاوُم والتثريب، والتخذيل والإرجاف؛ فإنهما من أنكَر الأوصاف، ويأبَى اللهُ ورسولُه وأهلُ الإسلام الحق أن يكون الخيرُ والإصلاح مُمتطِيًا صهوةَ الفوضَى، والعبَث بالأمن، وتدمير المُمتلَكات، وإعاقة النماءِ والبناءِ والعطاءِ.
كونوا المرآةَ العاكِسة لجمالِ الشريعة ومبادِئها العِظام، وخيريَّتها على سائر الأنام. وتلك هي المداميك التي تُحقِّقُ الطُّموحات ذات العزيمة، وتشمخِرُّ عنها المُجتمعاتُ المُتراصَّةُ الكريمة، المُتعانِقةُ الرحيمة، وبذلك تُفوِّتُون الفُرَص على اتِّهام الإسلام بالعُرَر اللئيمة، والهُراءات السَّقيمة.
وتُدرِكون يقينًا أن لا خوفَ من الإسلام، ولا على الإسلام، وإنما هو كيدُ الألِدَّاء، وجهلُ الأوِدَّاء، وإلا فالإسلامُ -وبكل فخرٍ واعتِزازٍ- قدَّم للعالَم أعظمَ حضارةٍ عرفَها التاريخ، وهو -بفضل الله- أبِيٌّ على التنطُّع والغلُوِّ، عصِيٌّ على الانهِزاميَّة والتمييع والذَّوَبان: (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [التوبة: 32].
هذا، وصلُّوا وسلِّموا -رحمكم الله- على المُصطفى الهادِي الأمين، أُسوة المُؤمنين، المُرسَل بالشرع المُبين، كما أمرَكم بذلك ربُّكم ربُّ العالمين في الكتاب المُستَبين، فقال تعالى قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
علـيه صلاةٌ بحرُهـا يتدفَّقُ *** وأزكَى سلامٍ نورُه يتألَّقُ
عليه منَّا صلاةٌ فاحَ نسيمُها *** ومن الورَى أزهارُها تتفتَّقُ
اللهم صلِّ وسلِّم على سيد الأولين والآخرين، ورحمةِ الله للعالمين، وعلى إخوانه من الأنبياء والمُرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، وعلى الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم ارضَ عن الأئمة الخُلفاء الراشدين، والأئمة المهديين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبِعهم بإحسانٍ ورِضوانٍ يا رب العالمين.
التعليقات