عناصر الخطبة
1/ البلاد التي شاع فيها الاختلاط ناطقة بخطره 2/ قواعد شرعية مهمة لحفظ المجتمع 3/ قرار النساء في البيوت 4/ ضرورة احتجاب النساء عن الرجال 5/ التحذير من خضوع النساء بالقول 6/ استشراف الشيطان للمرأة 7/ الاختلاط خطوة من خطوات الشيطان نحو الانحلال 8/ شروط جواز الاختلاط 9/ حالات يجوز فيها الاختلاط المحظوراهداف الخطبة
اقتباس
والآن نعلن وبكل قوة، ونجزم بحقيقة لا مراء فيها، أنك إذا وقفت على جريمة فيها نهش العرض وذبح العفاف وإهدار الشرف، ثم فتشت عن الخيوط الأولى التي نسجت هذه الجريمة وسهلت سبيلها، فإنك حتمًا ستجد أن هناك ثغرة حصلت في الأسلاك الشائكة التي وضعتها الشريعة بين الرجال والنساء ..
إن الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: إكمالاً لخطبة الجمعة الماضية عن الاختلاط، أقول: إنَّ الاختلاط داء ووباء، وشر وبلاء، بكل صوره ومظاهره، الاختلاط في دور التعليم والجامعات، الاختلاط في الوظائف والأندية والمواصلات والمستشفيات والزيارات وحفلات الأعراس، الاختلاط في الأعياد والمهرجانات والمناسبات، الاختلاط في الأماكن الترفيهية والحدائق والأسواق، الاختلاط بكل أشكاله محرم وتعدٍّ على حدود الله، وانتهاك لمحارمه: (وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُون) [البقرة: 229].
الاختلاط بكل صوره نتائج الدعوات الآثمة التي ينفثها أرباب الشهوات في كتاباتهم وزواياهم، وينادون من خلالها بالمساواة بين الذكر والأنثى في كل شيء، اعتراضًا منهم على فطرة الله، ومخالفةً لهديه وشريعته.
أيها المسلمون: كل البلاد التي شاع فيها الاختلاط ناطقة -بل صارخة- بخطر الاختلاط على الدين والدنيا، لخّصها أحد العلماء عندما سأله بعض الساسة الأوربيين: لماذا تبقى نساؤكم محتجبات في بيوتهنّ مدى حياتهنّ من غير أن يخالطن الرجال ويغشين مجامعهم؟! فأجاب في الحال قائلاً: "لأنهن لا يرغبن أن يلدن من غير أزواجهنّ".
ولما وقعت فتنة الاختلاط من جامعة مصرية كان ما كان من حوادث يندى لها الجبين، ولما سُئل عميد "قلة الأدب العربي"، طه حسين عن رأيه في هذا قال: "لابد من ضحايا". ولكنه لم يبين بماذا تكون الضحية؟! وفي سبيل ماذا لابد من ضحايا؟! وأي ثمرة يمكن أن تكون أغلى وأثمن من أعراض المسلمين؟! والآن نعلن وبكل قوة، ونجزم بحقيقة لا مراء فيها، أنك إذا وقفت على جريمة فيها نهش العرض وذبح العفاف وإهدار الشرف، ثم فتشت عن الخيوط الأولى التي نسجت هذه الجريمة وسهلت سبيلها، فإنك حتمًا ستجد أن هناك ثغرة حصلت في الأسلاك الشائكة التي وضعتها الشريعة بين الرجال والنساء، ومن خلال هذه الثغرة دخل الشيطان، وصدق الله: (وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ، وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيما) [النساء: 27].
أيها المسلمون: هناك قواعد مهمة جاءت بها الشريعة لحفظ المجتمع: القاعدة الأولى: قول الله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) [الأحزاب: 33]. إنَّ البيت هو مثابة المرأة التي تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله تعالى، غير مشوَّهة ولا منحرفة ولا مُلوَّثة ولا مكدودة في غير وظيفتها التي هيَّأَها الله لها بالفِطرة. وإن الأم المكدودة بالعمل للكسب، المرهقة بمقتضيات العمل، لا يمكن أن تهب للبيت جوه وعطره، ولا يمكن أن تمنح الطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها، وإنَّ خروج المرأة لتعمل كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة، أما أن يتطوع الناس بها وهم قادرون على اجتنابها فتلك هي النكسة التي تصيب الأرواح والضمائر والعقول في عصور الانتكاس والضلال. فأما خروج المرأة لغير العمل: خروجها للاختلاط وأماكن الملاهي، والتسكُّع في النوادي والمجمعات، وحضور الحفلات والمهرجانات، فذلك هو الارتكاس في الحماة الذي يرد البشر إلى مراتع الحيوان.
لقد كان النساء على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخرجن للصلاة غير ممنوعات شرعًا، ولكن كنَّ في زمن عفّة وتقوى، وكانت المرأة تخرج إلى الصلاة متلفعة لا يعرفها أحد ولا يبرز من مفاتنها شيء، ومع هذا فقد كرهت عائشة -رضي الله عنها- لهنّ أن يخرجن بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ففي الصحيحين أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان نساء المؤمنين يشهدن الفجر مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم يرجعن متلفعات بمروطهنّ، ما يُعرفن من الغلس". وفي الصحيحين أنها قالت: "لو أدرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أحدث النساء لَمَنَعَهُنَّ من المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل. فماذا أحدث النساء في عهد عائشة؟! وماذا كان يُمكن أن يُحدثن حتى ترى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان مانعهنّ من الصلاة؟! ماذا بالقياس إلى ما نراه في هذه الأيام حيث الخروج لا إلى الصلاة، بل لمخالطة الرجال وإبداء الزينة وإثارة الفتنة؟!!
القاعدة الثانية: قول الله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَاب) [الأحزاب: 53]، هكذا يقول اللطيف الخبير، أما المنافق الحقير فينعق: نصف المجتمع معطل، والمجتمع يتنفس برئة واحدة. فلا يقل أحد غير ما قال الله، لا يقل أحد: إن الاختلاط وإزالة الحجاب والترخص في الحديث واللقاء والجلوس والمشاركة بين الجنسين أطهر للقلوب، وأعف للضمائر، وأعون على تصريف الغريزة المكبوتة، وعلى إشعار الجنسين بالأدب وترقيق المشاعر والسلوك... إلى آخر ما يقوله نفر من خلق الله الضعاف المهازيل الجهَّال. لا يقل أحد شيئًا من هذا والله يقول: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَاب)، يقول هذا عن نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- الطاهرات أمهات المؤمنين، وعن رجال الصدر الأول من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ممن لا تتطاول إليهم وإليهنّ الأعناق، وحين يقول الله قولاً ويقول خلق من خلقه قولاً، فالقول لله سبحانه، وكل قول آخر هراء لا يردده إلا من يجرؤ على القول بأن العبيد الفانين أعلم بالنفس البشرية من الخالق الباقي الذي خلق هؤلاء العبيد ،والواقع العملي الملموس يهتف بصدق الله وكذب المدعين غير ما يقوله الله، والتجارب المعروضة اليوم في العالم مصدقة لما نقول، وهي في البلاد التي بلغ الاختلاط الحر فيها أقصاه أظهر في هذا وأقطع من كل دليل، والدول الغربية أول هذه البلاد التي أتى الاختلاط فيها أبشع الثمار.
القاعدة الثالثة: قول الله تعالى: (إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) [الأحزاب: 32]. من هنَّ اللَّواتي يحذرهنّ الله هذا التحذير؟! إنهنَّ أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمهات المؤمنين، اللاتي لا يطمع فيهنّ طامع، ولا يرف عليهنّ خاطر مريض، وفي أي عهد يكون هذا التحذير؟! في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وعهد الصفوة المختارة من البشريَّة، ولكن الله الذي خلق الرجال والنساء يعلم أن في صوت المرأة حين تخضع بالقول وتترقق في اللفظ ما يثير الطمع في قلوبٍ، ويهيج الفتنة في قلوبٍ، وإن القلوب المريضة موجودة في كل عهد وفي كل بيئة وتجاه كل امرأة، ولو كانت هي زوج النبي الكريم وأُم المؤمنين، فكيف بهذا المجتمع الذي نعيش فيه اليوم في عصرنا، الذي هاجت فيها الفتن وثارت الشهوات؟! كيف بنا في هذا الجو الذي كل شيء فيه يثير الفتة ويُهيِّج الشهوة ويُنبه الغريزة؟! كيف بنا في هذا العصر في هذا الجو ونساء يتكسَّرن في نبراتهنّ ويتميَّعن في أصواتهنّ؟! هل بعد هذا نجد مبررًا أن تقرأ المرأة أمام الرجال؟! وتلقي كلمة أمام الرجال؟! وتخاطب الرجال خاضعة في القول فيطمع فيها مرضى القلوب ويتغنى بجمال صوتها ضعاف النفوس؟! هذه هي الحقيقة، لكن أرباب الشهوات لا يفقهون.
القاعدة الرابعة: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء"، وحينما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المسجد -وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق- قال للنساء: "استأخرن، فليس لكُنَّ أن تَحقُقْن الطريق، عليكن بحافات الطريق". فكانت المرأة تلصق بالجدار، حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به. فواعجبًا من زمن أصبحت فيه النساء يمشين بكل زهو وتبختر أمام الرجال!!
وحرصًا منه -صلى الله عليه وسلم- على هذا المبدأ، فقد أفرد بابًا خاصًّا للنساء يدخلن منه للمسجد ويخرجن منه، لا يخالطهنّ ولا يشاركهنّ فيه الرجال، ومن ذلك تشريعه للرجال أن لا يخرجوا فور التسليم من الصلاة -إذا كان في الصفوف الأخيرة نساء- حتى يخرجن وينصرفن إلى دورهنّ قبل الرجال، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- إذا سلم مكث قليلاً، وكانوا يرون أن ذلك كيما ينفذ النساء قبل الرجال.
إنَّه في أقدس الأماكن، وفي أطهر الأعمال -وهي الصلاة- كان الإسلام يحرص على انفصال النساء عن الرجال، كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها". هذه هي الحقيقة يعلنها -صلى الله عليه وسلم- في مقاله وفعاله، ويقرر فيها للأمة أن الأنثى هي أنثى مهما استرجلت، وأن العواطف والهواتف في أجسادهما تشدهما شطرًا إلى شطر، مهما كان الجو الذي يسودهما مفعمًا بجد أو هزل، وبفرح أو ترح، وإنما يخفف من ذلك الشد أو يستره الحياء والدين، وما أقلهما في عالم الاختلاط!!
أيها المسلمون: رُبَّ قائلٍ يقول: ما هذا التهويل وتلك الإثارة؟! ولماذا هذه المُبالغة وكأن نساءنا سيظهرن على الشواطئ عرايا، أو أن المسارح سُتنصَب في الزوايا؟! ولهؤلاء نقول: ولِمَ لا يُمكِن أن يكون الأمر كذلك؟! أولم يخبرنا ربنا أن للشيطان خطوات وحذرنا منها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَان) [البقرة: 168]؟! أوليس الاختلاط أصبح أمرًا واقعًا في كثير من ميادين حياتنا؟! فهل كان مجتمعنا كذلك قبل سنوات؟! أليس من نسائنا من تمردن على الفطرة، وخلعن جلباب الحياء، فنافسن الرجال في قيادة الطائرات، وسباق الفروسية، والعمل في الشركات، والظهور مع الكبراء متبرجات؟! أوليس الاختلاط واقعًا في المستشفيات والمستوصفات، وفي وسائل الإعلام، وفي الحدائق والمتنـزهات، وفي بعض الشركات؟! بل وفي الأجواء على الطائرات؟! فكيف حدث هذا؟! أليس بخطوات؟! أفليس إذا تواصلت الخطوات بلا إنكار ولا استنكار سنصل إلى ما يشتهون؟!
إن السعي لفرض الاختلاط في مجتمعنا، أو الدعوة إليه، أو الرضا أو السكوت عنه، هو سعي لجر الأمة إلى السقوط والانهيار، حينما تخسر أعظم مقوماتها وهي الدين والأخلاق والمثل، وإن من يسعى لهذه النتيجة فهو ظالم لنفسه وأمته.
ننادي دُعاة الاختلاط والانحطاط: رُويدكم يا أدعياء التقدم والتحضر، رُويدكم فقد طفح الصاع وطفح الكيل، وجاوزتم حدكم، وخرجتم عن طوركم، من أنتم حتى تطاولوا السماء بأعناقكم؟! ومن أنتم حتى تنازعوا الله في حكمه؟! أنتم تقولون قولاً والله يقول قولاً، وقولكم مصادم لقول الله، أفتريدون أن نصدق كلامكم ونتبع أهواءكم ونُخالف قول ربنا؟! تالله لن نؤمن لكم، قد نبأنا الله من أخباركم.
إننا ننادي دُعاة الاختلاط: من كان جاهلاً بآثار دعوته ونتائجها فليستغفر ربه، ويتقي الله في مقولاته وممارساته قبل أن يأتي يوم يرى فيه نتائج دعوته في أقرب الناس إليه، يراه في أخواته أو زوجته أو بناته، ونقول لهم: إنَّ المسلم الحقيقي لن يسكتَ ولن يصمت؛ لأنَّه يُدرك تمام الإدراك أن حضارته في إسلامه، واستقراره في التزامه، وعظمته بإيمانه، فهو يرفض كل دعوة تصادم إسلامه، ويُناهِض كل فِكرة تُعارض التزامه.
إنَّ الشخصية المسلمة ستقف لكم بالمرصاد؛ لأنَّها تُدرك أهداف الدعوات الهابطة، وألوان المشاعر المتردية، وإننا لنناشد كل مسلم ومسلمة في بلادنا أن يقف أمام تيار الاختلاط، ندعوه إلى أن يكون أصيلاً وقويًّا، فلا يتقاعس عن المواجهة بالتي هي أحسن، وإنَّ الساكت أمام هذا الخطر شيطان أخرس، وسيحمل إثمه وإثم الأجيال القادمة إن فسدت: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد) [آل عمران: 182].
وإنَّ على علماء الأمة ودُعاتها ووُجهائها الكفل الأعظم في مواجهة تيار التغريب، بإحياء شعار: "الدين النصيحة، لله ولرسوله وللأئمة المسلمين وعامتهم".
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: الاختلاط منه ما هو جائز، ومنه ما هو محرم؛ فالاختلاط الجائز له شروط:
الشرط الأول: أن يخلو من تبرج المرأة وكشف ما لا يجوز لها كشفه؛ لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْن) [الأحزاب: 59]، وهذه الآية تأمر بالحجاب عند الاختلاط.
الشرط الثاني: أن يخلو من النظر إلى ما لا يجوز النظر إليه، والدليل قوله تعالى: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) [النور: 30]، وقوله -عز وجل-: (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) [النور: 31].
الشرط الثالث: أن لا تتكسر المرأة في الكلام وتخضع فيه، قال الله تعالى: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفا) [الأحزاب: 32].
الشرط الرابع: أن لا يكون مع خلوة؛ فإن كان مع خلوة -بأن كان رجل وامرأة في مكان لا يراهما فيه أحد- حرم الاختلاط؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يخلونّ رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم"، وقوله: "لا يخلونّ أحدكم بامرأة؛ فإن الشيطان ثالثهما".
الشرط الخامس: أن لا تظهر المرأة على حالة تثير الرجال؛ من تعطر واستعمال لأدوات الزينة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا استعطرت المرأة، فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا". يعني زانية.
الشرط السادس: أن يخلو من إزالة الحواجز بين الجنسين، حتى يتجاوز الأمر حدود الأدب، ويدخل في اللهو والعبث؛ كالاختلاط الذي يحدث في الأعراس.
الشرط السابع: أن يخلو من مس أحد الجنسين الآخر دون حائل، فلا تجوز المصافحة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إني لا أصافح النساء".
الشرط الثامن: أن يخلو من تلاصق الأجسام عند الاجتماع؛ عن أبي أسيد الأنصاري -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول -وهو خارج من المسجد، فاختلط الرجال مع النساء في الطريق-، فقال -صلى الله عليه وسلم- للنساء: "استأخرن؛ فإنه ليس لكن أن تحققن -أي تتوسطن- الطريق، عليكنّ بحافات الطريق". فكانت المرأة تلتصق بالجدار، حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به.
فإذا توفر في الاختلاط هذه الشروط كان جائزًا، وإن فقد شرط من هذه الشروط كان الاختلاط حرامًا.
أيها المسلمون: ذكر العلماء بعض الحالات التي يجوز فيها الاختلاط:
الحالة الأولى: الاختلاط للضرورة: من أمثلة الاختلاط للضرورة ما قاله الإمام النووي -رحمه الله-: "من أن يجد امرأة أجنبية منقطعة في الطريق أو نحو ذلك، فيباح له استصحابها، بل ويلزمه ذلك إذا خاف عليها لو تركها، وهذا لا خلاف فيه.
ومن صور الضرورة فرار الرجل الأجنبي بالمرأة تخليصًا لها ممن يريد بها الفاحشة، إذا كان الفرار بها هو السبيل لتخليصها. ونحو ذلك من حالات الضرورة".
الحالة الثانية: الاختلاط للحاجة: كالاختلاط لإجراء المعاملات الشرعية والمعاملات المالية الجائزة لها؛ من بيع وشراء وغيرها؛ لأن إجراء هذه المعاملات يستلزم عادة اجتماعها للمساومة ورؤية محل العقد، ولكن يشترط أن تكون قد التزمت بالشروط التي ذكرت سلفًا.
الحالة الثالثة: الاختلاط لغرض تحمل الشهادة: يجوز للمرأة أن تكون شاهدة في قضايا الأموال وحقوقها؛ قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ...)، إلى قوله: (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء) [البقرة: 282]، وتحمّل المرأة الشهادة يستلزم حضورها ما تشهد عليه من معاملة، وقد تكون بين رجلين أو أكثر، فيجوز لها هذا الحضور وما يقتضيه من اجتماعها بأطراف المعاملة من الرجال.
الحالة الرابعة: الاختلاط لغرض أعمال الحسبة: والدليل أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ولَّى "الشفاء" -وهي امرأة من قومه- السوق. فعمر ولَّى الشفاء الحسبة لتراقب السوق، فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وفي هذا مخالطة لأهل السوق.
الحالة الخامسة: الاختلاط لغرض خدمة الضيوف إذا كان معها زوجها: يجوز للمرأة أن تجتمع مع الضيوف الأجانب إذا كان معها زوجها، وكانت هناك حاجة مشروعة لوجودها وحضورها؛ لأن وجود زوجها معها يمنع الخلوة بالأجنبي، وفي واجب الضيافة الذي يستلزم قضاؤه وجود الزوجة، فيجوز وجودها، ولو أدى إلى اجتماعها واختلاطها بالضيوف. وقد دلّ على هذا الجواز حديث سهل بن سعد، قال: دعا أبو أسيد الساعدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانت امرأته يومئذ خادمهم، وهي العروس، قال سهل: أتدرون ما سقت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! أنقعت له تمرات من الليل، فلما أكل سقته. وفي راوية: فما صنع لهم طعامًا، ولا قرّبه إليهم، إلا امرأة أم أسيد. وقد جاء في شرح هذا الحديث: وفي الحديث جواز خدمة المرأة زوجها ومن يدعوه عند الأمن من الفتنة، ومراعاة ما يجب عليها من الستر، وجواز استخدام الرجل امرأته في مثل ذلك. وفيه جواز إيثار كبير القوم في الوليمة بشيء دون من معه.
الحالة السادسة: الاختلاط للقيام بأعمال الجهاد: ومن أمثلة هذا النوع من الاختلاط اشتراك النساء في الجهاد، بأن يقمن بنقل الماء إلى المقاتلين ومداواة الجرحى منهم، ونحو ذلك من الأعمال، وكلها جائزة ومشروعة، وإن استلزمت أو اقتضت مخالطة النساء للرجال؛ لأن هذه الأعمال تحقق مصلحة شرعية أذن الشرع الإسلامي للنساء بالقيام بها، ويدل على ذلك ما روته الربيع بنت معوذ، قالت: كنا نغزو مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فنسقي القوم ونخدمهم، ونرد القتلى إلى المدينة.
الحالة السابعة: الاختلاط لغرض استماع الوعظ والإرشاد: ومن اجتماع المرأة بالرجل للمصلحة الشرعية، اجتماع الرجل بالنساء لوعظهنّ وتعليمهنّ أمور الدين، سواء أكان وحده أم كان معه شخص آخر، فقد روى الإمام البخاري عن ابن عباس قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم عيد، فصلى ركعتين لم يصل قبل ولا بعد، ثم مال على النساء ومعه بلال، فوعظهنّ وأمرهنّ أن يتصدقن.
اللهم...
التعليقات