عناصر الخطبة
1/ مشاهدة المحتضرين أبلغ موعظة 2/ صور من أخبار المحتضرين 3/ شيء من أحوال الصالحين عند الموت وأمانيهم 4/ أحوال العصاة عند نزول الموت 5/ من أسباب سوء الخاتمة

اقتباس

مشاهدة المحتضرين والنظر إلى شدة الموت ومشاهدة سكراته، ونزعاته، وتأمل صورة الميت بعد مماته، ما يقطع عن النفوس لذاتها، ويطرد عن القلوب مسراتها، ويمنع الأجفان من النوم، والأبدان من الراحة، ويبعث على العمل، ويزيد في الاجتهاد والتعب، فينبغي لمن قسا قلبه، وكثر ذنبه، أن ..

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله المرتفع عن إدراك الأبصار الناظرة، المنزه عن التخيلات، والأوهام الخاطرة، العالم بما تحت أمواج البحار الزاخرة، كعلمه بحركات خلقه الظاهرة، الذي جعل الموت أول منازل الآخرة، فأقام به القوي والضعيف تحت قدرته القاهرة. أحمده على نعمه وآلائه المتواترة، وآياته الباهرة المتظاهرة، حمدًا أدفع به حلول كل فاقرة.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة صادرة عن طوية غير مرتابة ولا فاترة. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث بالآيات الباهرة، والمفضل بالمقامات الفاخرة، الذي ألف بين القلوب المتنافرة. اللهم فصل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الأنجم الزاهرة.

 

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن الموت هو الخطب الأفظع، والأمر الأشنع، والكأس التي طعمها أكره وأبشع، وأنه الحارث الأهدم للذات، والأقطع للراحات، والأجلب للكريهات، فإن أمراً يقطع أوصالك، ويفرق أعضاءك، ويهدم أركانك لهو الأمر العظيم، والخطب الجسيم، وإن يومه لهو اليوم العظيم، واعتبروا بمن صار تحت التراب، وانقطع عن الأهل والأحباب.

 

أيها الإخوة: إن مشاهدة المحتضرين والنظر إلى شدة الموت ومشاهدة سكراته، ونزعاته، وتأمل صورة الميت بعد مماته، ما يقطع عن النفوس لذاتها، ويطرد عن القلوب مسراتها، ويمنع الأجفان من النوم، والأبدان من الراحة، ويبعث على العمل، ويزيد في الاجتهاد والتعب؛ فينبغي لمن قسا قلبه، وكثر ذنبه أن يتذكر ذلك ويتأمله ويتفكر في هجوم الموت عليه؛ لعله يتوب ويحسن الاستعداد للقدوم على الله.

 

وهكذا كان حال السلف فيروى أن الحسن البصري دخل على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت، فنظر إلى كربه، وشدة ما نزل به، فرجع إلى أهله، بغير اللون الذي خرج به من عندهم، فقالوا له: الطعام -يرحمك الله- فقال: "يا أهلاه عليكم بطعامكم وشرابكم، فو الله لقد رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقاه".

 

أيها الإخوة: وفي هذه الخطبة نعرض لشيء من أخبارِ المحتضرين، وأقوالِهم وأفعالِهم عند نزول الموت، ونسأل الله أن يحسن لنا الختام، وأن يتولانا ويثبتنا في الحياة وعند الممات.

 

ونقف مع جملَة من كَلَام المرضى والمحتضرين من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَمن بعدهمْ من الصَّالِحين، وَغَيرهم من المغترين والجهلة المخدوعين؛ لَعَلَّه يُحَرك مِنْك سَاكِنًا، ويخوف مِنْك آمنًا، ويشغلنا بعون الله ظَاهرًا وَبَاطنًا.

 

يروى عَن أبي بكر الصّديق -رَضِي الله عَنهُ- أَنه مرض فَقيل لَهُ: أَلا نَدْعُو لَك طَبِيبًا؟ فَقَالَ: "قد رَآنِي"، فَقَالُوا: وَأي شَيْء قَالَ لَك؟ قَالَ: "إِنِّي فعال لما أُرِيد". فتأمل شدة توحيده وتعلقه بربه في أحلك الظروف.

 

وَلما مرض أَبُو الدَّرْدَاء - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالُوا لَهُ: أَي شَيْء تشْتَهي؟ قَالَ: "الْجنَّة"، قَالُوا: نَدْعُو لَك طَبِيبًا؟ قَالَ: "الطَّبِيب أَمْرَضَنِي!" فَقَالَ لَهُ رجل من أَصْحَابه: يَا أَبَا الدَّرْدَاء أتشتهي أَن أسامرك اللَّيْلَة؟ فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء: "أَنْت معافى، وَأَنا مبتلى، فالعافية لَا تدعك أَن تسهر، وَالْبَلَاء لَا يدعني أَن أَنَام". أسأَل الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ أَن يهب لأهل الْعَافِيَة الشُّكْر، وَلأَهل الْبلَاء الصَّبْر.

 

وَقَالَ الشّعبِيّ -رَحمَه الله-: "لما طعن عمر -رَضِي الله عَنهُ- أُتِي بِلَبن، فَشرب مِنْهُ، فَخرج اللَّبن من طعنته، فَقَالَ: الله أكبر، وَعلم أَنه يَمُوت، فَجعل جُلَسَاؤُهُ يثنون عَلَيْهِ خيرًا، فَقَالَ: "وددت أَن أخرج من الدُّنْيَا كفافًا كَمَا دخلت لَا عَليّ وَلَا لي، وَالله لَو كَانَ لي الْيَوْم مَا طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس لافتديت بِهِ من هول المطلع". وَلما احْتضرَ غشي عَلَيْهِ وَرَأسه فِي الأَرْض، فَوضع ابْنه عبد الله رَأسه فِي حجره، فَلَمَّا أَفَاق قَالَ لَهُ: "ضع رَأْسِي على الأَرْض كَمَا أَمرتك"، فَقَالَ لَهُ ابْنه: يَا أَبَت وَهل الأَرْض وحجري إِلَّا سَوَاء؟! قَالَ: "ضع رَأْسِي على الأَرْض كَمَا أَمرتك"، فَوَضعه، قَالَ: فَمسح خديه بِالتُّرَابِ، ثمَّ قَالَ: "ويل لعمر، ويل لعمر، ويل لأم عمر إِن لم يغْفر الله لعمر، فَإِذا قضيت فَأَسْرعُوا بِي إِلَى حفرتي، فَإِنَّمَا هُوَ خير تقدمونني إِلَيْهِ، أَو شَرّ تضعونه عَن رِقَابكُمْ".

 

وَلما احْتضرَ عُثْمَان بن عَفَّان -رَضِي الله عَنهُ- جعل يَقُول -وَدَمه يسيل-: "لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين، اللَّهُمَّ إِنِّي أستعين بك على أموري، وَأَسْأَلك الصَّبْر على بلائي".

 

وَلما احْتضرَ سلمَان الْفَارِسِي -رَضِي الله عَنهُ- بَكَى، فَقيل لَهُ: مَا يبكيك؟! قَالَ: "وَالله مَا أبْكِي جزعًا من الْمَوْت، وَلَا حرصًا على الدُّنْيَا، وَلَكِن عهد عَهده إِلَيْنَا رَسُول الله -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- قَالَ: "ليكن بُلْغَة أحدكُم من الدُّنْيَا كزاد الرَّاكِب" [صحيح الترغيب للألباني:3224]"، فَلَمَّا مَاتَ نُظر فِي جَمِيع مَا ترك فَإِذا قِيمَته ثَلَاثُونَ درهمًا، وَقد كَانَ أَمِيرًا على الْمَدَائِن مَدَائِن كسْرَى، ويروى أَن امْرَأَته قَالَت -وَهُوَ فِي الْمَوْت-: واحزناه!! فَقَالَ سلمَان: "بل واطرباه! غَدًا نلقى الْأَحِبَّة مُحَمَّدًا وَحزبه"، وَمثل هَذَا القول يروى أَيْضا عَن بِلَال -رَضِي الله عَنهُ- أَنه قَالَ -عِنْد مَوته-: "غَدا نرى الْأَحِبَّة مُحَمَّدًا وَحزبه".

 

ويروى أَن عَمْرو بن الْعَاصِ -رَضِي الله عَنهُ- لما دنا مِنْهُ الْمَوْت دَعَا بحرسه وَرِجَاله، فَلَمَّا دخلُوا عَلَيْهِ قَالَ: "هَل تغنون عني من الله شَيْئًا؟!" قَالُوا: لَا، قَالَ: "فافترقوا عني"، ثمَّ دَعَا بِمَاء فَتَوَضَّأ فأسبغ الْوضُوء، ثمَّ قَالَ: "احْمِلُونِي إِلَى الْمَسْجِد"، فَفَعَلُوا، فَقَالَ: "استقبلوا بِي الْقبْلَة"، فَفَعَلُوا، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ إِنَّك أَمرتنِي فعصيت، وائتمنتني فخنت، وحددت لي فتعديت، اللَّهُمَّ لَا بَرِيء فأعتذر، وَلَا قوي فأنتصر، بل مذنب مُسْتَغْفِر، لَا مُصِرّ وَلَا مستكبر" ثمَّ قَالَ: "لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين"، فَلم يزل يُرَدِّدهَا حَتَّى مَاتَ. وَقَوله لحرسه وَرِجَاله: "هَل تغنون عني من الله شَيْئا"؟! إِنَّمَا فعل ذَلِك تصغيرًا لنَفسِهِ وتحقيرًا، وليريها رُؤْيَة مُشَاهدَة أَن الَّذين كَانُوا يغنون عَنهُ فِي الدُّنْيَا لَا يغنون عَنهُ عِنْد نزُول الْمَوْت شَيْئا. ويروى أَن ابْنه عبد الله قَالَ لَهُ: يَا أَبَت مَا كنت أَظن أَن ينزل بك أَمر من الله إِلَّا صبرت عَلَيْهِ، فَقَالَ: "يَا بني! نزل بأبيك ثَلَاث خِصَال: فِرَاق أحبته، وَانْقِطَاع أمله، وَالثَّالِثَة هول المطلع" ثمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ إِنَّك أمرت فتوانيت، ونهيت فعصيت، اللَّهُمَّ من شيمتك الْعَفو والتجاوز".

 

وَلما حضرت أَبَا هُرَيْرَة الْوَفَاة بَكَى، فَقيل لَهُ: مَا يبكيك؟! فَقَالَ: "يبكيني بُعد الْمَفَازَة، وَقلة الزَّاد، وَضعف الْيَقِين، والعقبة الكؤود الَّتِي المهبط مِنْهَا إِمَّا إِلَى الْجنَّة وَإِمَّا إِلَى النَّار".

 

وَلما حضرت حُذَيْفَة بن الْيَمَان الْوَفَاة قَالَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي كنت أخافك وَأَنا الْيَوْم أرجوك، اللَّهُمَّ إِنَّك تعلم أَنِّي لم أكن أحب الْبَقَاء فِي الدُّنْيَا لجري الْأَنْهَار وَلَا لغرس الْأَشْجَار، وَلَكِن لظمأ الهواجر، وَقيام اللَّيْل، ومكابدة السَّاعَات، ومزاحمة الْعلمَاء فِي حلق الذّكر"، وَلما اشْتَدَّ بِهِ النزع جعل كلما أَفَاق من غمرة فتح عَيْنَيْهِ وَقَالَ: "يَا رب! شدّ شداتك، واخنق خنقاتك، فوعزتك إِنَّك لتعلم أَنِّي أحبك".

 

وَمثل هَذَا يرْوى عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر أَنه لما نزل بِهِ الْمَوْت بَكَى فَقيل لَهُ: مَا يبكيك؟! فَقَالَ: "مَا أبْكِي حرصا على الدُّنْيَا، وَلَا جزعا من الْمَوْت، وَلَكِن أبْكِي على مَا يفوتني من ظمأ الهواجر، وَقيام ليَالِي الشتَاء".

 

وَلما اشْتَدَّ الْمَرَض على عمر بن عبد الْعَزِيز جَاءُوهُ بطبيب فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ وَرَآهُ قَالَ: إِنَّه قد سُقِي السم، وَلَا آمن عَلَيْهِ الْمَوْت، فَرفع بَصَره عمر وَقَالَ: "لَا يُؤمن أَيْضًا الْمَوْت على من لم يسق السم"، فَقَالَ الطَّبِيب: وَهل أحسست بذلك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ فَقَالَ: "نعم، عرفت ذَلِك حِين وَقع فِي بَطْني"، قَالَ: تعالج يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِنِّي أَخَاف أَن تذْهب نَفسك، فَقَالَ عمر: "رَبِّي -تبَارك وَتَعَالَى- خير مذهوب إِلَيْهِ، وَالله لَو علمت أَن شفائي عِنْد شحمة أُذُنِي مَا رفعت إِلَيْهِ يَدي، اللَّهُمَّ خِر لعمر فِي لقائك"، فَلم يلبث إِلَّا أَيَّامًا قَلَائِل حَتَّى مَاتَ -رَضِي الله عَنهُ-. وتأمل عظيم توكله وشوقه للقاء الله -سبحانه-، رضي الله عن عمر ورحمه.

 

وَلما دنت الْوَفَاة من عمر بن عبد الْعَزِيز -رَحمَه الله- بَكَى، فَقيل لَهُ: مَا يبكيك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟! أبشر فقد أَحْيَا الله -تبَارك وَتَعَالَى- بك سنة، وَأظْهر عدلاً، فَبكى ثمَّ قَالَ: "أَلَيْسَ أُوقف ثمَّ أُسأَل عَن هَذَا الْخلق؟! وَالله لَو عدلت فيهم لخفت أَن لَا تقوم نَفسِي بحجتها عِنْد الله تَعَالَى إِلَّا أَن يلقنها حجتها ويثبتها؛ فَكيف بِكَثِير مِمَّا ضيعت، ثمَّ بَكَى".

 

ويروى عَن فَاطِمَة بنت عبد الْملك امْرَأَة عمر بن عبد الْعَزِيز أَنَّهَا قَالَت: كنت أسمع عمر بن عبد الْعَزِيز فِي مَرضه -الَّذِي مَاتَ فِيهِ- يَقُول: "اللَّهُمَّ أخفِ عَلَيْهِم موتِي وَلَو سَاعَة من نَهَار" فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ خرجت من عِنْده، فَجَلَست فِي بَيت قريب مِنْهُ، بيني وَبَينه بَاب، فَسَمعته يَقُول: (تِلْكَ الدَّار الْآخِرَة نَجْعَلهَا للَّذين لَا يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين) [القصص:83]، ثمَّ بعد ذَلِك هدأ، فَلم أسمع لَهُ حَرَكَة وَلَا كلَامًا، فَقلت لوصيف لنا: انْظُر إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا صنع، فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ صَاح، فأسرعت إِلَيْهِ فَإِذا هُوَ ميت -رَحمَه الله. ويروى أَنه قيل لَهُ -وَقد اشْتَدَّ مَرضه-: أوصنا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَقَالَ: "أحذركم هول مصرعي هَذَا".

 

وَمرض الرّبيع بن خثيم -رَضِي الله عَنهُ- فَقَالُوا لَهُ: أَلا نَدْعُو لَك طَبِيبًا؟ فتفكر وَقَالَ: "أَيْن عَاد وَثَمُود وَأَصْحَاب الرس وقرون بَين ذَلِك كثير، قد كَانَت فيهم الأدواء والأطباء، فَلَا أرى المدَاوَى بَقِي وَلَا المداوِي، كل قد قضى وَمضى، وَالله لَا أَدْعُو لي طَبِيبا أبدًا". وهذا من ثقته وتوكله، وإلا فالطب ليس محرمًا.

 

وَقيل لحسان بن أبي سِنَان فِي مَرضه كَيفَ تجدك؟ قَالَ: "أجدني بِخَير إِن نجوت من النَّار".

 

وَقَالَ بعض الصَّالِحين: دَخَلنَا على مُغيرَة الخراز وَهُوَ مَرِيض، فَقُلْنَا لَهُ: كَيفَ تجدك؟ فَقَالَ: "أجدني موقرًا بالآثام"، فَقُلْنَا لَهُ: فَمَا تَشْتَكِي؟ قَالَ: "الْحَسْرَة على طول الْغَفْلَة"، قُلْنَا: فَمَا تشْتَهي؟ قَالَ: "الْإِنَابَة إِلَى مَا عِنْد الله، والنقلة عَمَّا يكرههُ الله"، قَالَ: فَبكى الْقَوْم جَمِيعًا.

 

وَدخل الْحسن الْبَصْرِيّ على عَطاء السّلمِيّ -وَهُوَ مَرِيض- فَوَجَدَهُ قد علاهُ الْغُبَار والصفار، فَقَالَ: يَا عَطاء لَو خرجت إِلَى صحن الدَّار فَكَانَ يَضْرِبك الْهَوَاء فتجد لَهُ رَاحَة؟ فَقَالَ لَهُ: "يَا أَبَا سعيد ! وَبِهَذَا تَأْمُرنِي؟! إِنِّي لأَسْتَحي من الله -عز وَجل- أَن أخطو خطْوَة فِي رَاحَة بدني".

 

وَقَالَ مَنْصُور: دخلت على عَطاء السّلمِيّ بعد هَذَا أعوده -وَهُوَ مَرِيض- فرأيته يتبسم، فعجبت من ذَلِك، فَكَأَنَّهُ فهم عني، فَقَالَ: "أتعجب يَا ابْن أخي؟!" فَقلت: وَكَيف لَا أعجب؟! فَقَالَ: وَ"كَيف لَا أضحك وَقد دنا فراقي مِمَّن كنت أخافه وأحذره، ودنا قدومي على خَالق كنت أرجوه وآمله، أَتجْعَلُ مقَامي مَعَ مَخْلُوق أخافه كقدومي على خَالق أرجوه"، قَالَ هَذَا قبل أَن يحضرهُ وَينزل بِهِ الْمَوْت.

 

وَقَالَ سُلَيْمَان التَّيْمِيّ: دخلت على بعض أَصْحَابنَا وَهُوَ فِي الْمَوْت، فَرَأَيْت من جزعه مَا سَاءَنِي، فَقلت هَذَا الْجزع كُله! لماذا؟ وَقد كنت تحمد الله على كَذَا -يَعْنِي على حَالَة صَالِحَة- فَقَالَ: "وَمَا لِي لَا أجزع؟ وَمن أَحَق مني بالجزع؟ وَالله لَو أَتَتْنِي الْمَغْفِرَة من الله -عز وَجل- لأهمني الْحيَاء مِنْهُ فِيمَا أفضيت بِهِ إِلَيْهِ".

 

وَلما حضرت مُحَمَّد بن سِيرِين الْوَفَاة بَكَى، فَقيل لَهُ: مَا يبكيك؟ فَقَالَ: "أبْكِي لتفريطي فِي الْأَيَّام الخالية، وَقلة عَمَلي للجنة الْعَالِيَة، وَمَا ينجيني من النَّار الحامية".

 

وَلما حضرت إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ الْوَفَاة بَكَى، فَقيل لَهُ: مَا يبكيك؟ فَقَالَ: "انْتظر رَسُولا من رَبِّي، يبشرني بالنَّار أَو بِالْجنَّةِ".

 

وَقَالَ حَمَّاد بن سعيد بن أبي عَطِيَّة الْمَذْبُوح: لما حضر أَبَا عَطِيَّة الْمَوْت جزع، فَقَالُوا لَهُ: أتجزع من الْمَوْت؟ فَقَالَ: "وَمَا لي لَا أجزع، وَإِنَّمَا هِيَ سَاعَة، فَلَا أَدْرِي أَيْن يُسْلك بِي؟".

 

وَلما حضرت الْوَفَاة فُضَيْل بن عِيَاض -رَحمَه الله- غشي عَلَيْهِ، ثمَّ أَفَاق وَقَالَ: "يَا بُعد سَفَرِي، وَقلة زادي".

 

وَكَانَ عَامر بن قيس يُصَلِّي كل يَوْم وَلَيْلَة ألف رَكْعَة، فَلَمَّا حَضَره الْمَوْت بَكَى، فَقيل لَهُ: مَا يبكيك؟ قَالَ: "أبْكِي لقَوْله تَعَالَى: (إِنَّمَا يتَقَبَّل الله من الْمُتَّقِينَ) [المائدة:27]".

 

وَلما نزل الْمَوْت بِسُلَيْمَان التَّيْمِيّ قيل لَهُ: أبشر فقد كنت مُجْتَهدًا فِي طَاعَة الله تَعَالَى، فَقَالَ: "لَا تَقولُوا هَكَذَا، فَإِنِّي لَا أَدْرِي مَا يَبْدُو لي من الله -عز وَجل-، فَإِنَّهُ يَقُول -سُبْحَانَهُ-: (وَبَدَا لَهُم مِنَ اللَّهِ مَا لم يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) [الزمر:47]" قَالَ: بَعضهم عمِلُوا أعمالاً كَانُوا يظنون أَنَّهَا حَسَنَات فوجدوها سيئات.

 

وَكَانَ الْجُنَيْد يقْرَأ القرآن -وَهُوَ فِي سِيَاق الْمَوْت- وَيُصلي، فختم، فَقيل لَهُ: فِي مثل هَذِه الْحَال يَا أَبَا عَليّ؟! فَقَالَ: "وَمن أَحَق مني بذلك، وَهَا هُوَ ذَا تطوى صحيفَة عَمَلي، ثمَّ كبر وَمَات". وَقيل لَهُ: قل لَا إِلَه إِلَّا الله، فَقَالَ: "مَا نَسِيته فأذكر".

 

وَلما نزل الْمَوْت ببشر الحافي -وَكَانَ على قدر كبير من الْعِبَادَة والزهادة- شقّ عَلَيْهِ، وساءه ذَلِك، فَقيل لَهُ: أَتُحِبُّ الْحَيَاة يَا فلَان؟! فَقَالَ: "يَا قوم! الْقدوم على الله شَدِيد".

 

وَلما حضر أَبَا سُلَيْمَان الدَّارَانِي الْمَوْت، قَالَ لَهُ أَصْحَابه: أبشر فَإنَّك تقدم على رب غَفُور رَحِيم، فَقَالَ لَهُم: "أَلا تَقولُونَ تقدم على رب يحاسبك بالصغير، ويعاقبك بالكبير". فَأَبُو سُلَيْمَان هَذَا غلب عَلَيْهِ الْخَوْف فِي هَذِه الْحَالة فَتكلم عَن حَاله.

 

وَقيل لرويم-عِنْد الْمَوْت- قل لَا إِلَه إِلَّا الله، فَقَالَ: "مَا أُحسِن غَيرهَا"، وَكَانَ رُوَيْم هَذَا من الصَّالِحين، ويروى أَنه كَانَ يَدْعُو الطير فتجيبه.

 

واحتضر بعض الصَّالِحين، فَبَكَتْ امْرَأَته، فَقَالَ: "مَا يبكيك؟!" قَالَت: عَلَيْك أبْكِي، قَالَ: "إِن كنت باكية فابكي على نَفسك، فَأَما أَنا فقد بَكَيْت على هَذَا الْيَوْم مُنْذُ أَرْبَعِينَ سنة".

 

وَلما حضرت أَبَا عَليّ الرُّوذَبَارِي الْوَفَاة، وَكَانَ رَأسه فِي حجر ابْنَته فَاطِمَة، فَفتح عَيْنَيْهِ ثمَّ قَالَ: "هَذِه أَبْوَاب السَّمَاء قد فُتحت، وَهَذِه الْجنان قد زخرفت، وَهَذَا قَائِل يَقُول: يَا أَبَا عَليّ، قد بلغناك الرُّتْبَة القصوى وَإِن لم تردها".

 

ويروى عَن عبد الله بن الْمُبَارك أَنه لما احْتضرَ نظر إِلَى السَّمَاء فَضَحِك، ثمَّ قَالَ: (لِمِثْلِ هَذَا فليعمل الْعَامِلُونَ) [الصافات:61]، وَمثل هَذَا يرْوى عَن بعض أَصْحَاب ابْن فورك -وَكَانَ من الصَّالِحين الْكِبَار الْمُجْتَهدين- أَنه لما نزل بِهِ الْمَوْت شخص ببصره إِلَى السَّمَاء، ثمَّ قَالَ: "يَا ابْن فورك، لمثل هَذَا فليعمل الْعَامِلُونَ". وَفتح ابْن بنان عَيْنَيْهِ عِنْد الْمَوْت فَقَالَ: "ارتع، فَهَذَا مرتع الأحباب، وَخرجت روحه".

 

ويروى أَن ابْن الْمُنْكَدر -رَحمَه الله- عِنْدَمَا نزل بِهِ الْمَوْت بَكَى، فَقيل لَهُ: مَا يبكيك؟! فَقَالَ: "وَالله مَا أبْكِي لذنب أعلم أَنِّي أَتَيْته، وَلَكِنِّي أَخَاف أَن أكون قد أذنبت ذَنبًا حسبته هينًا وَهُوَ عِنْد الله عَظِيم"، وَقد روى عَنهُ كَلَام آخر يدل على علو مَنْزِلَته وارتفاع دَرَجَته.

 

فنسأل الله -سبحانه- أن يحسن لنا الخاتمة، وأن يثبتنا بالقول الثابت في الدنيا والآخرة، وأن يجعل أسعد أيامنا يوم نلقاه.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

عباد الله: فأوصيكم بتقوى الله وطاعته وأحذركم من معصيته ومخالفته. واعلموا أن أماني الصالحين عند الموت تخالف تطلعات العصاة، فلكل وجهة هو موليها، وقد قيل لجَابِر بن زيد -عِنْد مَوته-: مَا تشْتَهي؟! فَقَالَ: "نظرة إِلَى الْحسن"، فجَاء الْحسن فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ قيل لَهُ: هَذَا الْحسن، فَرفع طرفه وَقَالَ: "يَا إخوتاه السَّاعَة أفارقكم إِمَّا إِلَى الْجنَّة وَإِمَّا إِلَى النَّار".

 

وَقيل لذِي النُّون عِنْد مَوته مَا تشْتَهي؟ فَقَالَ: "أشتهي أَن أعرفهُ -تبَارك وَتَعَالَى- قبل موتِي بلحظة". لم يقل هَذَا القَوْل ذُو النُّون الْمصْرِيّ -رَحمَه الله- لجهله بِاللَّه تَعَالَى، لكنه كَانَ يسْتَقلَّ مَعْرفَته، وَصَدَقَ فِي هَذَا، فشأن الله أجل وَأعظم من أَن يُحاط بمعرفته أَو يبلغ كُنْه وَصفه.

 

ويروى أَن الْجُنَيْد بن مُحَمَّد دخل على بعض الْمَشَايِخ، فَوَجَدَهُ فِي سِيَاق الْمَوْت، فَقَالَ لَهُ الْجُنَيْد: "قل لَا إِلَه إِلَّا الله"، فَنظر إِلَيْهِ الشَّيْخ شذرًا، فَأَعَادَ عَلَيْهِ الْجُنَيْد فَلم يقلها، فَأَعَادَ عَلَيْهِ فَلم يتَكَلَّم، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ: "يَا جُنَيْد تذكرني بِالتَّوْحِيدِ وَأَنا مُنْذُ ثَلَاثِينَ سنة أبْكِي عَلَيْهِ وَلَا أسلو عَنهُ". وَقَالَ عَطاء بن يسَار -رَحمَه الله تَعَالَى- تبدى إِبْلِيس -لَعنه الله- لعابد عِنْد الْمَوْت، فَقَالَ لَهُ: نجوت يَا هَذَا. فَقَالَ: "مَا أمنتك".

 

عباد الله: ويروى أَنه مَا من ميت يَمُوت إِلَّا ويكلمه ملكاه اللَّذَان يكتبان عمله فِي الدُّنْيَا؛ فَإِن كَانَ مُطيعًا قَالَا لَهُ: جَزَاك الله من صَاحب خيرًا، فَرب كَلَام حسن قد أسمعتناه، وَرب مجْلِس خير قد أجلستناه، وَرب عمل صَالح قد أحضرتناه، فَنحْن لَك الْيَوْم على مَا تحب، وَإِن كَانَ فَاجِرًا قَالَا لَهُ: جَزَاك الله من صَاحب شرًّا، فَرب كَلَام قَبِيح قد أسمعتناه، وَرب مجْلِس سوء قد أجلستناه، وَرب عمل سوء قد أحضرتناه، فَنحْن لَك الْيَوْم على مَا تكره.

 

أيها الإخوة: ومن الناس من تسوء أحواله ويندم على ما فرط عند نزول الموت، ومن ذلك أنه يروى عَن عبد الْملك بن مَرْوَان أَنه لما حَضَره الْمَوْت نظر -فِي مَوضِع لَهُ مشرف- إِلَى رجل، وَبِيَدِهِ ثوب، وَهُوَ يضْرب بِهِ المغسلة، فَقَالَ: "يَا لَيْتَني كنت مثل هَذَا الرجل! أعيش من كسب يَدي يَوْمًا بِيَوْم، وَلم ألِ من هَذَا الْأَمر شَيْئًا"، وَقَالَ لَهُ رجل: كَيفَ تجدك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: "تجدني كَمَا قَالَ الله - تبَارك وَتَعَالَى -: (وَلَقَد جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أول مرّة وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) [الأنعام:94]"، ويروى أَنه قَالَ عِنْد مَوته أَيْضًا يذم الدُّنْيَا: "إِن طويلك لقصير، وَإِن كبيرك لصغير، وَإِن كُنَّا مِنْك لفي غرور".

 

وَلما حضرت الْوَفَاة أَبَا جَعْفَر الْمَنْصُور -أَمِير الْمُؤمنِينَ- تمثل بِهَذِهِ الأبيات:

 

الْمَرْء يأمل أَن يعي *** ش وَطول عَيْش قد يضرّهُ

تبلى بشاشته ويب *** قى بعد حُلْو الْعَيْش مره

وتحزنه الْأَيَّام حت *** ى لَا يرى شَيْئا يسره

كم شامت بِي أَن هلك *** ت وَقَائِل لله دره

 

ثمَّ قَالَ للربيع: "هَذَا السُّلْطَان لَا سُلْطَان من يَمُوت"، ثمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي ارتكبت الجرائم من الذُّنُوب جرْأَة عَلَيْك، وأطعتك فِي أحب الْأَشْيَاء إِلَيْك: شَهَادَة أن لَا إِلَه إِلَّا الله مَنًّا مِنْك لَا مَنًّا عَلَيْك، اللَّهُمَّ اجْعَل ذَلِك قُربَة لي عنْدك"، ثمَّ مَاتَ من سَاعَته.

 

وَعَن مُحَمَّد بن مَنْصُور الْبَغْدَادِيّ قَالَ: دخلت على عبد الله بن طَاهِر وَهُوَ فِي سَكَرَات الْمَوْت، فَقلت: السَّلَام عَلَيْك أَيهَا الْأَمِير، فَقَالَ: لَا تسمني أَمِيرًا وسمني أَسِيرًا، وَلَكِن أكتب عني بَيْتَيْنِ مَا أراهما إِلَّا آخر بَيْتَيْنِ أقولهما ثمَّ أنشأ يَقُول:

 

بَادر فقد أسمعك الصَّوْت *** إِن لم تبادر فَهُوَ الْفَوْت

من لم تزل نعْمَته قبله *** زَالَ عَن النِّعْمَة بِالْمَوْتِ

 

ويرْوى عَن أبي شُجَاع فناخسرو بن عضد الدولة أَنه لما نزل بِهِ الْمَوْت لم يسمع مِنْهُ إِلَّا قَوْله: (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ) [الحاقة:28-29].

 

وَكَانَ المعتصم يَقُول عِنْد مَوته: "لَو علمت أَن عمري هَكَذَا قصير مَا عملت مَا عملت"، وَجعل يَقُولهَا ويبكي.

 

وَلما حضرت الْمُنْتَصر الْوَفَاة جعل يضطرب، فَقَالُوا: لَا بَأْس عَلَيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَقَالَ: "تَقولُونَ هَكَذَا لَا بَأْس عَلَيْك، ذهبت عني الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وتقولون لَا بَأْس عَلَيْ".

 

وعَن مَالك بن دِينَار أَنه دخل على جَار لَهُ، وَقد نزل بِهِ الْمَوْت، فَقَالَ لَهُ الرجل: يَا مَالك إِنِّي أرى جبلين من نَار وَأَنا أكلف الصعُود عَلَيْهِمَا، قَالَ مَالك: فَسَأَلت امْرَأَته عَن حَاله، فَقَالَت: كَانَ لَهُ مكيالان يَأْخُذ بِأَحَدِهِمَا وَيُعْطِي بِالْآخرِ، قَالَ: فدعوت بهما فَضربت أَحدهمَا بِالْآخرِ فكسرتهما، ثمَّ قلت لَهُ: مَا ترى؟ قَالَ: مَا أرى الْأَمر يزْدَاد إِلَّا شدَّة.

 

وروي أَن رجلاً نزل بِهِ الْمَوْت، وَعند رَأسه صندوق فِيهِ مَال، فَجعل يُشِير إِلَيْهِ وَيَقُول: النَّار فِي الصندوق، النَّار فِي الصندوق. ولعله كسب خبيث محرم والعياذ بالله.

 

أيها الإخوة في الله: إن من أسباب الخاتمة السيئة: استمراء طول الأمل، وهو سبب شقاء كثير من الناس، فيزين الشيطان لهم أن أمامهم أعماراً طويلة، يبنون فيها آمالاً شامخة، وحظوظاً كثيرة، فينسون الآخرة، ولا يتذكرون الموت.

 

وقد أورد العلامة ابن القيم -رحمه الله- أن من عقوبات الذنوب والمعاصي: أن قلب الإنسان ولسانه يخونانه عند الاحتضار والانتقال إلى الله -جل وعلا-، فربما تعذر عليه النطق بالشهادة. وأورد -رحمه الله- نماذج من ذلك، منها: أنه قيل لبعضهم عند الموت: قل: (لا إله إلا الله)، فجعل يهذي بالغناء والعياذ بالله، إلى أن مات. وقيل لآخر: قل: (لا إله إلا الله)، فقال: يا رُبَّ قائلة يوماً وقد تَعِبَتْ أين الطريق إلى حمام منجابِ؟ وأخذ يرددها حتى مات عليها والعياذ بالله.

 

وأورد عن بعض التجار أنه احتُضِر، فجعلوا يلقنونه (لا إله إلا الله)، فلا يزيد على قوله: هذه القطعة رخيصة، هذا مُشْتَرَىً جيدٌ، هذا ، وهذا ، إلى آخره.

 

ثم قال ابن القيم -رحمه الله-: "سبحان الله! كم شاهد الناس من هذا عِبَراً؟! وكيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله -سبحانه- قلبه عن ذكره وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً".

 

فبعيدٌ مَنْ قلبه بعيدٌ عن الله تعالى، غافل عنه، متعبد لهواه، مدلل لشهواته، ولسانه يابس عن ذكره، وجوارحه معطلة من طاعته، مشتغلة بمعصيته، بعيد عن هذا أن يوفق لحسن الخاتمة.

 

وقيل لأحد مدمني الخمر وقد نزل به الموت: هل بقي في جسمك قوة؟ هل تستطيع المشي..؟ فقال: نعم، لو شئت مشيت من هنا إلى بيت الخمار، فقال صاحبه: أعوذ بالله، أفلا قلت أمشي إلى المسجد؟ فبكى، وقال: غلب ذلك عليَّ، لكل امرئ من دهره ما تعودا، وما جرت عادتي بالمشي إلى المسجد.

 

وذكر ابن القيم أن رجلاً من أهل الغناء والمعازف حضرته الوفاة، فلما اشتدّ به نزع روحه، قيل له: قل لا إله إلا الله، فجعل يردد أبياتاً من الغناء، فأعادوا عليه التلقين قل: لا إله إلا الله، فجعل يردد الألحان ويقول: تنتنا.. تنتنا.. حتى خرجت روحه من جسده، وهو إنمّا يلحّن ويغني.

 

فتذكروا -رحمكم الله- حلول ساعة الاحتضار بكم، وحاسبوا أنفسكم، ماذا عملتم فيما مضى؟! وماذا عساكم أن تعملوا فيما بقي؟! وتذكروا: كم ودعتم من إخوة وأحبة وأقربين؟! وكم واريتم في الثرى من أصدقاء وأعزة ومجاورين؟! واعلموا أن الموت الذي تخطاكم إليهم سيتخطى غيركم إليكم، فإلى متى الغفلة يا عباد الله؟! فأكثروا من تذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد له.

 

أسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، وأن يحسن لنا الختام، وألا يتوفانا إلا وهو راضٍ عنا، الله ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيمًا.

 

اللهم اغفر لنا جميع ما سلف منا من الذنوب، واعصمنا فيما بقي من أعمارنا ووفقنا لعمل صالح ترضى به عنا. اللهم يا سامع كل صوت، ويابارئ النفوس بعد الموت، يا من لا تشتبه عليه الأصوات، يا عظيم الشأن، يا واضح البرهان، يا من هو كل يوم في شأن، اغفر لنا ذنوبنا إنك أنت الغفور الرحيم.

 

 

 

 

 

المرفقات
الاحتضار والمحتضرون.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life