الإنسان والعبادة

محمد راتب النابلسي

2022-10-06 - 1444/03/10
عناصر الخطبة
1/خلق الله للإنسان وتسخير الكون له وموقفه من ذلك 2/الغاية من خلق الإنسان ووجوده في الدنيا 3/حرص الإنسان على سلامة وكمال واستمرار وجوده 4/استهلاك عمر الإنسان بمرور الوقت وكيفية استغلاله 5/أهمية الاستقامة على منهج الله وعلامة ذلك 6/مقدار الإنسان عند الله بمقدار عمله الصالح 7/وجوب الدعوة إلى الله وفرضيتها على كل مسلم 8/تحرك الإنسان العاقل وفق منهج الله 9/حقيقة الإنسان عقل يدرك وقلب يحب وجسم يتحرك 10/أقسام علامات معرفة الله
اهداف الخطبة

اقتباس

إذا أردت الدنيا، فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم. والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً. ويظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظنّ أنه قد علم فقد جهل. طالب العلم يؤثر الآخرة على الدنيا فيربحهما معاً، بينما...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً -صلى الله عليه وسلم- رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.

 

أيها الإخوة الأكارم: قيل: "من عرف نفسه عرف ربه".

 

فمن أنت أيها الإنسان؟ هل تعلم أنك المخلوق الأول عند الله؟

 

المخلوق الأول رتبة؛ لأن الله -جلّ جلاله- قال: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ)[الأحزاب: 72].

 

لأن الإنسان قبِل حمل الأمانة كان عند الله المخلوق الأول، لذلك سخر الله له: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ)[الجاثية: 13].

 

تسخير، تعريف وتكريم.

 

موقف الإنسان الكامل من تسخير: "التعريف" أن يؤمن.

 

وموقفه الكامل من تسخير "التكليف" أن يشكر.

 

فإذا آمن وشكر، حقق الهدف من وجوده، لذلك قال تعالى: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ)[النساء: 147].

 

أيها الإخوة الكرام: كلكم يعلم أن معظم الطلاب درسوا في المدارس أن الكون جماد ونبات، وحيوان وإنسان، أليس كذلك؟

 

الجماد شيء مادي يشغل حيزاً من الفراغ، وله وزن، وله أبعادٌ ثلاثة، بينما النبات كائنٌ له وزن ويشغل حيزاً في الفراغ، وله أبعادٌ ثلاثة، لكنه ينمو.

 

يختلف عن الجماد أنه ينمو، بينما الحيوان كائن يشغل حيزاً في الفراغ، وله أبعادٌ ثلاثة، وله وزن وينمو كالنبات، ويمتاز عن النبات أنه يتحرك، النبات لا يتحرك.

 

وأما الإنسان، فكائنٌ يشغل حيزاً في الفراغ، وله أبعادٌ ثلاثة، وله وزن، وينمو، ويتحرك، لكنه يفكر، أودع الله في الإنسان قوةٌ إدراكية تميز بها عن بقية المخلوقات.

 

هذه القوة الإدراكية جعلته فوق المخلوقات جميعاً، لذلك الموقف الكامل من هذه القوة الإدراكية: أن يؤمن، أن يتعرف إلى الله، أن يتعرف إلى حقيقة الكون، أن يتعرف على حقيقة الحياة الدنيا، أن يتعرف على حقيقة وجوده.

 

فإذا تعرف إلى الله حقق الهدف من وجوده، بل أكّد إنسانيته، الله -عز وجل- يقول: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات: 56].

 

علة وجودنا في الدنيا العبادة، لو أن أباً أرسل ابنه إلى باريس لينال الدكتوراه من السوربون، مدينة كبيرة مترامية الأطراف عملاقة، نقول: هذا الطالب الموجود في هذه المدينة علة وجوده في هذه المدينة شيء واحد الدراسة، نيل الدكتوراه.

 

يجب أن نعتقد جميعاً أن علة وجودنا في الدنيا شيء واحد: أن نعبد الله.

 

والعبادة -لا كما يتوهمها معظم الناس-: أن نصلي فقط، وأن نصوم، وأن نحج البيت، وأن نؤدي زكاة أموالنا، وأن ننطق بالشهادة، هذه عبادات شعائرية، لكن البطولة: أن نخضع لمنهج الله -عز وجل- الذي قد يزيد عن خمسمئة ألف بند، يبدأ هذا المنهج من فراش الزوجية، وينتهي بالعلاقات الدولية، هذا المنهج كبير، كيف تأكل، كيف تشرب، كيف تتزوج، كيف تربي أولادك، كيف تتعامل مع الأقوياء، مع الضعفاء.

 

هناك أسئلة لا تنتهي، فأنت الكائن الأول، بل أنت أعقد آلة في الكون، ولهذه الآلة البالغة التعقيد صانع عظيم، هو الله.

 

ولهذا الصانع العظيم تعليمات التشغيل والصيانة.

 

فالجهة الوحيدة التي ينبغي أن تتبع تعليماتها هي الجهة الصانعة؛ لأنها الجهة الخبيرة، قال تعالى: (وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)[فاطر: 14].

 

انطلاقاً من حرصك على سلامتك أحدث إحصاء لسكان الأرض "سبعة مليارات".

 

أؤكد لكم: أن السبعة مليارات إنسان لا يستثنى واحد منهم حريصون على سلامة وجودهم، وحريصون على كمال وجودهم، وحريصون على استمرار وجودهم.

 

سلامة وجودك بالاستقامة، فالاستقامة تحقق السلامة، وكمال وجودك بالعمل الصالح، والعمل الصالح يحقق لك اتصالاً مع الله: (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)[فاطر: 10].

 

واستمرار وجودك بتربية أولادك، فلو جمعت أكبر ثروة في الأرض، وارتقيت إلى أعلى منصب فيها، ولم يكن ابنك كما تتمنى فأنت أشقى الناس.

 

لذلك -الإخوة الكرام الأعزاء- الجالية الإسلامية في هذا البلد المشكلة الأولى تربية أولادهم؛ لأن الإهمال إذا حصل نشأ الابن نشأة تتناقض مع منهج أبيه، ومع عقيدته، ومع طموحه، وما لم يكن ابنك كما تتمنى فأنت أشقى الناس.

 

إذاً، سلامة الوجود بالاستقامة على تعليمات الصانع وهي القرآن والسنة، وكمال الوجود بالعمل الصالح، واستمرار الوجود بتربية الأولاد.

 

لذلك الله -عز وجل- جعل هذا الإنسان له عمرا.

 

وما من تعريف جامع مانع للإنسان كهذا التعريف؛ ذكره الإمام الجليل والتابعي الكبير الإمام الحسن البصري قال: "الإنسان بِضْعَةُ أيام، كلما انقضى يومٌ انقضى بِضْعٌ منه".

 

فأنت زمن، أنت زمن رأس مالك هو الزمن.

 

هذا الزمن إما أن تنفقه انفاقًا استهلاكيًا كشأن معظم سكان الأرض؛ نأكل، ونشرب، ونتمتع، ثم نفاجأ بالموت، أو أن ينفق هذا الزمن الذي هو أنت وهو رأس مالك انفاقاً استثمارياً.

 

بمعنى أن تفعل في الزمن الذي سينقضي عملاً ينفعك بعد انقضاء الزمن، لذلك لأن الإنسان زمن، ولأن رأس ماله هو الزمن أقسم الله له بمطلق الزمن، فقال: (وَالْعَصْرِ)[العصر: 1].

 

قسم إلهي، أقسم الله له بمطلق الزمن؛ لأنه زمن، وجواب القسم: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ)[العصر: 2].

 

خاسر، لماذا يا رب هو خاسر؟

 

العلماء قالوا: لأن مضي الزمن وحده يستهلك الإنسان. سبت، أحد، اثنين، ثلاثاء، أربعاء، خميس، مضى أسبوع، أسبوع ثان، ثالث، رابع مضى شهر، شهر ثان، ثالث، رابع مضى فصل، أربعة فصول مضى عام، عشرة أعوام عقد، حياة الإنسان بضعة عقود، ثم يتفاجأ أنه صار على مشارف الموت!.

 

 

الإنسان لو كان عمره أربعين عاماً لو سألناه: كيف مضت هذه الأعوام؟

 

يقول لك: والله لا أدري، مضت.

 

فإذا مضت الأربعون، والأعم الأغلب أن الذي سيأتي أقل مما مضى، فإذا مضت الأربعون عاماً التي بقيت تمضي كالأربعين، وفجأة الإنسان سيحاسب عن كل كلمة قالها، وعن كل خطوة خطاها، وعن كل ابتسامة، وعن كل عطاء، وعن كل منع، وعن كل صلة: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الحجر: 92-93].

 

(وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)[العصر: 1-3].

 

قد يقول معظم أهل الأرض من المسلمين: نحن مؤمنون!.

 

الجواب: علامة الإيمان: الاستقامة على منهج الله، وأي إيمان لا ينتج عنه استقامة لا شأن له عند الله، الدليل، إبليس اللعين مؤمن، ما الدليل؟

 

قال: (فَبِعِزَّتِكَ)[ص: 82].

 

آمن به رباً، آمن به عزيزاً، وقال: (فأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[ص: 79].

 

(إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ)[الحاقة: 33].

 

هنا الشاهد: ما آمن بالله العظيم، آمن بالله خالقاً، لكن ما آمن به عظيماً، لو آمن به عظيماً لامتنع عن معصيته.

 

فلذلك نصيحة لكل مؤمن: لا تقس إيمانك بمعلومات تعرفها، قس إيمانك باستقامتك، فإذا كنت مستقيماً فأنت مؤمن ورب الكعبة.

 

فلذلك سألت مرة أحدهم: هل بإمكانك أن تضغط لي التجارة كلها بكلمة واحدة؟

 

مئة مليون نوع، ألف مليون مستوى، يمكن أن تضغط التجارة كلها بكلمة واحدة إنها الربح، فإن لم تربح فلست تاجراً، كذلك الدين كله بعقائده، بعباداته، بمعاملاته، بتاريخه، بمؤلفاته، بأسسه، الدين كله يضغط بكلمة واحدة إنها الاستقامة، فإن لم تستقم على أمر الله لن تقطف من الدين شيئاً، دين من دون استقامة اسمه: تراث، يقول لك: عنده خلفية إسلامية، أرضية إسلامية، عنده نشاط إسلامي، عنده منطلقات إسلامية، الإسلام شيء آخر، الإسلام منهج يبدأ من فراش الزوجية وينتهي بالعلاقات الدولية، فإذا خضعت لمنهج الله في كسب مالك، في إنفاق مالك، في طريقة اختيار زواجك، في طريقة تربية أولادك، في حالات الضعف، في حالات القوة، في علاقاتك، إذا اعتمدت منهج الله -عز وجل- في كل حركاتك وسكناتك فأنت مؤمن ورب الكعبة.

 

لذلك: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[العصر: 1-3].

 

الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- يقول: "هذه أركان النجاة"

 

ننجو بإيمان يحملنا على طاعة الله.

 

مقياس الإيمان هو الذي يحملك على طاعة الله، وننجو بالعمل الصالح، فحجمك عند الله بحجم عملك الصالح: (ولِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ)[الأنعام: 132].

 

الإيمان والعمل الصالح: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)[العصر: 3].

 

الآن دققوا: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ)[العصر: 3].

 

هل تصدقون أن الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم؟

 

الصلاة مثلاً فرض على كل مسلم، وكذلك الدعوة إلى الله من خلال سورة العصر فرض على كل مسلم، ولكن الدعوة إلى الله كفرض في حدود ما تعلم ومع من تعرف: "بلغوا عني ولو آية"[البخاري والترمذي عن ابن عمرو].

 

(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي)[يوسف: 108].

 

فالذي لا يدعو إلى الله على بصيرة ليس متبعاً لرسول الله، والدليل: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي)[آل عمران: 31].

 

الدعوة إلى الله فرض في حدود ما تعلم ومع من تعرف.

 

حضرت خطبة تأثرت بها، أبلغها إلى زوجتك، إلى أولادك، إلى جيرانك، إلى شركائك في العمل، انقل الحقائق التي تلقيتها إلى من حولك.

 

هذه الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم، في حدود ما تعلم، ومع من تعرف.

 

أما الدعوة إلى الله التي هي فرض كفاية إذا قام بها البعض سقطت عن الكل، فتحتاج إلى تفرغ، وإلى تعمق، وإلى تبحر، وإلى توسع.

 

وتقتضي هذه الدعوة: أن تجيب عن كل سؤال.

 

هذه الدعوة التي هي فرض كفاية إذا قام بها البعض سقطت عن الكل.

 

إذاً: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ)[العصر: 3].

 

تواصوا بالحق، تعني الدعوة إلى الله: (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[العصر: 3].

 

الصبر على الإيمان بالله، والصبر على العمل الصالح، والصبر على الدعوة إلى الله.

 

فهذه السورة كان أصحاب النبي عليهم -رضوان الله- لا يتفرقون بعد اجتماعهم إلا على تلاوة هذه السورة: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[العصر: 1-3].

 

سيدنا سعد بن أبي وقاص قال: "ثلاثة أنا فيهن رجل" كلمة رجل في الكتاب والسنة، لا تعني أنه ذكر، تعني أنه بطل: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ)[النور: 37].

 

ما هذه الثلاثة؟

 

قال: "ما صليت صلاةً وشغلت نفسي حتى أقضيها، ولا سرت في جنازة فحدثت نفسي بغير ما تقول حتى أنصرف منها والثالثة -هذا الشاهد- وما سمعت حديثاً من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا علمت أنه حق من الله -تعالى-".

 

العاقل من عرف سرّ وجوده، وغاية وجوده، ثم تحرك وفق منهج الله.

 

خالق الأكوان أرسل النبي العدنان، فالكتاب والسنة هما الدين: "إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض"[الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة].

 

لا بد في كل بيت من كتاب حديث، أي كتاب، هذا الكتاب تقرأ به سنة النبي الكريم، قضية الجنة تحتاج إلى جهد، وإلى التزام، وإلى طلب علم، ولأن الله -سبحانه- أودع فيك قوة إدراكية لذلك تلبية هذه القوة الإدراكية على عمل تفعله أن تطلب العلم، لتعرف من أنت؟ ولماذا جاء الله بك إلى الدنيا؟ وما حقيقة الدنيا؟ وما حقيقة الكون؟ وما حقيقة الدار الآخرة؟

 

هذه المعلومات دقيقة، لذلك قالوا: ما كل ذكي بعاقل.

 

إنسان قد يتمتع بذكاء عال، والأول في الجامعة، وعمل دكتوراه بالفيزياء النووية، هذا أخطر موضوع، ولم يؤمن بالله لا يعد عاقلاً، ما كل ذكي بعاقل.

 

من هو العاقل؟

 

الذي عرف سرّ وجوده، وغاية وجوده، وحقيقة الحياة الدنيا، وحقيقة الدار الآخرة، ثم تحرك وفق منهج الله، هذا هو العاقل.

 

والإنسان -كما قلت لكم- حريص على سلامة وجوده، وكمال وجوده، واستمرار وجوده.

 

السلامة بالاستقامة، والكمال بالعمل الصالح، والاستمرار بتربية الأولاد.

 

لكن بعضهم قال: الإنسان عقل يدرك، وقلب يحب، وجسم يتحرك، غذاء العقل العلم، وغذاء القلب الحب، وغذاء الجسم الطعام والشراب.

 

فإذا غذيت عقلك بالعلم، وقلبك بالحب، الذي يسمو بك أن تحب الله مثلاً، وجسمك بالطعام والشراب تفوقت.

 

أما إذا اكتفيت بواحدة فتطرفت، لذلك قال -تعالى- يصف أهل الدنيا: (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)[الفرقان: 44].

 

(كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ)[المدثر: 50-51].

 

(كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ)[المنافقون: 4].

 

وصف كلام الله -عز وجل-.

 

يا أيها الإخوة الكرام: الحديث خطير متعلق بالمصير، متعلق بسعادة أبدية أو بشقاء أبدي، والإنسان -كما قلت قبل قليل- هو المخلوق الأول، والمخلوق المكرم: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)[الإسراء: 70].

 

والإنسان هو المخلوق المكلف بعبادة الله -عز وجل-.

 

والعبادة هي طاعةٌ طوعية ممزوجةٌ بمحبةٍ قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادةٍ أبدية.

 

اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.

 

آيات معرفة الله ثلاثة أنواع: كونية، تكوينية، وقرآنية.

 

أيها الإخوة الكرام: كلكم يعلم أن الله -عز وجل- حينما قال: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ)[الجاثية: 6].

 

الآيات التي هي قنوات سالكة لمعرفة الله أنواع ثلاثة: آيات كونية، وآيات تكوينية، وآيات قرآنية.

 

الآيات الكونية خلقه، والآيات التكوينية أفعاله، والآيات القرآنية كلامه.

 

فإذا أردت أن تعرفه فعليك أن تسلك هذه القنوات: الكون، ثم أفعال الله -عز وجل-، ثم القرآن.

 

لكن قال العلماء: بيننا وبين أقرب نجم ملتهب إلى الأرض أربع سنواتٍ ضوئية.

 

ما معنى سنة ضوئية؟

 

الضوء يقطع في الثانية الواحدة ثلاثمئة ألف كيلو متر في الثانية.

 

فكم يقطع في الدقيقة؟

 

ثلاثمئة ألف ضرب ستين، كم يقطع في الساعة؟

 

ثلاثمئة ألف ضرب ستين ضرب ستين، كم يقطع في اليوم؟

 

ضرب أربع وعشرين، كم يقطع في العام؟

 

ضرب ثلاثمئة وخمسة وستين، كم يقطع في أربع سنوات؟

 

ضرب أربع، أي ابنك الصغير بدقيقتين بآلة حاسبة يحسب لك المسافة بين الأرض وبين أقرب نجم ملتهب، ثلاثمئة ألف ضرب ستين، ضرب ستين، ضرب أربع وعشرين، ضرب ثلاثمئة وخمسة وستين، ضرب أربع.

 

لو كان هناك طريق لهذا النجم، وأردنا أن نصل إليه بمركبة أرضية، قال: نحتاج إلى خمسين مليون عام كي نصل إلى أقرب نجمٍ ملتهبٍ إلى الأرض.

 

نجم القطب أربعة آلاف سنة ضوئية.

 

المرأة المسلسلة مليونا سنة ضوئية.

 

إحدى المجرات بموسوعة لايف تحتاج إلى أربعة وعشرين ألف مليون سنة ضوئية.

 

افتح القرآن اقرأ قوله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ)[الواقعة: 75].

 

"مواقع النجوم" المسافات بين النجوم.

 

(وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)[الواقعة: 76].

 

إذا أردت الدنيا، فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم.

 

والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً.

 

ويظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظنّ أنه قد علم فقد جهل.

 

طالب العلم يؤثر الآخرة على الدنيا فيربحهما معاً، بينما الجاهل يؤثر الدنيا على الآخرة فيخسرهما معاً.

 

الدعاء:

 

اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك.

 

اللهم علمنا بما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، احقن دماء المسلمين في كل مكان، واحقن دماءهم في الشام، يا رب العالمين.

 

والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

المرفقات
الإنسان والعبادة.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life