عناصر الخطبة
1/ الإنسان مدني بطبعه 2/ الأمن ضرورة من ضرورات المجتمع الإنساني 3/ الأمن معنى شامل 4/ الأمن المطلق ثواب وجزاء لأهل الإيمان 5/ الإسلام يربي الأمة على الأمن 6/ زوال الأمن عقوبة إلهيةاهداف الخطبة
اقتباس
إن من أهم المشكلات التي تعاني منها كثير من دول العالم هو "الاختلال الأمني"، وانتشار مظاهر الصراع والجرائم والعنف. وقد توسعت هذه المظاهر في زمن العولمة بسبب التطور التقني والانفتاح العالمي والضعف الأخلاقي، وهذا بالتالي دفع دول العالم إلى رصد الميزانيات الضخمة، وجمع الطاقات الهائلة لمعالجة...
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وأبشروا بثمار التقوى، فربكم يقول: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا).
أيها المسلمون: يقررّ علماء النفس والاجتماع والشريعة أن الإنسان مدني بالطبع، بمعنى أنه يميل بطبعه إلى التعايش مع أفراد جنسه في وحدة مترابطة يعين بعضهم بعضًا، ويخدم بعضهم بعضًا كما قال المتنبي:
الناس للناس من بدو وحاضرة *** بعضٌ لبعض وإن لم يشعروا خدمُ
وعلى هذا الأساس قامت المدن ونشأت الحضارات الإنسانية والمجتمعات البشرية، فالاجتماع الإنساني -كما يقول ابن خلدون- ضروري.
والناظر في الطبيعة الإنسانية يجد أن العدوان طبيعة في الإنسان كما في قوله تعالى: (وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً).
وكما قال المتنبي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد *** ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلم
بالإضافة إلى ما ينشئه الاجتماع من دوافع التنافس والحسد والصراع، فكل ذلك يستدعي السعي الحثيث لطلب الأمن والبحث عن سبله المختلفة، كما يقتضي ذلك وجود سلطة قوية تكون وظيفتها الأولى هي أن تمنع الناس من التظالم والعدوان، وتدفعهم للتعايش واحترام الحقوق، وإلا صار الناس أشبه بقطعان من الحيوانات الغلبة فيها للقوي، ولا مكان للضعيف إلا برحمة أولئك المتغلبين.
فمن ذلك كله يتضح لنا أن الأمن ضرورة من ضرورات المجتمع الإنساني، ولا يمكن أن تتحقق مصالح الناس دون وجود الأمن، كما يدل عليه الواقع المحسوس المشاهد في أقطار كثيرة في العالم.
إن من أهم المشكلات التي تعاني منها كثير من دول العالم هو "الاختلال الأمني"، وانتشار مظاهر الصراع والجرائم والعنف.
وقد توسعت هذه المظاهر في زمن العولمة بسبب التطور التقني والانفتاح العالمي والضعف الأخلاقي، وهذا بالتالي دفع دول العالم إلى رصد الميزانيات الضخمة، وجمع الطاقات الهائلة لمعالجة ظاهرة "الاختلال الأمني"، بل إن كثيرًا من الدول شعرت بالحاجة الماسّة إلى أسلوب التعاون الأمني، وعقد الاتفاقيات لمواجهة التحديات الأمنية المعاصرة.
والأمن والخوف نقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، بمعنى أن الإنسان لا تخلو حياته منهما، فهو إما في أمن أو خوف.
ولهذا قوبل الأمن بالخوف في كتاب الله تعالى كما في قوله: (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)، وقوله: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)، وقوله: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ).
والأمن معنى شامل لا ينحصر في مجرد الفهم التقليدي الذي يحصر الأمن في القبض على المجرمين وإنزال العقوبات بهم، ولكنه ينتظم كثيرًا من جوانب الحياة الإنسانية، فهناك الأمن الفكري والأمن النفسي والأمن الاجتماعي والأمن الاقتصادي.
والأمن لا ينحصر أيضًا في شعور الإنسان بالطمأنينة على حقوقه الجسدية والمادية كالمال والأهل، ولكنه يشمل شعوره بالطمأنينة على حقوقه المعنوية والفكرية المتمثلة في ضمان حريته الدينية والفكرية والثقافية والاجتماعية، فالأمن -وإن كان في جوهره حالة نفسية تتمثل في إحساس الإنسان بالطمأنينة- ولكن الجوانب المرتبطة بهذا الوضع النفسي متعددة.
والمتأمل للوضع الأمني في العالم يجد أن كثيرًا من الدول الشرقية تركز على الأمن الداخلي بخلاف كثير من الدول الغربية التي تركز على الأمن الخارجي أكثر.
وهذا الوضع طبيعي منطقيًا؛ لأن كثيرًا من هذه الدول الشرقية لا تزال تعاني من تهديدات داخلية، نتيجة لضعف الوعي الأمني، أو لضعف سيادة القانون، أو للفشل السياسي الذي يدفع بعض الحكومات لاستخدام أسلوب القمع والتخويف؛ لهذا تكثر فيها الانقلابات والثورات والانقسامات في أجنحة السلطة في كثير من الأحيان، بينما كثير من الدول الغربية رسّخت في مجتمعاتها الوعي الأمني وسيادة القانون واحترام الأنظمة وحقوق الإنسان ورفض الاستبداد، فهي غير قلقة كثيرًا بسبب التحديات الداخلية.
والدول التي تفشل في تحقيق الأمني الداخلي ستفتح الأبواب وتشجع الأعداء للتلاعب بأمنها الخارجي، والأمن الداخلي آكد وأهم من الأمن الخارجي: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً).
والحاصل هي أن كلّ ما يزرع الأمن والطمأنينة في نفوس الناس فهو داخل في مفهوم الأمن، وكل ما يُدخل الخوف في نفوس الناس فهو داخل في نواقض الأمن ومنغصاته كالبطالة والانهيار الاقتصادي والحروب والكوارث الطبيعية وتفكك الأسر ونشر الثقافات الضارة.
الخطبة الثانية:
وقد ذكرنا في مناسبة سابقة أن الأمن الحقيقي في الإيمان الحق والعمل الصالح الناتج عنه، وأن بالإيمان نأمن جميعًا ونسعد، وهل أنزلت الأديان إلا لتربي الناس على الفضائل وتذهب عن النفوس ما جبلت عليه من الظلم والأثرة والمطامع وآثام الباطن والظاهر؟! واستمع إلى القرآن وهو يقرر كيف تكون الحياة الطيبة والأمن أكبر ركيزة منه، قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
بل إن القرآن جعل الأمن المطلق ثوابًا وجزاءً لأهل الإيمان، فقال سبحانه: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)، وهذا يشمل الأمن في الدنيا والآخرة.
وقال في أمن الدنيا: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً).
والمؤمن لا ينشد الأمن الدنيوي فقط، ولكنه ينشد مع ذلك الأمن في الآخرة أيضًا، بل إن أهل الجنة يُستقبلون بشعار الأمن والسلام فيقال لهم: (ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ)، فجعل الأمن جزءًا من نعيم الجنة.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- جعل من سمات المؤمن وعلاماته سلامة الناس منه؛ حيث يقول: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم".
وهكذا الإسلام يربي الأمة على الأمن عن طريق العمل والممارسة كما في الأشهر الحرم التي يحرم فيها ابتداء القتال، كما في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ)، وقوله: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ).
ومن خلال منع المحرم من إيذاء الناس والطير والدواب والنبات وتحريم الصيد: (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)، ومن خلال تقرير أحكام الحرم: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً)، وقوله: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً).
وجعل شعار المؤمنين بينهم هو السلام، وأمرهم بإفشاء السلام فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أفشوا السلام بينكم"، ونهى المسلم عن ترويع أخيه المسلم بأي وسيلة من الوسائل، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "من حمل علينا السلاح فليس منا"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحلّ لمسلم أن يروّع مسلمًا"، أي ولو كان ذلك على سبيل الهزل.
وقال في أمن الآخرة: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ)، وهل يصدر من أهل الإحسان إلا كل حسن وجميل؟! وهل يتصور أن يخاف الإنسان من المحسن؟! ومن كان الإحسان منه دينًا وطبعًا وخلقًا هل يتوقع منه الخوف؟!
إن الذي يتربّى على الإيمان الحق وعلى روح الدين القويم وأخلاقه العظيمة هو الشخص الذي ينشده المجتمع ليثبت له أركان الأمن والطمأنينة والعدل، وهو النموذج الرائع للسلوك الحسن والجميل لمجتمع فاضل أراد له الله أن يكون المجتمع المثالي ليكون قدوة للبشرية، لترى ماذا يصنع الإيمان بالحياة إن دبت روحه فيها.
ولا زلت أتذكر ذلك الولد الذي تربّى في أحضان آباء وأمهات مدارس الإيمان وقد كان يبيع أشياءً بسيطة يفترش الأرض بها، فمرّ عليه بعض السياح واشتروا منه شيئًا، فلما انصرفوا سقطت محفظة أحدهم لم يشعر بها وفيا مئات الدولارات، فما كان من الصبي إلا أن جرى خلفهم يناديهم ليعطيهم نقودهم، فانبهروا بهذه الأمانة وهذا الخلق، كان بإمكانه أخذها لينتقل بها إلى عمل أكبر وتتغير حياته بها كليًا، ولكنها أخلاق أهل الإيمان تعلو لتشد عقول وأفئدة أولئك الذين لا يعرفون في حياتهم إلا المادة فقط، ولتريهم كيف تكون أخلاق أهل الإسلام وإن كانوا بمثل هذا العمر؟!
ولا زلت أتذكر خبر الآباء في هذه البلاد الطيبة وهم يحكون أن أحدهم كان يضع ثوبه على أغراضه ومبيعاته ليذهب للصلاة، فيعود ليجد كل شي في مكانه! إنه الإيمان حين يجد طريقه إلى القلوب.
أيها المسلمون: إن الله تعالى جعل الخوف وزوال الأمن عقوبة إلهية للمجتمعات الفاسدة كما قال: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ).
وجعل الكفر والفسوق والظلم والاستطالة والبغي سببًا لزوال الأمن ونزول العقوبة: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
وقال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأجارني وإياكم من عذابه الأليم.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
التعليقات