عناصر الخطبة
1/ نموذجان من أمانة المصطفى صلى الله عليه وسلم 2/ جلالة وعِظَم خلق الأمانة وثمراتها 3/ ألوان من الأمانات 4/ الأمانة خلق المؤمنين وخيانتها خلق المنافقين 5/ أمطار تبوك تجرف الغطاء الساتر لتهاون المسؤولين ووجوب معاقبتهماهداف الخطبة
1/ التذكير بعظم خُلُق الأمانة وثمراته 2/ المطالبة بمعاقبة المتسببين في كارثة تبوك وغيرها من خائني الأمانة.اقتباس
عندما يلتزم الناس بالأمانة يتحقق لهم الخير، ويعمهم الحب. وفي الآخرة يفوز الأمناء برضا ربهم، وبجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين؛ فالأمانة تورث الذكر الجميل بين الناس، والناس يحبون المسلم الأمين، ويثقون به، ويطمئنون إليه ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإيمان والعقيدة: فتح النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة، ودخل المسجد الحرام فطاف حول الكعبة، وبعد أن انتهى من طوافه دعا عثمان بن طلحة حامل مفتاح الكعبة، فأخذ منه المفتاح، وفتح الكعبة، فدخلها النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ثم قام على باب الكعبة فقال: "لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده".
ثم جلس في المسجد، فقام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وقال: يا رسول الله، اجعل لنا الحجابة مع السقاية. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أين عثمان بن طلحة؟"، فجاءوا به، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم برٍّ ووفاء". ونزل في هذا قول الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) [النساء:58].
هكذا رفض النبي -صلى الله عليه وسلم- إعطاء المفتاح لعليّ ليقوم بخدمة الحجيج وسقايتهم، وأعطاه عثمان بن طلحة؛ امتثالا لأمر الله بردِّ الأمانات إلى أهلها.
لقد اتصف نبينا -صلى الله عليه وسلم- بالأمانة، حتى إنه كان يلقب قبل البعثة بالصادق الأمين.
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- موضع ثقة عند أهل مكة جميعًا، فكان كل من يملك شيئًا يخاف عليه من الضياع يودعه أمانة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان النبي يحافظ على هذه الأمانة ويردها إلى صاحبها كاملة غير منقوصة حين يطلبها.
وعندما اشتد أذى المشركين له أُذِن له بالهجرة من "مكة" إلى "المدينة"، وكان عند النبي أمانات كثيرة لهؤلاء الكفار الذين كانوا يدبرون له مؤامرة لقتله، فلم يهاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا بعد أن كلف ابن عمه عليَّ بن أبى طالب -رضي الله عنه- بردّ كل تلك الأمانات إلى أهلها، فقام علي -رضي الله عنه- بتلك المهمة على خير وجه.
فعلينا أن نتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- قدوة لنا في كل أمورنا.
عباد الله: الأمانة خُلق جليل من أخلاق الإسلام، وأساس من أسسه؛ فهي فريضة عظيمة حملها الإنسانُ بينما رفضت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها؛ لعظمها وثقلها! (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب:72].
الأمانة خلق جميل من أعظم الصفات التي يتصف بها الصالحون، فلقد أثنى الله على عباده المؤمنين بحفظهم للأمانة، فقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) [المؤمنون:8، المعارج:32]، ثم بيَّن الله جزاءهم فقال: (أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون:10-11].
فالأمانة من مكارم الأخلاق، وقد أَمرنا الله بها: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) [النساء:58]، وجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأمانة دليلاً على إيمان المرء وحسن خلقه، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له".
الأمانة -عباد الله- من أغلى ما يرزقه اللهُ العبدَ، ولا يحزن بعده على أي عرض من الدنيا، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وحسن الخلق، وعفة المطعم".
عباد الله: عندما يلتزم الناس بالأمانة يتحقق لهم الخير، ويعمهم الحب. وفي الآخرة يفوز الأمناء برضا ربهم، وبجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
فالأمانة تورث الذكر الجميل بين الناس، والناس يحبون المسلم الأمين، ويثقون به، ويطمئنون إليه، ويتعاملون معه، ويحترمونه.
المسلم لا يغشُّ أحدًا، ولا يغدر بأحد ولا يخونه، وقد مرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على رجل يبيع طعامًا فأدخل يده في كومة الطعام، فوجده مبلولاً، فقال له: "ما هذا يا صاحب الطعام؟"، فقال الرجل: أصابته السماء (المطر) يا رسول الله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أفلا جعلتَه فوق الطعام حتى يراه الناس؟ من غَشَّ فليس مني".
عباد الله: العبادات التي كلفنا بها الله أمانة، الوقت الذي هو عمرنا أمانة، جوارحنا وأعضاؤنا كلها أمانات، يجب أن نحافظ عليها، ولا نستعملها فيما يغضب الله.
وعلى المسلم أن يلتزم بالكلمة الجادة، فيعرف قدر الكلمة وأهميتها؛ لأنها أمانة.
ومن الأمانة حفظ الأسرار؛ فالمسلم يحفظ سر أخيه ولا يخونه ولا يفشي أسراره، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا حدَّث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة".
وفي العَلاقات الزوجية حرَّم الإسلام إشاعة ما يَحْدُث بين الزوجين من عَلاقة خاصَّة، فلا يُطْلَع على ذلك أحدٌ أيًّا كان، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الأَمَانَةِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا".
عباد الله: إن الأمانة فضيلة ضخمة لا يستطيع حملها الرجال الضعفاء، بل إنها تُثقِل كاهل الوجود كله، ومن ثَمّ فلا ينبغي لإنسان أن يستهين بها، أو يُفْرِّط في حقِّها: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ) [الأحزاب: 72].
فهنيئًا لمن تخلق واتصف بالأمانة، وجاهد نفسه عليها لينال عظيم الأجر من الله -تبارك وتعالى-.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
معاشر المؤمنين: المسؤولية أمانة؛ فكل إنسان مسؤول عن شيء يعتبر أمانة في عنقه، سواء أكان حاكمًا أم والدًا أم ابنًا، وسواء أكان رجلا أم امرأة فهو راعٍ ومسؤول عن رعيته، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ألا كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته؛ فالأمير الذي على الناس راعٍ وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها -زوجها- وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
كل إنسان لا يؤدي ما يجب عليه من أمانة فهو خائن، والله -تعالى- يقول: (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) [الأنفال:58]، وقال: (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) [الحج:38]، وقال: (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) [النساء:107]، وقال: (وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) [يوسف:52]. فالخائن شخص منبوذ مكروه، يبغضه الله -عز وجل-، ويبغضه الخلق.
عباد الله: قد نهانا الله -عز وجل- عن الخيانة، فقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال:27].
وأمرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- بأداء الأمانة مع جميع الناس، وألا نخون من خاننا، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تَخُنْ من خانك"؛ لأن الخيانة علامة من علامات النفاق، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤْتُمِنَ خان"، فلا يضيِّع الأمانة ولا يخون إلا منافق.
عباد الله: لقد آلمنا وآلم كل مواطن غيور على وطنه ما حصل في مدينة "تبوك" من كارثة الأمطار الأخيرة، وما تم تداوله من مقاطع الفيديو والصور، وبكاء ودموع المواطنين التي انتشرت في الأيام الماضية.
إن ما حصل تحديداً في المناطق الجنوبية من "تبوك" من دمار للبشر والحجر ليثير الكثير من المشاعر الحزينة، ويذكرنا بمآسي سيول "جدة" قبل أعوام عدة، التي لا تزال ماثلة أمامنا، كما أنها حركت العديد من التساؤلات والاستفهامات: من هو الذي يتحمل المسؤولية؟ ومن هو خائن الأمانة؟ ومن المسؤول الذي لم يرتقِ لمستوى المسؤولية التي كلفه بها ولاة الأمر؟.
إن لم يكن هدر المال العام، وتبذير الميزانيات الضخمة على مشاريع هشة لم تصمد أمام الأمطار، لا يعدَّان جريمة في حق الوطن، فما هي الجريمة؟!
وإذا أصبحت الأمطار التي كانت تسعد الإنسان تبكيه، وتجعله يتسول البطانيات والأغذية في بلد العطاء والخير، ولا يكون ذلك جريمة؛ فما هي الجريمة؟! وإن كان ضياع الأنفس والممتلكات بسبب الكوارث الطبيعية، لا يعد جريمة؛ فما هي الجريمة إذن؟!
الصورة أصبحت تتكرر في مدننا ومحافظاتنا، والعامل المشترك بينها واحد، هو: تقصير المسؤول نحو مجتمعه ووطنه، ومدى التهاون من أكبر مسؤول في المنطقة حتى أصغرها.
إن هذه الكارثة الإنسانية التي أصابت منطقة "تبوك" لا يمكن تجاوزها، ولا يمكن التغاضي عنها، ولا يمكن تبريرها ببيانات إعلامية غير صادقة، تفتقد المنطق والواقعية؛ لا بد من المصارحة والشفافية، ومحاسبة المسؤولين بكل جرأة؛ فلو كان هناك اهتمام ومتابعة ومحاسبة لكل صغيرة وكبيرة لما حدثت هذه الكارثة.
فمما يؤسف حقاً خبر نشرته جريدة عكاظ قبل ستة أشهر، كُتب بخط عريض: "تغطية أحياء "تبوك" بشبكات المياه والصرف الصحي إنجاز غير مسبوق"؛ فأين الإنجاز غير المسبوق الذي لم يصمد أكثر من اثنتين وسبعين ساعة أمام الأمطار؟! تمزقت الطرق والجسور الحديثة التي كلفت المليارات. إن هذا من المتناقضات التي لا يمكن تحملها أو تبريرها للمواطنين؛ فالوعي في تزايد.
لقد انكشفت البنية التحتية في "تبوك" على حقيقتها، والطرق انهارت، و"عبارات" تصريف السيول تحطمت، والمواطنون في الإيواء وإغاثة الشقق المفروشة! والكوارث ستستمر باستمرار الفساد والفاسدين ما لم يعاقَب المسؤول علناً وبكل جرأة، كائناً من كان.
عباد الله: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر:1]، قال حذيفة -رضي الله عنه-: "أما إن القمر قد انشق، أما إن الساعة قد اقتربت".
جاء رجل يسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: متى الساعة؟ قال: "فَإِذَا ضُيِّعَت الأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ". قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: "إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِر السَّاعَةَ".
عباد الله: بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن خائن الأمانة سوف يعذب بسببها في النار، وسوف يأتي خائن الأمانة يوم القيامة مذلولاً عليه الخزي والندامة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة".
فيا لها من فضيحة وسط الخلائق! تجعل المسلم يحرص دائمًا على الأمانة، فلا يغدر بأحد، ولا يخون أحدًا، ولا يغش أحدًا، ولا يفرط في حق الله عليه.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد.
التعليقات