عناصر الخطبة
1/الأسرة رابطة فطرية 2/أهمية الأسرة في بناء المجتمعات 3/خطورة الدعوات لتفكيك الروابط الأسرية 4/تشريع الإسلام قواعد وأحكام الأسرة 5/ محكمات وثوابت نظام الأسرة في الإسلام 6/نداء إلى الأبناء والبنات.اقتباس
أمر الأسرة في الإسلام عظيم، لقد اهتم الإسلام بشأن الأسرة بدءًا من اختيار الزوجة حتى وفاة الزوجين، واهتم الإسلام بأمر الأسرة حتى في حال وقوع الطلاق والشقاق، ورتب أحوال الأبناء ونظّم شأن الحضانة والرضاعة، لقد أرسى الإسلام قواعد وأحكام لأجل الحفاظ على الأسرة...
الخطبة الأولى:
أما بعد: فقد خلق الله آدم وحيدًا، ثم خلق منه حواء، فمع وجود الإنسان وُجِدَت الأسرة؛ تلك الرابطة العميقة التي هي ليست قانونًا ولا نظامًا صارمًا تضعه الدول، الإنسان حينما خلقه الله لم يوجد معه دولة، أو يوجد معه حزب أو يوجد معه قبيلة، بل أوجد معه أسرة؛ لأن كل تلك الروابط، هي روابط مِن وَضْع البشر، أما رابطة الأسرة فرابطة فطرية معجونة بخلق الإنسان لا يمكن الانفكاك عنها.
حتى الغرب اليوم الذي ينادي بالحريات ويفكك أكثر الروابط، لم يستطع أن ينفك عن رابطة الأسرة، وإذا قلنا: إن الإنسان مدنيّ بالطبع، فهذا يعني أنه جُبِلَ على الأسرة.
لو ذهبت إلى الصين في مشارق الأرض تجد الأسرة، لو ذهبت إلى أدغال إفريقيا وغابات الهند وضفاف الأمازون تجد الأسرة، على أنه من المعلوم؛ أن الأسر تختلف في مكونتها وأسسها وهويتها من حضارة إلى حضارة ومن عِرْق إلى عرق، لكنَّ الإيمان بالأسرة أمر فطري قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)[الحجرات:13]؛ فجعل الله مادة خلق الإنسان من الذكر والأنثى اللذين هما قوام الأسرة.
أقول هذه المقدمة، التي هي بدهية من البدهيات، في زمن يسعى السفهاء لتفكيك هذه البدهيات والانقلاب عليها.
للأسف يدفع المجتمع اليوم إلى تفكيك هذه الروابط عبر وسائل الإعلام المختلفة، تحت شعارات وهمية وشعارات برّاقة، كالحرية وإسقاط الولاية والمناداة بالمساوة، بل حتى -والعياذ بالله- تزيين المثلية والشذوذ.
لماذا شوَّه في المجتمع صورة الأسرة وكأنها السجن الأبدي، ولماذا يصوّر الأب -السند والعزوة- بأنه الجلاد، ولماذا تصور الأم بأنها النفعية وغير المسؤولة؟!
من المستفيد من تحطيم نظام الأسرة؟ من المستفيد الأول بأن ينتشر التفكك الأسري في المجتمع؟! ألا يعي أولئك أن الأسرة هي أساس انتظام المجتمع، ألا يعي هؤلاء أن كل الكيانات هي بالأساس قائمة على كيان الأسرة.
عباد الله: أمر الأسرة في الإسلام عظيم، لقد اهتم الإسلام بشأن الأسرة بدءًا من اختيار الزوجة حتى وفاة الزوجين، واهتم الإسلام بأمر الأسرة حتى في حال وقوع الطلاق والشقاق، ورتب أحوال الأبناء ونظّم شأن الحضانة والرضاعة، لقد أرسى الإسلام قواعد وأحكام لأجل الحفاظ على الأسرة، وإلا فما معنى القوامة والولاية والنفقة والحضانة والنكاح والتعدد والسكنى والعشرة، ما معنى وجود مئات المسائل التي دونها الفقه الإسلامي مستندًا على آيات القرآن ونصوص السنة، إلا حفاظا على هذا الكيان.
عباد الله: الأسرة نظام حتمي في الإسلام، وكذلك في جميع الشرائع؛ إلا أن نظام الأسرة في الإسلام له محكمات وثوابت يقوم على أساسها، وسأسرد هذه المحكمات التي يجب أن نعمقها في أسرنا وأن نستذكرها دائمًا:
أولاً: أساس الأسرة في الإسلام العبودية لله -عز وجل-، فالذي يجمع بين أفراد الأسرة في الإسلام ليس الرابطة الفطرية فقط، هذه موجود في كل أسر العالم، حتى وضعوا عيدًا للأم وعيدًا للأب، بل يجمع أفراد الأسرة هو التعبُّد لله، لقد قصَّ الله لنا في القرآن قصص أُسَرٍ كثيرة؛ كأسرة إبراهيم وأسرة يعقوب وأسرة موسى وأسرة نوح، وأسرة لوط قال الله عن إبراهيم (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[البقرة:130-132].
وكذلك يعقوب (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة:133].
ولما عصى ابن نوح أباه وخرج عن مقتضى العبودية، وسأل نوح ربه في أمر ابنه ماذا قال: (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ)[هود:46]، خرج من مقتضى العبودية، فأخرجه الله من مسمى الأهلية.
ولما شذت امرأة لوط قال -تعالى-: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ)[النمل:57]؛ فالأسرة في الإسلام تجمعها رابطة العقيدة والتوحيد؛ فصلاح الأسرة بصلاح عقيدتها وحُسْن إسلامها، ومتى خرج أحد أفراد هذه الأسرة عن هذا النظام فهو كما قال -تعالى-: (عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ)[هود:46].
ثانيًا: من أعظم محكمات هذه الأسرة أن نظام الأسرة في الإسلام قائم على حدود وأحكام؛ ولقد جاء الأمر باحترام حدود الله والنهي عن تعديها في أكثر من موضع، قال -تعالى-: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)[الطلاق:1]، (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[البقرة:229]، (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)[البقرة:230].
فإذا أردت لأسرتك النجاة والبعد عن الظلم والطغيان؛ فالزم حدود الله؛ فللزوج حدود في النكاح في الطلاق، في النفقة في المعاشرة، في العدل عند التعدد. في الحضانة عند الشقاق والفراق، في المهر وغيره.
وعلى الزوجة حدود، من طاعة الزوج وعدم عصيانه في غير معصية الله، وتحريم النشوز، وعلى الأبناء حدود أعظمها بر والديهم، وطاعتهم في غير معصية الله.
ثالثًا: المحكم الثالث الأخلاق، فنظام الأسرة ليس عقدًا في شركة، وليس قانونًا له مواد وعليه عقوبات فقط، بل هو نظام أخلاقي أساسه المودة والرحمة (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الروم:21].
وقال -تعالى- في حق الزوجين: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)[النساء:19]، وقال -تعالى-: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)[البقرة:237]، وقال -تعالى- في حق الأبناء مع والديهم: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[الأحقاف:15]، وقال -تعالى-: (رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسراء:24].
فالعلاقة بين الزوجين علاقة مودة ورحمة، والعلاقة بين الأبناء والآباء والأمهات علاقة بر، وعلاقة الإخوة علاقة مغفرة وتسامح، ألا ترى كيف ضرب الله بيوسف مثلاً مع إخوته حتى كان آية للسائلين، كيف رفعه الله بعفوه وتسامحه معهم.
إذًا وجود الحقوق والواجبات والمسؤوليات قرين بالأخلاق، ما الفائدة أن يلتزم الزوج بنفقته وحقوقه ثم هو يسيء الكلمة ويغلظ ويبخل ويفجر في أهل بيته؟!، كيف يقيم الأبناء برهم بوالديهم من غير أخلاق؟!، كيف تحسن الزوجة عشرتها بغير أخلاق؟!
بارك الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
أما بعد: من المحكمات الإسلامية في نظام الأسرة أنها قائمة على المسؤولية؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" وهذه المسؤولية يُقصد بها أمران؛ المسؤولية عن المعاش، والمسؤولية عن المعاد.
فالوالدان لديهم المسؤولية الكاملة عن معاش الأبناء الذكور حتى سن البلوغ والإناث تكريمًا لهن ورعاية وصيانة لهن حتى الزواج، ولو اغتنت بوظيفة أو غير ذلك. وللأسف يوجد آباء تخلوا تمامًا عن مسؤولياتهم الأخروية؛ الأب تحت مسمى البحث عن الرزق وللأسف بعض الأمهات بحثًا عن الموضة والجمال.
وأعظم مسؤولية هي المسؤولية عن الدين، جاء في هذا الباب حديث عظيم: "ما عبدٍ يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشّ لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة"، وهذا يشمل الغش بالتقصير في كلا الأمرين، وأساس هذه المسؤولية -يا عباد الله- الرفق فـ"ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نُزع عن شيء إلا شانه".
يا عباد الله: نداء إلى الأبناء والبنات وخاصة البنات: لا تغرنكم تلك الأقاويل الخداعة، ولا المصطلحات الفضفاضة، فلا نعيم يعدل حضن الأم، ولا مال يساوى قطرة عرق أب، ولا عضد يشدك كعضد أخيك، الأسرة الصالحة هي الطمأنينة، وهي الرأفة والتحنان، هي معادلة مركبة من الأمان والمودة والرحمة، الأسرة والوالدين هما كل شيء وبدنهما فالحياة لا شيء.
أخيرًا يا عباد الله: هناك بعض القضايا تعتبر من قبيل المتغيرات لا ينبغي أن نقيم الأسرة عليها، هي قابلة للأخذ والرد هي فرع عن المصلحة والمفسدة، كالترفيه وعمل المرأة في غير حاجة وضرورة، ومقدار النفقة، ونوع المأكول والمشروب والملبوس في غير ما حرم الله، أو كل ما لم يرد فيه نص أو إجماع بحكمه هي أمور خاضعة للتغير قابلة للنقاش يحددها الأصلح، فما يصلح لأسرة قد لا يصلح لأسرة أخرى مع الانتباه أن هذه المتغيرات يجري عليها مراعاة الأعراف والتقاليد التي لا تخالف الإسلام.
وصلوا وسلموا....
التعليقات