عناصر الخطبة
1/ محدودية مراحل عمر البشر 2/ الله هو الرزاق ذو القوة المتين 3/ انشغال عقول الناس بطلب الرزق 4/ الأسباب الجالبة للرزقاهداف الخطبة
اقتباس
إن همَّ الرزق قد أكل قلوبًا، وأشغل عقولاً. في بعض الناس هلعٌ وجزعٌ حينما يسمع بالتغيُّرات الاقتصادية، والتقلُّبات المالية، والمُشكلات في أمور المعاش، وكأنهم لا يعلمون أن الله -عزَّ شأنه- قد تكفَّل بالرزق لجميع خلقِه إنسِهم وجنِّهم، مؤمنِهم وكافِرهم، قويِّهم وضعيفِهم، كبيرِهم وصغيرِهم: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [هود: 6]، (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [العنكبوت: 60].
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله عنَت الوجوه لجلال وجهه، لا إله إلا هو عجَزت العقول عن إدراك كُنهِه، وقامَت البراهين على نفيِ مثلِه وشِبهِه، أحمده -سبحانه- وأشكرُه، الفضلُ والخيرُ بيديه، والعملُ والرغباءُ إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له صرَّف شؤون الخلق بحكمته، وعمَّهم بجُوده ورحمته، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه بعثَه بالإيمان مُنادِيًا، وإلى جنة الله ورِضوانه داعيًا، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، لا خيرَ إلا دلَّ عليه، ولا شرَّ إلا حذَّر منه، وعلى آله وأصحابِه أفضل صحبٍ وخيرِ آل صلاةً وسلامًا يُبلِّغان من ربِّنا الآمال، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا إلى يوم المآل.
أما بعد:
فأُوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله-، واعلموا أن لكم علمًا فانتهوا إلى علمِكم، ولكم نهايةً فانتهوا إلى نهايتكم.
أيام العُمر مراحل معدودة، إلى وجهة مقصودة، للنفوس مواعيد تطلبُ آجالَها، وأعمارٌ مُقدَّرةٌ لآمالها، وآجالٌ مُؤخَّرةٌ لميعادها، فلا استِزادةَ ولا استِنقاص، ولا فواتَ ولا مناصَ، إنما هي آمادٌ مضروبة، وأنفاسٌ محسوبة، لله وحده البقاء، وللخلائق الفناء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر: 18، 19].
أيها المسلمون: اعملوا؛ فكلٌّ مُيسَّرٌ لما خُلق له، أرأيتم لو أن أرزاقَ الناس بأيدي البشر؛ فكم سيقع من الظلم والتظالُم، والبغي والفساد. تالله لو تُرك ذلك إليهم لظلَمَ بعضُهم بعضًا، ولبغَى بعضُهم على بعضٍ؛ بل لنسِيَ بعضُهم بعضًا، ولغفَلَ بعضُهم عن بعض!
فسبحان الرزاق الكريم ذي القوة المتين، لا يظلمُ ولا يبغي، ولا ينسَى ولا يغفَل؛ بل يتفضَّل ويُنعِم، ويُحسِن ويرحم، وهو اللطيف الخبير: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات: 21- 23].
معاشر المسلمين: إن همَّ الرزق قد أكل قلوبًا، وأشغل عقولاً. في بعض الناس هلعٌ وجزعٌ حينما يسمع بالتغيُّرات الاقتصادية، والتقلُّبات المالية، والمُشكلات في أمور المعاش، وكأنهم لا يعلمون أن الله -عزَّ شأنه- قد تكفَّل بالرزق لجميع خلقِه إنسِهم وجنِّهم، مؤمنِهم وكافِرهم، قويِّهم وضعيفِهم، كبيرِهم وصغيرِهم: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [هود: 6]، (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [العنكبوت: 60].
عباد الله: لا يستبطِئنَّ أحدٌ رزقَه، فلن يخرج من هذه الدنيا أحدٌ حتى يستكمِل رزقَه وأجلَه، فاتقوا الله وأجمِلوا في الطلب.
لقد كتب الله رزقَ ابن آدم وقدَّره قبل أن يأتي إلى هذه الدنيا؛ عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: حدَّثنا رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم وهو الصادق المصدوق-: "إن أحدكم يُجمع خلقُه في بطن أمِّه أربعين يومًا نُطفة، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مُضغةً مثل ذلك، ثم يُرسل إليه الملَك فينفخُ فيه الروح، ويُؤمر بأربع كلمات: بكَتب رزقه، وأجله، وشقيٍّ وسعيد...". الحديث. متفق عليه.
معاشر المسلمين، ومعاشر الأحبَّة: وهذا عرضٌ في بعض الأسباب الجالِبة للرزق، هدى إليه الربُّ، ودلَّ عليها الشرع:
أما أولُ ذلك وأولاه: فتقوى الله -عز وجل-؛ فمن اتقى الله ولزِمَ مرضاته رزقَه من حيث لا يحتسِب، وعدٌ من الله حقٌّ: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2، 3].
يرزُقه من جهةٍ لا تخطُر له على بالٍ، ومن حيث لا يرجُو ولا يُؤمِّل: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف: 96].
يتَّقي العبدُ ربَّه ظاهرًا وباطنًا، يتَّقي الله في نفسِه وأهلِه ومالِه وعملِه وفي شأنه كلِّه.
ومن الأسباب -حفِظكم الله-: كثرةُ الاستغفار والمُداومة عليه، يقول -عزَّ شأنُه- مُخبِرًا عن نبيِّه نوحٍ -عليه السلام-: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)[نوح: 10- 12])، ويقول عن هود -عليه السلام-: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) [هود: 52].
وورد في الحديث: "من أكثرَ الاستغفار جعل الله له من كل همٍّ فرَجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا، ورزقَه من حيث لا يحتسِب". رواه أبو داود، وإسنادُه صحيحٌ.
يقول القرطبيُّ -رحمه الله-: "وهذا دليلٌ على أن الاستغفار يُستجلَبُ به الرزق، ويُستنزَلُ به الغيث".
استغفارٌ يتواطأُ فيه القلبُ مع اللسان غيرَ مُصرٍّ على ذنبٍ، ولا عازِمٍ على عودٍ.
ومن أعظم الأسباب -عباد الله-: حُسن التوكُّل على الله، فيتعلَّقُ القلبُ بمولاه، ويُفوِّضُ أمرَه إليه؛ فمن توكَّل على الله كفاه ما أهمَّه، ودفع عنه ما ضرَّه وأغمَّه، ورزقَه من حيث لا يحتسِب، وفي الحديث: "لو أنكم تتوكَّلون على الله حقَّ توكُّلِه لرزَقكم كما يرزُقُ الطيرَ تغدُو خِماصًا وتروحُ بِطانًا". رواه أحمد، والترمذي، وهو صحيح الإسناد.
يقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: "هذا الحديث أصلٌ في التوكُّل، وأنه من أعظم الأسباب التي يُستجلَبُ بها الرزق".
قال بعضُ السلف: "توكَّل تُسَق إليك الأرزاق بلا تعبٍ ولا تكلُّفٍ".
ومما ينبغي أن يُعلم في هذا المقام -عباد الله-: أن التوكُّل لا يُعارِضُ الأخذَ بالأسباب، والاجتهاد في الطلَب؛ بل قال أهلُ العلم: "إن السعيَ في الجوارِح واقتِفاء الأسباب طاعةٌ لله، والتوكُّل بالقلبِ إيمانٌ به -سبحانه-".
وقد قال -عزَّ شأنُه- في طلب الأسباب: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) [الملك: 15]، وقال -عزَّ شأنه-: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) [المزمل: 20].
يقول القرطبيُّ -رحمه الله-: "سوَّى الله في هذه الآية بين درجة المُجاهِدين والمُكتسِبين المال الحلال للنفقَة على النفس والعيال والإحسان والإفضال"، قال -رحمه الله-: "فكان دليلاً على أن الكسبَ بمنزلةِ الجهاد؛ لأنه جمعَه معه".
وعُمر -رضي الله عنه- يقول: "لا يقعُدُ أحدُكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزُقني؛ فقد علِمتُم أن السماءَ لا تُمطِرُ ذهبًا ولا فضَّة".
والتوكُّل محلُّه القلب، والسعي وظيفة الجوارِح، وما تعسَّر من شيءٍ فبتقديرِه، وما تيسَّر من شيءٍ فبتيسيره، ولما قال رجلٌ للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أُرسِلُ ناقَتي وأتوكَّل؟! قال له: "اعقِلها وتوكَّل". أخرجه الحاكم في مستدركه، قال الذهبي: "إسنادُه حسنٌ".
ومن الأسباب الجالِبة للرزق والمُبارِكة فيه -حفِظكم الله-: صلة الرحم؛ ففي الحديث الصحيح: "من سرَّه أن يُبسَط له في رزقِه، وأن يُنسأَ له في أجلِه، فليصِل رحِمَه". رواه البخاري.
وفي حديثٍ عند أحمد: "تعلَّموا من أنسابِكم ما تصِلون به أرحامَكم؛ فإن صِلة الرَّحِم محبَّةٌ في الأهل، ومثراةٌ في المال، ومنسأةٌ في العُمر". صحَّحه الألباني -رحمه الله-.
فلِصِلة الرَّحِم آثارٌ عجيبة، وثِمارٌ مشهودةٌ من بسط الرزق، وزيادة العُمر، ودفع ميتة السُّوء، وغرس المحبَّة، وفي الحديث عند ابن حبَّان -وسندُه صحيحٌ بشواهِدِه-: "إن أعجلَ الطاعة ثوابًا: صِلةُ الرَّحِم، حتى إن أهل البيت ليكونون فجَرَة فتنمُو أموالُهم، ويكثُر عددُهم إذا تواصَلوا، وما من أهل بيتٍ يتواصَلون فيحتاجُون".
معاشر المسلمين: ومن عجائِب حِكمة الله وفضلِه: أن جعل الإنفاقَ من أسباب جلبِ الرزق وسَعَته؛ فمن أنفقَ أخلفَ الله عليه، وباركَ له فيما عنده: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ: 39]. يُخلِفُه عليه في الدنيا بالبدل والبركة، وفي الآخرة بحُسن الجزاء وعظيم الثواب، وفي التنزيل العزيز: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 268].
يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "اثنان من الله، واثنان من الشيطان؛ الشيطان يعِدُكم الفقرَ يقول: لا تُنفِقه وأمسِكه لك فإنك تحتاج إليه، ويأمرُكم بالفحشاء، والله يعِدُكم مغفرةً منه على المعاصِي والذنوب، وفضلاً في الرزق".
وفي الحديث القُدسي: "يا ابن آدم: أنفِق أُنفِق عليك". رواه مسلم.
وفي الحديث الصحيح: "ما من يومٍ يُصبِحُ فيه العباد إلا وفيه ملَكَان ينزِلان، فيقول أحدُهما: اللهم أعطِ مُنفِقًا خلَفًا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ مُمسِكًا تلَفًا". رواه البخاري.
فأنفِقوا -عباد الله-، وأبشِروا بالخلَف الواسِع من فضل الله؛ بل لقد قال -عزَّ شأنُه-: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) [الطلاق: 7].
معاشر المسلمين: ومن أسباب الرزق وأسباب سعَته: الإحسان إلى الضعفاء والمُحتاجِين، وتفقُّد أصحابِ الحوائِج، وفي الحديث: "وهل تُنصَرون وتُرزَقون إلا بضُعفائِكم!!". رواه البخاري.
وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ابغُوني في ضُعفائِكم؛ فإنما تُرزَقون وتُنصَرون بضُعفائِكم". رواه أبو داود، والترمذي.
وهذا يشملُ أصنافَ ذوي الحاجات؛ من الفقراء، والمساكين، والمرضَى، والغُرباء، ومن لا عائِلَ له.
وإن أوضاعَ الأمة ومآسيها قد أوقعَت كثيرًا من إخواننا وجيراننا في أحوالٍ وشدائِد؛ فتفقَّدُوهم، وأحسِنوا إليهم، وأنفِقوا يُخلِف الله عليكم، ويُبارِك لكم؛ بل إنكم بهذا تستجلِبون نصرَ الله وعونَه وتأييدَه.
وقد جدَّد وليُّ أمرِنا -حفظه الله وأعزَّه- استِنهاضَ الهِمَم لمُساعَدة إخواننا في سُوريا، فأرُوا اللهَ من أنفُسِكم خيرًا يُبارِك لكم، ويحفَظكم في أمنِكم، وأرزاقِكم، وتستجلِبُوا نصر الله وعونه.
وبعد:
معاشر المسلمين: إن رزقَ الله لا يضُرُّه حِرصُ حريص، ولا ترُدُّه كراهيةُ كارِه، فاتقوا الله وأجمِلوا في الطلب؛ فالعبدُ المُؤمن إذا استيقنَ أن الرزقَ مُقدَّر اطمأنَّ قلبُه، واستراحَت نفسُه، فلن يجزَعَ من فقرٍ يُصيبُه، أو جائِحةٍ تُتلِفُ مالَه، ولن يشغَلَ نفسَه بالدنيا عن الآخرة؛ لأنه يعلمُ أنه لا يأتيه إلا ما كُتِب له.
لا يستسلِفُ إلى ما في أيدي الناس، ولا يتطلَّع إلى ما في خزائِنِهم، ولا تمتدُّ يدُه إلى الحرام، مُتعلِّقٌ بربِّه، يعلمُ أن الخلقَ لا يرزُقون أنفسَهم فضلاً عن أن يرزُقوا غيرَهم.
قيل لأبي حازمٍ: ما رِزقُك؟! قال: "الرِضا عن الله، والغِنى عن الناس".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) [فاطر: 2، 3].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله نوَّر بنور الإيمان قلوبَ أهل السعادة، فأقبَلَت لطاعة ربِّها مُنقادَة، أحمدُه -سبحانه- وأشكرُه، فقد تأذَّن لمن شكَرَ بالزيادة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعظِم بها من شهادة!! وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه المخصوص بعُموم الرسالة وكمال الفضل والسيادة، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ وأصحابِهِ الكرام السادة، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ وجاهَد في الله فأحسنَ جِهادَه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
أيها المسلمون: وإن من أعظم أسباب جلبِ الرزق وبركته؛ بل لعلَّه هو جِماعُ الأسباب كلِّها: الاستقامة على دينِ الله، والعمل بطاعته، واجتِنابَ معاصِيه ومناهِيه؛ فما استُجلِبَت الأرزاق إلا بالطاعات، وما مُحِقَت إلا بالمعاصِي والذنوب، وإن العبد ليُحرَم الرزقُ بالذنبِ يُصيبُه.
فالذنوبُ والمعاصِي من أكبر الأبواب التي تُغلِقُ موارِد الأرزاق على الفرد وعلى الأمة، بالذنوب والمعاصِي تتعسَّر الأسباب، وتضيقُ الأبواب، وتُمحَقُ البركات: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) [الجن: 16، 17].
إن نِعَم الله ما حُفِظَ موجودُها بمثلِ الطاعة، ولا استُجلِب مفقودُها بمثلِ الطاعة، فما عند الله لا يُنال إلا بالطاعة، فمن أراد السَّعة في الرزق، والرَّغَد في العيش، والبركة في المال فليحفَظ نفسَه عما يُؤثِّمُه، وليمتثِل أوامِر ربِّه، وليجتنِب نواهِيَه، وليصُن نفسَه عن مواضِع سخَط الله.
ألا فاتقوا الله -رحِمكم الله-، واستحضِروا وتأمَّلُوا قولَ نبيِّكم محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-: "إن روحَ القُدس نفثَ في رُوعِي أن نفسًا لن تموتَ حتى تستكمِلَ رِزقَها، فاتقوا الله وأجمِلوا في الطلب، ولا يحمِلنَّكم استِبطاء الرزق أن تطلُبوه بمعاصِي الله -عز وجل-؛ فإن الله لا يُدرَك ما عنده إلا بطاعته"، "ومن يستعفِف يُعِفَّه الله، ومن يستغنِ يُغنِه الله"، "وما أكل أحدٌ طعامًا قطُّ خيرًا من أن يأكُل من عملِ يدِه".
هذا، وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم في مُحكم تنزيلِه، فقال -وهو الصادقُ في قِيله- قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك سيِّدنا ونبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
التعليقات