عناصر الخطبة
1/ من مقاصد الشريعة الأدب والذوق 2/ فضل الأدب والذوق 3/ ارتباط الأدب في شعائر الإسلام 4/ أهمية الربط بين حُسن التعبُّد وحُسن الخُلق 5/ من مظاهر الأدب في ديننا 6/ الآثار المترتبة على جفاف الذوقاهداف الخطبة
اقتباس
يعجزُ بعضُ أصحابِ العبادات والكُرُبات -وفَّقهم الله وتقبَّل منهم- يعجَزون أن يربِطوا بين حُسن التعبُّد وحُسن الخُلق وسُمُوّ الذَّوق، فترى هذا المُتعبِّد -حفظَه الله- يحرِصُ على العبادات في أوقاتِها وهيئاتِها، لكنَّه قد يرتكِبُ أعمالاً يأباها الخُلُق الكريم، ومن لم تُزكِّه عبادتُه وتُهذِّبُه ديانتُه فما ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله بلُطفه تنكشِف الشدائد، وبالتوكُّل عليه يندفعُ كيدُ كل كائِد، أحمده -سبحانه- وأشكرُه وأسألُه المزيدَ من فضلِه وكرمِه، فبفضلِه ولُطفِه تتواصَلُ النِّعمُ وجميعُ العوائِد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له في كل شيءٍ آيةٌ تدلُّ على أنه الواحد، وأشهد أن سيدَنا ونبيِّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه خيارٌ من خيارٍ كريمُ الأصل سيلُ الأماجِد، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله السادة الطيبين الطاهرين أهل المكارِم والمحامِد، وعلى أصحابِه الغُرِّ الميامين انعقَدَت على فضلِهم المعاقِد، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ من كل عابِد، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأُوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله-؛ فليس أطيبَ من العافية، ولا أغنى من القناعة، (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف: 26].
الدنيا دارُ عملٍ لا دارُ كسل، ويوم تقومُ الساعةُ لا فوزَ إلا بالطاعة، ومن كان له من نفسِه واعِظ كان له من الله حافِظ، ومن أصلحَ أمرَ آخرتِه صلُح له أمرُ دُنياه، والناسُ لن يُعطُوك أو ينفعوك إلا بما قُدِّر لك، ولن يضرُّوك أو يمنعُوك إلا بما قُضِيَ عليك: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:97].
أيها المسلمون: قِيل لبعض أهل الفضل: هل قرأتَ "أدبَ النفس" لأرسطو؟! فأجابَ -بعزَّةٍ وثقةٍ-: بل قرأتُ أدبَ النفس لمُحمدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم-.
الله أكبر! كتابُ ربِّنا مليءٌ بالتوجيهات والآداب في شؤون الحياة والأحياء؛ شُربًا وأكلاً، وقولاً وفعلاً، واستِئذانًا ومُحادثات، ولِباسًا ومُعاملات، وضبطًا للمواقيت والمواعيد، ومثلُ ذلك وتفصيلاتُه في كتب الصِّحاح والسُّنن، في سُنَّة المُصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- وسيرتِه. كيف ونبيُّنا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- بُعِث ليُتمِّم صالحَ الأخلاق ومكارمِها!!
والأحكامُ والتشريعات حينما كانت تتنزَّل تنزَّلَت مُتكامِلةً في بناءٍ من حُسن الخُلق متين، وسدادٍ في السلوك جميل، وذوقٍ في التعامُل رفيع.
معاشر المسلمين: أدبُ النفس، ورفعةُ الذَّوق، وجمالُ التعامُل من أجلِّ ما وهبَ الله عبدَه من نعمٍ، ومُراعاة المشاعر، وحُسن المُعاملة مقصدٌ شرعيٌّ من مقاصِد الدين عظيم.
الذَّوقُ مسلكٌ لطيفٌ، وتصرُّفٌ حميدٌ يحملُ معانِي الأدب، وعالِي الرِّقَّة، وحُسن المعشَر، وكمالَ التهذيب، وحُسن التصرُّف، وتجنُّب ما يُحرِجُ أو يجرَح؛ من فعلٍ أو قولٍ أو إشارةٍ.
والناسُ تُحبُّ ليِّنَ الجانِب، باسِط الوجه، والقلوبُ تُقبِلُ على من تواضَعَ لها؛ فالمواجهةُ بالوجه الجميل، والمُصافحةُ بالكفِّ الكريم، والتحدُّثُ باللسان المُهذَّب يعطِفُ القلوب، ويُمهِّدُ السبيل لقبول كل ما يُقدَّم؛ من علمٍ ونُصحٍ، ونقدٍ وتوجيه.
إخوتي في الله: وإن من علامات الإيمان وعُنوان السعادة أن يُرزَق العبدُ ذوقًا راقِيًا، وتهذيبًا رقيقًا ليستمتِع بالحياة، ويحترِم المشاعر، ويُدخِل السُّرورَ على نفسِه وعلى الآخرين من الأقرَبين والأبعَدين، والحياءُ شُعبةٌ من الإيمان.
وهل رأيتُم أرفعَ ذوقًا وأرقَى سلوكًا من أُسوتنا وقُدوتنا وسيِّدنا نبيِّنا محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-؟!
ألم تقرؤوا في سيرته أن الأَمَةَ كانت تأخذُ بيده -عليه الصلاة والسلام- فتنطلق به حيث شاءَت؟! وكان يبدأ من لقِيَه بالسلام، ويبدأ أصحابَه بالمُصافحَة، ولا ينزِعُ يدَه حتى يكون الرجلُ هو الذي ينزِعُ يدَه، ولا يصرِف وجهَه حتى يكون الرجلُ هو الذي يصرِف وجهَه. ولم يُرَ مُقدِّمًا رُكبتَه بين يدَي جليسِه أخرجه الترمذي.
ويقول أنس -رضي الله عنه-: ما التَقَمَ أحدٌ أُذنَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم يعني: يُناجِيه- فيُنحِّي رأسَه حتى يكون الرجلُ هو الذي يُنحِّي رأسَه، وكان ضحِكُه تبسُّمًا.
معاشر الأحِبَّة: أما تعليماتُ ديننا وأحكامُه وتشريعاتُه وتوجيهاتُه فلها في ذلك من الدقائق واللطائِف ما لا ينقضِي منه العجَب، وفي عرضٍ واستِعراضٍ للعبادات الكُبرى في الإسلام يستَبينُ للناظِر والمُتأمِّل متانةُ الأواصِر التي ترتبِطُ فيها العباداتُ بالأخلاق والسلوك والتهذيب.
عباداتٌ هي أركانُ الدين وقِوامُه، مُختلفةٌ في مظهَرها، مُتَّفقةٌ في جوهَرها، هي مدارِجُ الكمال، ومراقِي الطُّهر، وسجايا الكرَم.
فالصلاةُ تنهَى عن الفحشاء والمُنكَر، وفي الصلاة مظاهرُ الذَّوق ورفيع الأدب؛ من أخذ الزينة عند المسجد، والطِّيب، والمشي بسكينةٍ ووقار، وتسوية الصُّفوف وسدّ الفُرَج، وتجنُّب أكل الثُّوم والبصَل، وكل ما له رائحةٌ كريهةٌ.
ولقد قال المُصطفى -صلى الله عليه وسلم- لمُتخطِّي الصفوف: "اجلِس فقد آذيتَ".
فإذا كنتَ -يا عبد الله- تُريد تحصيلَ الفضيلة في عبادتك فإياك أن يترتَّب على ذلك إيذاءُ إخوانك.
أما الزكاة فقد قال فيها -عزَّ شأنُه-: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) [التوبة: 103]. وتُخفِي الصدقة وتُبدِيها حسب الأحوال؛ مما يُحافِظُ على أدب النفوس ويتجنَّبُ جرحَها وإيذاءَها: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى) [البقرة: 263].
بل إن مفهومَ الصدقة في ديننا أوسع من التصدُّق بالمال؛ فتبسُّمُك في وجه أخيك صدقة، وإرشاد الضالّ صدقة، وإماطةُ الأذى عن الطريق صدقة، وبصرُك للرجل رديء البصر صدقة.
أما الصيام فصيامٌ عن الزُّور كلِّه قولاً وعملاً: "ومن لم يدَع قولَ الزُّور والعملَ به والجهلَ فليس لله حاجةٌ في أن يدَع طعامَه وشرابَه". وإنما الصيامُ عن اللَّغو والرَّفَث: "وإن سابَّه أحدٌ أو شاتَمَه فليقُل: إني صائِمٌ".
والحجُّ زادُ التُّقَى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) [البقرة: 197]، في الحج عليكم بالسكينة، وإياكم والغُلُوّ، واجتنِبُوا إيذاءَ إخوانكم في مواطِن الزِّحام؛ في النَّفير من المشاعِر، ورميِ الجِمار، والطواف، وتقبيل الحجَر الأسوَد، والسعيِ.
معاشر الأحِبَّة: يعجزُ بعضُ أصحابِ العبادات والكُرُبات -وفَّقهم الله وتقبَّل منهم- يعجَزون أن يربِطوا بين حُسن التعبُّد وحُسن الخُلق وسُمُوّ الذَّوق، فترى هذا المُتعبِّد -حفظَه الله- يحرِصُ على العبادات في أوقاتِها وهيئاتِها، لكنَّه قد يرتكِبُ أعمالاً يأباها الخُلُق الكريم، ومن لم تُزكِّه عبادتُه وتُهذِّبُه ديانتُه فما الذي حصَّلَه يا تُرَى؟! وخبرُ المُفلِس عند أهل الإسلام معلوم، وهو من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ، ويأتي وقد شتَمَ هذا، وقذَفَ هذا، وأكلَ مالَ هذا، وسفَكَ دمَ هذا، وضربَ هذا. وحينئذٍ يكونُ القِصاصُ؛ فأين حسناتُه؟!
وهل يبدو تقيًّا من بدا كالِحَ الوجه، بادِيَ الشرِّ، قريبَ العُدوان؟! و"آيةُ المنافق ثلاث: إذا حدَّثَ كذَب، وإذا وعدَ أخلفَ، وإذا عاهَدَ غدَر، وإن صلَّى وصامَ وزعمَ أنه مسلمٌ". حديثٌ صحيحٌ.
ومن مطلوب العبادات ومقاصِدها: أن لا تختلِف القلوبُ، ولا تُكدَّر النفوسُ، "سوُّوا صفوفَكم، ولِينُوا في أيدي إخوانِكم، ولا تختلِفوا فتختلِفَ قلوبُكم"، "والمؤمنُ بحُسن خُلُقه يُدرِكُ درجةَ الصائم القائم". رواه أبو داود.
معاشر المُسلمين: ومما يتجلَّى فيه مظاهر الذَّوق والأدَب الرفيع في دينِنا: آدابُ الأكل؛ من غسل اليدَين، والأكل مما يلِيه، ولا ينفُخ في الطعام، ولا يتنفَّس في الإناء، ولا يفعَلُ ما يُستقذَرُ أو يُستنكَرُ أو يُستكرَه قولاً وفعلاً وإشارَة، وكُل من الطعام المُباح ما اشتهيتَ، والبَس من اللِّباسِ ما يشتَهيه الناسُ.
دُعِيَ نبيُّنا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- إلى ضِيافةٍ عند رجُلٍ، فيقولُ له -عليه الصلاة والسلام-: "لقد دعوتَنا خمسة، وهذا تبِعَنا، فإن شئتَ قبِلتَه وإن شئتَ أرجعتَه". فقال الرجلُ: قبِلناهُ من أجلِك يا رسول الله.
هذا -وربِّكم- هو الأدبُ، وهذا هو الذَّوق في أسمَى صُوره ومعانِيه.
ومن دلائل الأدب العالِي والذَّوق الرَّفيع: آدابُ الزيارات والاستِئذان من جميع الأعمار من البالِغين والأطفال؛ من طرق الباب من غير عُنفٍ، وعدم الوقوف مُقابِل الباب؛ فإنما جُعِل الاستِئذان من أجل البصر، وتخيُّر أوقات الزيارة: (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ) [النور: 28]، والجلوسُ حيث يُجلِسُه صاحِبُ البيت أو حيثُ ينتهِي به المجلِسُ حسب الأحوال، والقومُ أعلمُ بعورات بيوتِهم، ولا يُقيمُ أحدًا من مجلسِه ليجلِسَ فيه، وافسَحوا يفسَحِ الله لكم: (وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) [المجادلة: 11].ولا يتناجَى اثنان إلا بإذن الثالِث؛ فإن ذلك يُحزِنُه
(وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا) [النور: 59]، والذين لم يبلُغوا يستأذِنون في العورات الثلاث: من قبلِ صلاة الفجر، وحين وضع الثياب من الظَّهيرة، ومن بعد صلاة العشاء.
وفي أدب الاجتِماعات والتشاوُر وإدارة الجلَسات يأتي التوجيهُ القُرآنيُّ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 62].
ومن اللِّياقة في آداب الجوار والجيران: ألا يطَّلِع على دارِه، ولا يُتبِع نظرَه فيما يحمِلُه، ويغُضّ طرفَه عن حرَمه، ويستُر ما ينكشِف من عورته.
ومن زارَ مريضًا؛ فمن الكياسَة أن يُخفِّف الجلوسَ، ويدعُو بالعافية؛ فإن المريضَ يُعاد، والصحيحَ يُزار.
ومما تتجلَّى فيه اللَّباقة واللَّياقة وحُسن الذَّوق قيادةُ المركَبات، ومُراعاة إيقافِها في مواقفِها، والتِزامُ قواعِد المُرور، وضوابط السَّير، وحُسن الوقوف المُنظَّم صفوفًا، وحُسن استِخدام المرافِق العامَّة والمُحافظةُ عليها ونظافتُها وصيانتُها وعدمُ العبث بها والتعدِّي عليها.
ناهِيكم بما أنعمَ الله به على أهل هذا الزمان من وسائل الاتصال وما يجبُ من مُراعاة الأدب في استِعمالِها مُحادثةً وإرسالاً واستِقبالاً.
ومن أبرز علامات الذَّوق وأرفعها وأعلاها الحياء حين يتحرَّجُ عن فعلِ ما لا ينبَغي، ويترفَّعُ عما لا يليق.
تأمَّلُوا هذه الصورةَ النبويةَ الرفيعةَ، يقول أبو سعيد الخُدري -رضي الله عنه-: كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أشدَّ حياءً من العذراء في خِدرها، وكان إذا رأى شيئًا يكرهُه عرفناه في وجهِه رواه مسلم.
نعم، إن من الذَّوق الرفيع أن يخجَل الإنسان أن يُؤثَرَ عنه سوءٌ، وأن يحرِصَ على بقاء سُمعتِه نقيَّةً من الشوائِب بعيدةً عن الإشاعات، يذُودُ عن سُمعتِه ظُنون العباد.
ومن هذه الآداب معرفةُ حقوق أصحاب الحُقوق، ومنزلة أصحاب المنازِل، وإيتاء كل ذي فضلٍ فضلَه؛ فللغلام مع من يكبُرُه مُعاملة، وللطالِب مع مُعلِّمه مُعاملة، وللولَد مع والدِه مُعاملة، وللسُلطان منزلتُه، وللعالِم مقامُه.
أيها المسلمون: هذه بعضُ التصرُّفات والمسالِك التي يستَبينُ فيها حُسن تصرُّف الرجُل وكياسَته ولباقَتُه، وقد قال أهلُ الحكمة: "الفضلُ بالعقل والأدب لا بالأصل والحسَب؛ بل إن من قعَدَ به حسَبُه نهضَ به أدَبُه".
والأدبُ وسيلةٌ إلى كل فضيلةٍ، وذريعةٌ إلى كل شريعةٍ. يقول أبو جعفر المنصورُ: "إن أحببتَ أن يكثُر عليك الثناءُ الجميلُ بغير نائِلٍ فالقَهم ببُشرٍ حسنٍ".
والذَّوقُ الرفيعُ -عباد الله- ليس ضعفًا؛ فالرجلُ الكريمُ يُفضِّلُ أن يُريقَ دمَه على أن يُريقَ ماءَ وجهه، والعاقلُ في حضرة الرِّجال يُحكِمُ سلوكَه، ويضبِطُ تصرُّفَه، يتكلَّمُ بقدرٍ، ويتصرَّفُ بذوقٍ، وإن تمعُّر الوجه، واهتِزاز المشاعِر في بعض المواقِف دليلُ سمُوٍّ كامنٍ وطبعٍ كريمٍ.
مُستحكِمُ الأدب من أي الأقطار أتيتَه قابلَكَ بكرَمِ فِعالٍ، وحُسن مقالٍ. ورُبَّ قولٍ أشد من صَولٍ، ومن حصافَة عقل المرء أن يكون الاستِماعُ أحبَّ إليه من النُّطق.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [لقمان:18، 19].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله رفعَ قدرَ ذوي الأقدار، أحمده -سبحانه- وأشكرُه برحمته وفضلِه، وحكمتِه وعدلِه تنفُذُ مصارِيفُ الأقدار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يخلُقُ ما يشاءُ ويختار، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه البشيرُ النذيرُ، والمُصطفى المُختار، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله الطيبين الأطهار، وعلى أصحابه السادة الأخيار، والتابعِين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقَبَ الليلُ والنهار، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أيها المسلمون: العاجِزُ من عجزَ عن سياسة نفسِه، مسكينٌ من جفَّ ذوقُه، وغلُظَ طبعُه، فلا تسأل عما يُحدِثُه في نفسِه والناسِ من أذًى وشرخٍ وشقاءٍ، لا يُراعِي مشاعِر، ولا يأنَفُ من مُواجَهات، جَهولٌ نزِقٌ، يُقلِّبُ المواجِع، وينشُرُ المعايِب.
وابن القيم -رحمه الله- يصِفُ أمثالَ هذا فيقول: "فمُخالطتُه حُمَّى الرُّوح، ثقيلٌ، بغيضٌ لا يُحسِنُ أن يتكلَّم فيُفيدِك، ولا يُحسِنُ أن يُنصِتَ فيستفيدَ منك، ولا يعرِفُ نفسَه فيضعَها موضعَها".
إن للثَّرثَرة ضجِيجًا يذهبُ مع الرُّشدِ، وثمَّة فِئةٌ ممن يتصدَّرُون المجالِس، يجزِمُ مُستمِعُهم أنهم لا يتحدَّثُون من وعيٍ يقِظٍ، ولا فِكرٍ عميقٍ، ولا ذوقٍ رفيعٍ؛ بل ربما ظنَّ الظانُّ أن لدَيهم انفِصامًا بين الاتِّزان وهذا الكلام المُتناثِر، وما استقامَ قلبُ عبدٍ حتى استقامَ لسانُه. والعياذُ بالله من أُناسٍ يبسُطون ألسِنَتهم بالسُّوء، يتسقَّطون الأخبار، ويتتبَّعون العورات، هُمزة لُمَزة، "وإن أبغضَ الرِّجال إلى الله: الألدُّ الخصِم". رواه البخاري.
وآفةُ ذي الحِلمِ: طيشُ الغضب، ومن ساءَ أدبُه ضاعَ نسَبُه، والغريبُ من لا أدبَ له، وشرُّ الناس عند الله منزلةً يوم القيامة مَن تركَه الناسُ اتِّقاء فُحشِه.
ألا فاتقوا الله -رحمكم الله-؛ فإن الرجُل النبيلَ لا يفقِدُ خُلُقه مع من لا خُلُق له، وهل تكونُ المُداراةُ إلا مع السُّفهاء وأصحاب الطِّباع الشَّرِسة والوجوه الصَّفيقة!! (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان: 63].
هذا، وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم، فقال في محكم تنزيله -وهو الصادقُ في قِيلِه- قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
التعليقات