اغتنام مواسم الطاعات وفضيلة الوسطية والاعتدال

عبدالباري بن عواض الثبيتي

2023-06-30 - 1444/12/12
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/اغتنام مواسم الخيرات والطاعات 2/وجوب المداومة على العمل الصالح 3/فضائل المثابرة على العمل الصالح 4/التوازن والوسطية نهج سديد قويم

اقتباس

التوازنُ مطلوبٌ في الأعمال والأحوال؛ فإنَّ التكلفَ في العبادة، والتشديدَ على النفس؛ يؤدِّي إلى الضَّعْف والانقطاع، ويُفضِي إلى السآمة والملل والفتور، وقد يَنحَرِف المسارُ إلى انتكاسةٍ مُحبِطةٍ وغلوٍّ مُهلِكٍ...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، الحمد لله الذي أعطى كلَّ شيء خَلْقَه ثم هَدَى، وأعان عباده السائرين إليه على التقى، وأَودَع القلوبَ ما شاء منها من الحكمة والنور والنَّقَا، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادة تكون للنجاة وسيلة، وبرفع الدرجات كفيلة، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، كان عمله ديمة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.

 

أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].

 

تتوارَد علينا مواسمُ الطاعات والخيرات، وتتوالى الفرصُ والمناسَباتُ، فيشمِّر فيها العاقلُ عن سَاعِد الجِدِّ، ويستحثُّ الهمةَ، ويترقَّى في سُلَّم الفضائل، يسمو بروحه، يُغذِّي إيمانَه، يُعزِّز رصيده؛ يستدرِك ما فات، ويستعدّ لِمَا هو آتٍ، يسدّ ما سها عنه وغفل، ويصلح ما عسى أن يكون مِنَ الخَلل؛ فإذا ما انقضَتْ تلك المواسمُ تغيَّر حالُ بعضنا فيضعف النشاط، ويتراجع الحماس، وتخبو الهمة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن لكل عمل شِرةً، ولكل شِرَّة فترة، فمن كانت فترتُه إلى سُنَّتِي فقد اهتدى، ومَنْ كانت إلى غير ذلك فقد هلك"(رواه أحمد)؛ وهذا يحدونا لأَنْ نتساءلَ عن المسار الأسلم، والهدي الأقوم للعمل على مدار العام؟ ولعلَّنا نستلهم الجوابَ الشافيَ، والعلمَ الوافيَ من هَدي النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي جلَّتْه لنا أُمُّ المؤمنينَ عائشةُ -رضي الله عنها- حين سألَها علقمةُ: "كيف كان عمل النبي -صلى الله عليه وسلم-؟، هل كان يخص شيئًا من الأيام؟ قالت: لا، كان عمله ديمة"(رواه البخاري ومسلم)؛ أي: كان عمله دائمًا لا ينقطع، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ -تعالى- أَدْوَمُها، وَإِنْ قَلَّ"(رواه البخاري ومسلم).

 

هذا النهج النبوي والسلوك التعبدي يجعل المرء دائم الصلة بخالقه، مُقبِلًا على ربه، فالقليل الدائم قصد واعتدال، وهو لطيف على القلب، لا تجد له ثقلًا، تُقبِل عليه النفسُ؛ لأجل تنوُّعِه، والقليل مع الدوام كثير، ومع صدق النيَّة مضاعَف، وأثرُه في النفس عميق، واعلم أن ساعات زمانكَ التي تنظر إليها بعين التقليل إذا استثمرتَها بعمل دائم حققتَ الكثيرَ من النجاح.

 

الحديث يلفت النظر إلى أن المداومة على العمل أهم من مجرد العمل، فالشأن أن تبدأ وأن تستمر، ومن استمر سما في سماء المجد والعز، تمثل هذا المبدأ النبوي الراقي: "أدومه وإن قل" صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، الذين نَهَلُوا من مَعِين الفضائل؛ فغَدَوْا قممًا بها يُتأسَّى، وسيرًا بها يُحتذَى، اهتَبَل كلٌّ منهم فرصةً سانحةً من النوافل، يتخيَّر عملًا يطيقه، وطاعةً تعلَّق قلبُه بها، وتميل إليها نفسه، من صلاة، أو صدقة، أو بِرّ، أو صلة، أو غيرها؛ ففي صحيح مسلم عن أم المؤمنين أم حبيبة -رضي الله عنها- قالت: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مَنْ صلَّى اثنتي عشرةَ ركعةً في يوم وليلة بُني له بهن بيت في الجنة"، قالت أم حبيبة: "فما تركتُهنَّ منذ سمعتُهنَّ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، وفي صحيح مسلم، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان آل محمد -صلى الله عليه وسلم- إذا عملوا عملًا أثبتوه"، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لبلال عند صلاة الفجر: "يا بلال، حدثني بأرجى عمل عملتَه في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة. قال: ما عملت عملًا أرجى عندي أني لم أتطهر طهورا في ساعة ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي"، وفي صحيح مسلم عن ابن عمر قال: "‌بَيْنَمَا ‌نَحْنُ ‌نُصَلِّي ‌مَعَ ‌رَسُولِ ‌اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: ‌اللهُ ‌أَكْبَرُ ‌كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: مَنِ الْقَائِلُ كَلِمَةَ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: عَجِبْتُ لَهَا! فُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ ذَلِكَ".

 

ولن تخطئ عينك سِيَرَ الناجحينَ حولكَ، والمبرزينَ من قومك، الذين حققوا أهدافًا عُليا، ومكاسب كبرى، في مسيرتهم الدينيَّة وأعمالهم الدنيوية، بالمثابَرة، والدوام بالقليل من الوقت، لو خصص المرء وقتًا قليلًا دائمًا لحفظ القرآن، أو لطلب العلم، أو قراءة سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو قراءة مفيدة، أو الجلوس مع أولاده للتربية، أو في عمل تطوعيّ، أو تجارة مع الله، أو عمل دنيويّ نافع؛ فسيَبلُغ مرادَه، ويُحقِّق أهدافَه، وسيظهر أثرُ ذلك رُقِيًّا في حياته، وسعةً في فِكره، ونموًّا في مداركه، وسيجعله عنصرَ بناء يُنمِّي مجتمعَه ويرتقي بوطنه، ناهيك أن تعلم أن من داوم على عمل صالح ثم مرض أو سافر، كان كأنما عمله، كما ورد في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا ‌مَرِضَ ‌الْعَبْدُ، ‌أَوْ ‌سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا"(رواه البخاري).

 

بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، أقول قَوْلِي هذا، وأستغفِر الله العظيم لي ولكم فاستغفِروه، إنَّه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الأسماء الحسنى والصفات العلا، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، المبعوث بالرحمة والهدى، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه.

 

أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.

 

وعلى كلٍّ فالتوازنُ مطلوبٌ في الأعمال والأحوال؛ فإنَّ التكلفَ في العبادة، والتشديدَ على النفس؛ يؤدِّي إلى الضَّعْف والانقطاع، ويُفضِي إلى السآمة والملل والفتور، وقد يَنحَرِف المسارُ إلى انتكاسةٍ مُحبِطةٍ وغلوٍّ مُهلِكٍ، فجاء التوجيه النبوي ليرد من كان هذا حاله، إلى الهدي النبوي ردًّا جميلًا، ففي الصحيح، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "جَاءَ ‌ثَلَاثَةُ ‌رَهْطٍ ‌إِلَى ‌بُيُوتِ ‌أَزْوَاجِ ‌النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟! قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي".

 

ألَا وصلُّوا -عبادَ اللهِ- على رسول الْهُدَى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، اللهمَّ بَارِكْ على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، اللهمَّ وارضَ عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان وعلي، وعن الآل والصحب الكرام، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

 

اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، وأَذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، ودمر اللهمَّ أعداءك أعداء الدين، واجعل اللهمَّ هذا البلد آمِنًا مطمئنًا وسائرَ بلاد المسلمين.

 

اللهمَّ إنَّا نسألك الجنة وما قرَّب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرَّب إليها من قول وعمل، اللهمَّ إنَّا نسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، اللهمَّ إنَّا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الغنى والفقر، نسألك نعيمًا لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهمَّ إنَّا نسألك خير المسألة، وخير الدعاء، وخير النجاح، وخير الفلاح، وخير العمل، وخير الدعاء برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اللهمَّ لا تَدَعْ لنا ذنبًا إلا غفرته، ولا همًّا إلا فرجته، ولا دَينًا إلا قضيتَه، ولا مريضًا إلا شفيتَه، ولا مبتلًى إلا عافيتَه، برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اللهمَّ احفظ رجال أمننا، واحفظ حدودنا، واحفظنا بحفظك يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ من أرادنا وأراد بلادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، اللهمَّ وفِّقْه لهداكَ، واجعل عملَه في رضاكَ يا ربَّ العالمينَ، ووفق ولي عهده لما تحب وترضى يا أرحم الراحمين، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك يا أرحم الراحمين.

 

(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الْحَشْرِ: 10]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].

 

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life