عناصر الخطبة
1/ الحرص على الموتِ الحميدِ أمنية عظيمة 2/ اصنع لنفسك مِيْتَة صالحة بالإقبال على الطاعات 3/ من مقدِّمات المِيْتَة الحسنة 4/ صفحات مضيئة من التاريخ 5/ الناس شهداء الله في أرضه 6/ شهادات السوءِ من علامات الشقاء 7/ الاعتبار بالتاريخاهداف الخطبة
اقتباس
إنَّ الحرصَ على الموتِ الحميدِ أمنيةٌ طلبها الأنبياءُ، فهذا يوسف -عليه السلام- دعا ربَّه: (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف: 101]، وسعى لها الصالحونَ حقَّ سعيها، بهمَّةٍ عاليةٍ، ونفوسٍ توَّاقةٍ، فكانت أعمارُهم مَلأى بالطاعاتِ والقرباتِ، وجوارحُهم مصونةٌ عن الآثامِ والحرمات..
الخطبة الأولى:
إخوة الإيمان: حقيقة قرَّرها الرؤوفُ الوَدودُ، ومُسلَّمةٌ لا يُماري فيها كلُّ موجود، تقول هذه الحقيقة: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران: 185]، (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) [السجدة: 11].
فالكلُّ راحِلٌ عن هذه الدارِ، والجميعُ سائرٌ إلى دارِ القرارِ، فإما إلى جنةٍ وإما إلى نارٍ.
لن نتحدثَ عن هذه الحقيقةِ المستقرَّة، وإنما سيكونُ الحديثُ عن شأنِ هذا الرحيلِ، وماذا سَيُقالُ عنكَ يا كلَّ راحلٍ.
عباد الله: إنَّ الحرصَ على الموتِ الحميدِ أمنيةٌ طلبها الأنبياءُ، فهذا يوسف -عليه السلام- دعا ربَّه: (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف: 101]، وسعى لها الصالحونَ حقَّ سعيها، بهمَّةٍ عاليةٍ، ونفوسٍ توَّاقةٍ، فكانت أعمارُهم مَلأى بالطاعاتِ والقرباتِ، وجوارحُهم مصونةٌ عن الآثامِ والحرمات.
إن الموتَ الحميدَ هو بتوفيقٍ من اللهِ وفَضْلٍ، ولكنَّه يُصنعُ ويُعَدُ بالعَمَلِ، وقد جَعَلَ اللهُ لكلِّ شي سببًا.
فيا أخا الإسلامِ: اصنعْ لنفسِك مِيْتَةً صالحةً بالإقبالِ على الطاعاتِ، والثباتِ عليها، نافسْ في كلِّ خَيرٍ، وزَاحِمْ نَحْوَ كلِّ مَعروفٍ، واضرِبْ بسَهْم في كلِّ بر، كُنْ من أهلِ الصلاة إذا نُودي إليها، ولازمْ نوافلَ الصيام وواظبْ عليها، أقبلْ على القرآنِ، ينشرح صدرك لآياتِ الرحمنِ.
تلذَّذْ ببرِّ الوالدينِ وصلةِ الأرْحَام، واحرص على زيارةِ المريض، والعفوِ عن الأنام.
عوِّدْ نفسَك مسحَ رأسِ اليتيمِ، وتحسَّسْ فاقةَ كلِّ كسيرٍ.
سارِع لِجَنَّة عرضُها السمواتُ والأرضُ، واستعجلْ رضا ربِّك عنك، من خلال تلمُّس الأعمالِ التي يُحبُّها اللهُ ويرضاها.
وكن كما قال كليمُ الرحمن: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) [طه: 84].
كن كذلك حتى يَحين حينُك وأجلُك: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99]. فالتاريخُ والواقعُ يَشهدُ أنَّ من عاشَ على شيءٍ ماتَ عليه.
المِيْتَةُ الحَسَنَةُ -جعلنا الله من أهلها- تُصنعُ قبل الموتِ بمعرفةِ اللهِ وإجلالِه، وتعظيمه في الخلواتِ والجَلَوَاتِ، ومن وحي النبوة: أنَّ مَنْ عَرَفَ اللهَ في رخائِه عَرَفَهُ ربُّه في شدَّتِه وبلائِه، وأي شدَّةٍ أشدُّ من ودَاعِ هذه الدارِ.
فَلْيُبْشِرْ أهلُ التقوى والإيمانِ الذين (قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا)، ببشائرِ ملائكةِ الرحمنِ تُزفُّ إليهم: (أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت: 30].
ومن مقدِّماتِ المِيْتَةِ الحسنةِ أن يُوفَّق العبدُ قبلَ رحيله بأعمالٍ صالحةٍ يُخْتَمُ له بها، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إذا أرادَ اللهُ بعبدٍ خيراً عَسَّلَه"، قيل: وما عسَّله؟! قال: "يَفْتَحُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُ عَمَلاً صَالِحًا قَبْلَ مَوْتِهِ ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ". رواه الإمامُ أحمدُ، وهو حديثٌ صحيحٌ.
فيا كلَّ عاملٍ للصالحاتِ -زادك الله حرصًا وثباتًا وإخلاصًا- أبشر أخي فأنتَ تَصْنَعُ لنَفْسِك بإذنِ اللهِ موتًا حميدًا، وأنتَ أنتَ أيضًا تسطِّر لك بعد رحيلك ذكرًا خالدًا.
بِشَارةُ خَيْرٍ، وعلامةُ توفيقٍ أن يُثنى عليك بعد رحيلك، والناس شهداء الله في أرضه، قالها المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
إنَّ الثناءَ الحسن بعد الرحيلِ، والذكرَ الجميل منحةٌ إلهيةٌ يَهَبُها المولى سبحانه لمنْ يَشاءُ من عبادِه.
حُسْنُ الثناءِ بعد المماتِ -يا أهلَ الإيمانِ- دعوةٌ مَشروعةٌ سألهَا أبو الأنبياءِ إبراهيمُ الخليلُ -عليه السلامُ-، فسأل الله تعالى أن يَبقى ذِكْرُه متردِّدًا عبْر كلِّ جيلٍ: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [الصافات:50]، فأجاب الله سؤْله: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) [الصافات: 78]، قال جمهور المفسرين: "وتركنا ثناءً حسنًا عليه".
ثم عمَّ فضل الله على خليله، فكان له الذِّكر الطيِّب، ولذرِّيته إسحاق ويعقوب، قال سبحانه: (وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) قال القرطبي: "أيْ أثنينا عليهم ثناءً حسنًا".
وحينَ نُقلِّبُ تاريخنا الغابِرْ، نَجِدُ الذَّاكرةَ متخمةً بأسماءٍ لامعة، إذا ذُكروا ذُكر معهم الثناءُ العاطرُ، والذِّكرُ الحسنُ، والدُّعاءُ بالرحمةِ والمغفرةِ.
إذا ذُكر الإمامُ أحمدُ بنُ حنبل، قيل: إمامُ أهلِ السُّنةِ والجماعة. وإذا قيل: أحمدُ بنُ عبدِ الحليمِ الحرَّاني، لا يُعْرَفُ إلا بشيخِ الإسلامِ ابن تيميَّة. وإذا ذُكرَ صلاحُ الدينِ، قيلَ: قاهِرُ الصليبيِّينَ، ومُحرِّر أُولَى القبلتين. وإذا ذُكرَ محمدُ بنُ عبدِ الوهاب، استحقَّ أن يُقال: الإمامُ المجدِّد.
أعلامٌ وعُظماءُ غُيِّبوا في الثَّرى، لكنْ ما غَابَ ذِكْرُهم، وما مُحِيَ أثرهم، بل إنَّ ذكْرَهم بعد مَماتِهم أكثرُ من ذِكرِ كثيرٍ من الأحياء، وذلك فضلُ اللهِ يُؤتِيه من يشاء.
إن الذِّكرَ الحسنَ في الدنيا -يا أهلَ الإيمانِ- ليس بكثرةِ المُكْث فيها، وإنَّما بقدْر الأثرِ عليها.
لقد عاش في هذه الدار رجالاتٌ ماتوا وهم في زَهرة شبابِهم، لكنْ بقي ذِكْرُهم أزمانًا ودهورًا إلى يومنا هذا، وقلِّب نظرك في مسارب التاريخ ترَ أسماءً لامعة، وأنجُمًا سامقة، أفلَتْ وهم في عنفوانِ أعمارِهم وشبابِهم:
سعدُ بنُ معاذٍ -سيِّدُ الأوسِ- توُفِّيَ وعمرُه ثلاثٌ وثلاثونَ سنةً، ولكنه رحل بعد أن قدَّم أعمالاً كثيرة جليلة للإسلام تُذْكر فتشكر.
عمرُ بنُ عبدِ العزيز، الإمامُ العادلُ الزَّاهدُ، ومن مِنَّا يَجهلُ ابن عبد العزيز؟! توفِّي ولَما يبلغِ الأربعين.
عملاقُ النَّحوِ سِيْبَويه، توفِّيَ وعمرُه ثلاثٌ وثلاثون.
وماتَ النوويُّ وهو ابنُ أربعٍ وأربعينَ، ولكنْ كتَب اللهُ لمؤلَّفاتِه من القبولِ والخلودِ ما جَعَلَ ذِكْره يُسطَّر في كل زمان ومكان.
فالناس شهداء الله في أرضه، نعم، سيشهدُ العبادُ بالخيرِ، لِمن كان في دنياه من أهلِ الخير.
الشهادةُ بالخيرِ تُزَفُّ لِمن كان في دنياه من عُمَّارِ المساجدِ، المذكورين بالصَّلاحِ والدعوةِ والإصلاحِ.
الذِكْرُ الطَّيِّبُ هو لمن رحل عن هذه الدار بعد أن أسَّس بيتًا من التَّقوى، وخلف وراءه أثرًا له؛ من صدقة جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له.
الشهادة بالخير مستحَقَّة لرجالٍ سَنُّوا في الإسلام سُنَّة حسنة، فكان لَهم أجرها، وأجْرُ من عمل بِها إلى يوم القيامة.
السمعةُ الحسنةُ جَديرٌ بها من نشأ في طاعة الله، وتربَّى في بيوت الله، مع كتاب الله؛ حفظًا وتلاوة وتدبُّرًا.
الشهادةُ بالخيرِ يستحِقُّها مَن أحبته المجالس، وانفهقت له الأرواح؛ لأنه قد خالَق الناس بخُلق حسن، فعاش سعيدًا، ومات حميدًا.
الصِّيْتُ الطَّيِّبُ قَمِنٌ بهِ من كان عفيفَ اللِّسان، سمْحَ النفس، دَمِثَ المعاملة، قد سلم المسلمون من لسانه ويده.
الذكرُ الحسنُ يَسْعَدُ به من وصلَ الأرحام، وأطابَ الكلام، وأطعمَ الطَّعام، وصلَّى بالليلِ والناسُ نيام.
الشهادةُ بالخيرِ تزف لمن عاش مع حوائج الناس فكان نفَعًا للناس بعلمه وماله وجاهه.
فإن كنت -يا عبد الله- من هذا الصِّنف، فاستمسك بما أنت عليه، وأبشرْ بثناءٍ يَبقى لك، والناس شهداء الله في أرضه.
فَارْفَعْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ ذِكْرَهَا *** فَالذِّكْرُ لِلإِنْسَانِ عُمْرٌ ثَانِ
قلت ما قد سمعتم وأستغفر الله فاستغفروه...
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فيا إخوة الإيمان: ومن علاماتِ الشَّقاء، والنَّكَدِ والبلاء، أن يَرحلَ العبد من دنياه، فتُشيِّعه شهادات الناس له بالسوءِ والذَّمِ؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "ومن أثنيتم عليه شرًّا وجبت له النار".
من يُثنَى عليهم شرًّا -نعوذ بالله منهم- هم الذين غلبَتْ عليهم شقوتُهم، وأحاطت بهم خطيئتهم، وهم أصنافٌ شتَّى، تفرَّقت فعالهم، وتلوَّنت قبائحهم.
الشهادة بالشر، ستلاحق المُجرمينَ، الذين يعيثون في الأرضِ فسادًا؛ قتلاً للآمِنين، وترويعًا للمؤمنين.
الثناء بالشر ينتظر كلَّ مستبِدٍّ وطاغية، ظلَم العباد، وأفسد البلاد، وللخزائن أباد.
الشهادةُ بالسُّوء، ملتصقة بكلِّ صاحب سوء، يأمر بالمنكر ويَنهى عن المعروف، يشمئِزُّ إذا ذُكِر الله وحده، ويستبشر إذا ذُكِر الذين مِن دونه.
الشهادة بالشر، ستطوِّق الذين ظَلموا أنفسهم، فانتهكوا حدود الله، وتلصَّصوا على مَحارم الله.
الشهادة بالشر، ستُكتب على دهاقنة الإفساد، الذين أَمطروا الأمَّة بوابلٍ من المناظر الشَّهوانية، والعفونات الفكريَّة.
وهي لأولئك المستهترين المستَخفين، الذين جعلوا مشروعَهم النَّيلَ من ثوابتِ الأمَّةِ، والتعدِّي على أحكامِ الشرعِ والشريعة.
وهي لأولئك الذين كان هَمُّهم وهِمَّتُهم إفسادَ المرأة المسْلِمة، والزجَّ بِها في مَجامع الرِّجال.
وهي لأولئك الذين يريدون أن يَميلوا بالمؤمنين والمؤمنات ميلاً عظيمًا.
إلى هؤلاء كلهم يُقال: اعتبروا بالتاريخ، واقرؤوا سِيَر مَن غبَر، فماذا كتب التاريخ عن دُعاة الضَّلالة؟! وماذا نطق عن صناديد الإفساد؟! هل بقي أثرهم حميدًا؟! وهل ظلَّت سيرتُهم مثلاً؟!
فإلى كلِّ مفسد يحب الفساد ويسعى لتطبيعه: قل ما شئت، واصنع ما شِئت، ولكن تذكَّرْ أنَّ عليك كرامًا كاتبين، يعلمونَ ما تفعلون: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) [يس:12].
تذكَّرْ أن التَّاريخَ لا يَرحم، وأنَّ سُوءَك وسَوْءاتِك ستَبقى مُدوَّنة، ولن تُسامِحَك الأجيال القادمة، وستَذْكرك، ولكن ستذكرك بِمخازيك ومساويك، وسيُقال عنك: عامَلَه الله بما يستحق، أو يُقال: لا رحِمَه الله.
فكم رحل من هذه الدار، مِن طاغية وجبَّار، وأشرار وفُجَّار، فشيَّعتْهم دعواتُ الناس عليهم، وراحةُ العباد منهم! (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ) [الدخان"29]، والعبدُ الفاجرُ يَستريحُ منه العبادُ والبلاد، والشجر والدوابُّ، قالها المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
وأخيرًا -إخوة الإيمان- الكلُّ سيَمضي من هذه الدار، والكل ستذكره ألسنة الخلْق، إما خيرًا أو شرًّا، فلْيَختر كلُّ امرئٍ من أي الفريقين سيكون؟! وإلى أيِّ الطريقين يسير؟! هذه حقيقة فلا نُعمي البصرَ والبصيرة عنها.
سترحل -يا عبد الله- فكن ممن يستريح، ولا تكن ممن يُستراح منه.
تذكر -يا من يسعى- لِيُذكر في دنياه بجاهه، أو شهرته، أو ثرائه، أنَّ الشأن هو في الذِّكر بعد الرحيل، وهل سيقال عنك: فلان فقيد؟! أم فلان موته عيد؟! (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت: 46].
سل نفسك -يا عبد الله-: هل سأغادر هذه الدار وقد شيَّعتْني الدموع والدعوات؟! أم سأرحل فلا أسف عليَّ ولا حسرات؟!
هذه أسئلة، والإجابة تَملكها أنت بعملك وسعيك، والموعد يوم الجنائز، والمقياس يوم تبلى السرائر: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) [الإسراء: 19].
اللهم زيِّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.
اللهم واجعل لنا لسان صدق في الآخرين، ولا تُخزنا يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
التعليقات