عناصر الخطبة
1/أهمية الدعاء والمناجاة 2/فضل مناداة الله والتضرع إليه 3/صور من أدعية الأنبياء والصالحين 4/الدعاء هو العبادة.اقتباس
مَن ظُلم في نفسه، وأُوذي في عِرْضه، وشُوِّهت سُمعته فليدعُ ربَّه.. ادعوا على كل مَن يريد ويسعى لإفساد عقيدة هذه البلاد، أو تشويه دينها أو العبث بأمنها، على كل مَن آذى المسلمين في دينهم واستقامتهم، فإن الله لا يحب المفسدين، ولا يصلح عمل المفسدين. ادعوا ولا تملوا، ولا تستيئسوا فإن الدعاء هو العبادة.
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله على ما أولى وهدى، وأشكره على ما وهب وأعطى، لا إله إلا هو العلي الأعلى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المصطفى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولي النهى والتقى والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون، وادعوا ربكم في الرخاء والشدة والعسر واليسر..
إذا لم يكن عون من الله للفتى *** فأول ما يجني عليه اجتهاده
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه-، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: "اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ"، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ)[الأنفال:9].
هذا النبي الكريم مُؤيَّد من عند الله ومنصور، ومع ذلك يُناشد ربه ويتضرع ويستكين، فما يكون حالنا نحن المساكين المجاهيل الضعفاء عن الدعاء وطلب العون من رب الأرض والسماء.
إنَّ مناداة الله والتضرع إليه والاستكانة بين يديه سُنَّة المرسلين وعمل الصاحين (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ)[هود:45]، (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)[الأنبياء:89]، (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)[الأنبياء:87]. لا بد من الدعاء والخضوع والاستكانة والتضرع والإلحاح.
قال عَبْدُ اللهِ بْن عَمْرو -رضي الله عنه-: رفع النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: يَدَيْهِ وَقَالَ: "اللهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي"، وَبَكَى، فَقَالَ اللهُ: "يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ، وَلَا نَسُوءُكَ"(أخرجه مسلم).
قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: "كَانَ أَيُّوبَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ شَيْءٌ كَثِيرٌ وَأَوْلَادٌ كَثِيرَةٌ وَمَنَازِلُ مَرْضِيَّةٌ، فَابْتُلِيَ في ذلك كله، وذهب عن آخره. وَقَدْ مَكَثَ فِي الْبَلَاءِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ، فمر به رجلان فقال أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: تَعَلَّمْ وَاللَّهِ لَقَدْ أَذْنَبَ أَيُّوبُ ذَنْبًا مَا أَذَنَبَهُ أَحَدٌ مِن الْعَالَمِينَ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: مُنْذُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَرْحَمْهُ اللَّهُ فَيَكْشِفَ مَا بِهِ، فَقَالَ أَيُّوبُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: مَا أَدْرِي مَا تَقُولُ غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ -عزَّ وجلَّ- يَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَمُرُّ عَلَى الرَّجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فَيَذْكُرَانِ اللَّهَ، فَأَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي فَأُكَفِّرُ عَنْهُمَا؛ كَرَاهِيَةَ أَنْ يذكرا الله إلا في حق. فرفع أيوب يديه إلى ربه فقال: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، فقال الله (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)[الأنبياء: 83-84].
روى أَبو هُرَيْرَةَ عَن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لما عَافَى اللَّهُ أَيُّوبَ أَمْطَرَ عليه جراداً من ذهب، فجعل يأخذ منه بِيَدِهِ وَيَجْعَلُهُ فِي ثَوْبِهِ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: يَا أَيُّوبُ أَمَا تَشْبَعُ؟ قَالَ: يَا رَبِّ ومن يشبع من رحمتك".
(وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)؛ أَيْ وَجَعَلْنَاهُ فِي ذَلِكَ قُدْوَةً؛ لِئَلَّا يَظُنَّ أَهْلُ الْبَلَاءِ أَنَّمَا فَعَلْنَا بِهِمْ ذَلِكَ لِهَوَانِهِمْ عَلَيْنَا، وَلِيَتَأَسَّوْا بِهِ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَقْدُورَاتِ اللَّهِ، وَابْتِلَائِهِ لِعِبَادِهِ بِمَا يَشَاءُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ فِي ذَلِكَ.
يا أيها الناس: مَن ظُلم في نفسه، وأُوذي في عِرْضه، وشُوِّهت سُمعته فليدعُ ربَّه.. في صحيح البخاري لما قام أسامة بن قتادة من أهل الكوفة يسيء إلى سعد بن أبي وقاص ويرفع الشكاية ضده إلى عمر بأنه يجور ولا يُحسن أن يصلي .. فرفع سعدُ يديه إلى الملك العدل مَن يعلم السر وأخفى؛ فقال: "اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا، فَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ لِلفِتَنِ"، فاستجاب الله له ونصره، فدارت عليه الأيام، فطال عمره حتى سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الكِبَرِ، وافتُتِنَ حتى إِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ.
من ظُلم في ماله وأُخذ حقه فليرفع شكايته إلى ربّه، عن هشام بن عروة أن أروى خاصمت سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ فِي بَعْضِ دَارِهِ، فَقَالَ سعيد بن زيد: دَعُوهَا وَإِيَّاهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ: "مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ، طُوِّقَهُ فِي سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، اللهُمَّ، إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَأَعْمِ بَصَرَهَا، وَاجْعَلْ قَبْرَهَا فِي دَارِهَا، قَالَ هشام: "فَرَأَيْتُهَا عَمْيَاءَ تَلْتَمِسُ الْجُدُرَ تَقُولُ: أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، فَبَيْنَمَا هِيَ تَمْشِي فِي الدَّارِ مَرَّتْ عَلَى بِئْرٍ فِي الدَّارِ، فَوَقَعَتْ فِيهَا، فَكَانَتْ قَبْرَهَا"(متفق عليه).
من أجدبت أرضُه وعطِش بستانُه فلْيستسقِ ربه.. قال ثابت البناني -عليه رحمة الله-: جَاءَ قَيِّمُ أَرْضِ أَنَسٍ فَقَالَ: عَطِشَتْ أَرَضُكَ يا صاحبُ رسولَ الله، فَتَرَدَّى أَنَسٌ بُرْدَته، فخَرَجَ إِلَى الْبَرِيَّةِ، ثُمَّ صَلَّى وَدَعَا، فَثَارَتْ سَحَابَةٌ وَغَشَتْ أَرْضَهُ وَمَطَرَتْ حَتَّى مَلأَتْ صِهْرِيْجَهُ، وَذَلِكَ فِي الصَّيْفِ، فَأَرْسَلَ بَعْضَ أَهْلِهِ فَقَالَ: انْظُرْ أَيْنَ بَلَغَتْ، فَإِذَا هِيَ لَمْ تَعْدُ أَرْضَهُ إِلا يَسِيرًا.
لا تستهينوا في الدعاء، وأكْثِرُوا من الإلحاح في الشدة والرخاء، فإن شأنه عظيم (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)[النمل:82].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات؛ فاستغفروه، إن ربي رحيم ودود.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وسمع الله لمن دعا، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله المصطفى وعلى آله وصحبه ومن اقتفى.
أما بعد: يا أيها المؤمنون (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)[الأعراف:55]، ادعوا لأنفسكم ولأولادكم وذرياتكم ولأُمتكم.
ادعوا على كل مَن يريد ويسعى لإفساد عقيدة هذه البلاد، أو تشويه دينها أو العبث بأمنها، على كل مَن آذى المسلمين في دينهم واستقامتهم، فإن الله لا يحب المفسدين، ولا يصلح عمل المفسدين.
ادعوا ولا تملوا، ولا تستيئسوا فإن الدعاء هو العبادة.
سهامُ الليل لا تخطي ولكن *** لها أمد وللأمد انقضاءُ
فيمسكها إذا ما شاء ربي *** ويرسلها إذا نفذ القضاء
عباد ليل إذا جنّ الظلام بهم *** كم عابد دمعه في الخد أجراه
الدعاء في كل وقت وحين، ليس خاصًّا بالأسحارِ أو رمضان، لا تدرون "لعلكم تُوَافِقُون مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ"؛ لا ناصر لنا ولا معين إلا الله .. لا يدفع الضر ولا يرفع البلاء والغلاء إلا الله.
من أخلص لله في الدعاء ظفر بمراده, وانتصر على أعدائه.
ارجع إلى الله واقصد بابه كرمًا *** والله والله لا تلقى سوى الله
اللهم اهدِ قلوبنا، واهدِ ضالّنا، وأصلح ولاة أمرنا، وانصر المرابطين في سبيلك على حدودنا، اللهم مَن آذى عبادك الصالحين وشوَّه الدِّين فأبطل كيده وافضح أمره واكفِ المسلمين شرّه.
التعليقات