عناصر الخطبة
1/ البحث عن السعادة 2/ مفهوم السعادة 3/ إدراك السعادة في ظلال العبادة 4/ أسباب سعادة المؤمنين العُبَّاد 5/ سُبُلُ السعادةِاهداف الخطبة
اقتباس
وأما الروح فنفخة من الملَك؛ ولذلك فإن سعادتها تكون عن طريق الملَك، ومن طريقه جاء الوحي عن الله -تعالى-، فسعادتها بامتثال الدين الحق الذي شرعه الله -تعالى-، قال -تعالى-: (فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ) [الأنعام:125].
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، أحمده على نعم تترا، وآلاء لا أدرك لها حصرا، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة صدق تنجي صاحبها يوم الحق، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله رحمة للعالمين، ومناراً للسالكين، وحجة على خلقه أجمعين، صلوات ربي وسلامه عليه، ما تعاقب الملوان، واستمر الجديدان، وعلى آله وأصحابه وأزواجه، ومن انتهج هديه، واقتفى سعيه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، في أول أمركم ومنتهاه؛ فبتقوى الله صلاح دنيا المرء وأخراه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102]
أيها الناس: هناك ناس كثيرون ما زالوا يبحثون -وسيبقون باحثين- عنها حتى يصلوا إليها إن قُدِّر لهم ذلك؛ لأنها مطلب حياتي لا تحلو الحياة إلا بها، نعم، ظلوا واستمروا يبحثون عن السعادة وعن الراحة؛ علهم يلقون في ظلالها الاطمئنان والأمان.
يقول كثير من الناس: إنهم غير سعداء، يعيشون حياة مغمورة بالكدر والضنك والحزن والهم، والقلق والوحشة، لا ابتهاج ولا سرور، ولا ارتياح ولا نعيم، ظلام دامس، في نهار شامس، وضيق خانق، في وسع مترامٍ باسق، يطول الزمان دون الوصول إلى الأماني وشواطئ الراحة، حتى تمنوا الموت، وما وصلوا إلى هذه الحال إلا من آثار هذا الشعور.
بحثوا عن السعادة في المال فلم يجدوها فيه، بل كان سبب شقائهم وتعاستهم لما وجدوه، ماذا حصّل قارون من ماله الوافر غير الهلاك؟! قال -تعالى-: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) [القصص:76]، ثم كانت النهاية: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ) [القصص:81].
بحثوا عنها في الجاه والتسلط على رقاب الآخرين، فوجدوا الشقاء، وما وجدوا الحياة الطيبة! هل سعد فرعون وقد قال: (يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الزخرف:51]؟! ألم يكن هذا الماء الذي افتخر به قبراً له ولجبروته؟! قال -تعالى-: (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَّا تَخَافُ دَرَكاً وَلَا تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ) [طه:77-78].
بحثوا عنها بكثرة الأولاد والذرية، فماذا وجدوا؟ ماذا استفاد أبو لهب منهم، وقد تباهى بهم! لم يجد أحداً منهم يتولى دفنه وإراحة الناس من جيفته عندما مات، قال -تعالى-: (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) [المسد:2].
بحثوا عنها في الشهرة بالفن أو الجمال أو القوة، أو غير ذلك، فما وجدوها. فأين تكمن السعادة وأين نراها يا عباد الله؟ ما هي السعادة؟ وماذا تعني الحياة الطيبة؟.
إن السعادة هي: راحة القلب، وطمأنينة النفس، وانشراح الصدر، وهدوء البال. فأين نجد هذه النِّعم؟ أنجدها في سوق أم في ملعب أم في بيت أم في أغنية أم في وظيفة أم في زواج أم في سفر؟.
أيها المسلمون: إن الله -تعالى- خلق الإنسان من جسد وروح، فأما الجسد فمخلوق من شيء محسوس وهو التراب؛ لذلك فسعادته تحصل عن طريق الأمور المحسوسة فيسعد سمعه بالمسموعات، وبصره بالمرئيات، وبطنه بالمأكولات والمشروبات، وهكذا.
وأما الروح فنفخة من الملَك؛ ولذلك فإن سعادتها تكون عن طريق الملَك، ومن طريقه جاء الوحي عن الله -تعالى-، فسعادتها بامتثال الدين الحق الذي شرعه الله -تعالى-، قال -تعالى-: (فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ) [الأنعام:125].
فمن هذه الآية تظهر أولى منارات طريق السعادة وأول علَم من أعلام سبيلها، ألا وهو الإسلام الذي به صلاح الروح وسعادتها، فإذا سعدت الروح سعد الجسد وإن قل نصيبه من الأشياء الحسية من طعام أو شراب أو كساء أو نكاح، وإن شقيت الروح شقي الجسد ولو زاد نصيبه من تلك الشهوات؛ لأن الجسد تابع للروح لا العكس.
ولذلك نجد مِن الكفار مَن عندهم ترف ورفاهية في هذه الحياة لكنهم لا يجدون السعادة، بل ربما يحملهم ضيق الروح وتعاستها على الانتحار.
أجريت مسابقة في بريطانيا مضمونها إجابة لسؤال يقول: ما المال؟ ما مفهومه وتعريفه؟ فكان الجواب الفائز: إن المال جواز سفر يذهب به الإنسان إلى كل بلد، ويحصل منه ما يريد، غير أنه لا يستطيع أن يجلب به السعادة!.
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته *** أتعبت جسمك فيما فيه خسرانُ
أقبِلْ على الروح واستكمل فضائلها *** فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
أيها المسلمون: كلما ارتقى المسلم في سلم الإيمان زادت راحته وأقبلت سعادته، وكلما أسرف على نفسه بالمعاصي والذنوب جلب لنفسه الشقاء.
والعجب ممن يحيون هذه الحياة الضنك ثم تراهم على معصية الله كشرب الخمر والمخدرات وسماع الغناء، فينصح في ترك ذلك المحرم، فيقول: أريد أن أسلي على نفسي! وما يدري هذا المسكين أن ما يفعله سبب لزيادة عنائه وشقائه!.
والمستجير بعمرٍو عند كربته *** كالمستجير من الرمضاء بالنارِ
فالمؤمن الطائع المنيب يحيا حياة طيبة ملؤها السرور والبهجة، يقول الله -تعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [النحل:97].
ما أحسن عيش المؤمن وما أطيبه! يحيا في جنة وارفة الظلال، يشتمّ عبيرها ويشرب العذب من نميرها، ويقول: لو كان أهل الجنة على هذا العيش لكفاهم!.
يطعم الراحة على اختلاف جهاتها، ويشعر بلذائذها وهنائها: راحة قلب، وطمأنينة تفس، وانشراح صدر، وهدوء بال.
إنْ تقربَ إلى الله بعبادة أحس بلذتها، وتمنى لو بقي عليها ما بقي الدهر؛ قال أبو سليمان الداراني: "أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل لما أحببت البقاء في الدنيا".
ينسون -وهم غارقون في لذة العبادة- آلام الجسد، وتعب الجسم، فهذا عباد بن بشر -رضي الله عنه- يقف في ثغور المسلمين حارساً، فحينما أحس بالهدوء رصّ قدميه بين يدي الله قائماً متهجداً فيرميه أحد الأعداء بسهم فيتصبب دمه وهو في لذة القيام يقول: "لولا أن العدو يطلع من المسلمين على عورة لتابعت الصلاة!".
إن المؤمن -ولو كان فقيراً معدماً وعنده نعمة الإيمان- يجد لذة لطعامه ولو كان قليلاً؛ لأن الطعام عنده وسيلة للتقوِّي على العبادة، وليس هدفاً يعيش له، فقد كان بعض الصالحين يعيش على كِسَر من الخبز يتقوت بها، لكن لذة الإيمان حملته على أن يقول: "إنا لفي عيش رغيد! لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف!".
فالمؤمن إن ضاق عيشه وقُدِر عليه رزقه يحمله إيمانه على القناعة والرضا بما قسم الله له؛ ولذلك يجد السعادة بذلك، وإلا؛ فلا سعادة بالعُدم. عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه" رواه مسلم.
وإن المؤمن إن أصابته مصيبة أو نزلت به ملمة تلقاها بالرضا والصبر، لا بالجزع والضجر؛ فيجد السعادة بذلك. عن صهيب بن سنان: قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له" رواه مسلم.
قال عمر بن عبد العزيز: "ما بقي لي سرور إلا في مواقع القدر". وقيل له: ما تشتهي؟ فقال: "ما يقضي الله -عز وجل-". وقال عبد الواحد بن زيد: "الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين".
وإن أصابت المؤمنَ نعمةٌ شكرها ولم يبطر بها، فيتنعم في ظلالها، ويبارك الله له فيها، بخلاف غيره ممن إذا نزلت عليه نعمة بَطِرَ بها، وانحرفت بأخلاقه وسلوكه، وإن أصيب بمكروه نزل عليه القلق والأحزان والأمراض النفسية والفكرية.
عباد الله: إن ذكر الله -تعالى- قولاً وفعلاً- من صلاة، أو قراءة قرآن، أو ذكر لساني مطلق أو مقيد يجلب السعادة، فينشرح الصدر ويطمئن القلب، قال -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28].
لا شيء أحلى وألذ من ذكر الله عند المؤمنين؛ إذ هو محبوبهم وموئل راحتهم، وعلى قدر المعرفة والعلم بالله يكون ذكر العبد لربه، وتنعمه به.
وأما المعرضون عن ذكر الله فهم في شقاء وضنك وقلق وحيرة، قال -تعالى-: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه:124]، وقال: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف:36].
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت" رواه البخاري. قال رجل للحسن البصري: "أشكو إليك قسوة قلبي! قال: أذبه بذكر الله".
أيها الناس: إن أمامنا باباً مفتوحاً للسعادة والحياة الطيبة، فما بالنا معرضين عنه لا نطرقه؟! إنه باب الدعاء، فهو سلاح فاتك أمام الشقاء والعناء، لا يخيب حامله، ولا يقهر رافعه، يستدفع به البلاء قبل نزوله، ويرفع به بعد حلوله، لا مكان للهم والغم والحزن مع الدعاء. كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول عند الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم" متفق عليه.
بل كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلم أصحابه هذا الدواء فتقول أسماء بنت عميس -رضي الله عنها-: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أعلمك كلمات تقولينهن عند الكرب أو في الكرب: الله الله ربي لا أشرك به شيئا" رواه أبو داود وابن ماجة.
وهذه كلمات إيمان وتوحيد، وإخلاص وبعدٍ عن الشرك كله، قال ابن القيم: التوحيد مفزع أعدائه وأوليائه، فأما أعداؤه فينجيهم من كرب الدنيا وشدائدها، قال -تعالى-: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت:65]، وأما أولياؤه فينجيهم من كربات الدنيا والآخرة وشدائدها؛ ولذلك فزع إليه يونس فأنجاه الله من تلك الظلمات، قال -تعالى-: (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء:87]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين؛ فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له" رواه الترمذي والنسائي.
وروى الإمام أحمد وابن حبان عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما قال عبدٌ قط إذا أصابه هم أو حزن: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب همي؛ إلا أذهب الله همه، وأبدله مكان حزنه فرحاً" قالوا: يا رسول الله، ينبغي لنا أن نتعلم هذه الكلمات، قال: "أجل، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن".
ألا -يا عباد الله-: الدعاءَ الدعاءَ! وإياكم واغلاقَ هذا الباب! فإذا دخلتموه فلا تستحسروا، ادعوا الله بهذه الدعوات، وادعوا الله بكشف أعيان ما يهمكم ويغمكم، فالموفق من وفق للدعاء، والمخذول من حُرِم طرقَ هذا الباب.
أيها المسلمون: طوبى لعباد الله المخلصين القانتين، فما أحسن عيشهم! وأروح حياتهم! يجدون في العبادة جنة الدنيا وحلاوتها، ويتلذذون بالمناجاة والطاعة أعظم من تلذذ العاصين بالشهوات، كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إذا حزبه أمرٌ لجأ إلى الصلاة"، وكان يقول لبلال: "أرحنا بها يا بلال"، وما أجمل وألذ زمانهم وهم بين أحضان السحَر ناصبين لأقدامهم قياماً راكعين ساجدين داعين تالين! (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [الزمر:9].
إذا ما الليل أظلم كابدوه *** فيسفر عنهمُ وهُمُ ركوعُ
أطار الخوف نومهمُ فقاموا *** وأهل الأمن في الدنيا هجوع
قال ابن المنكدر: "ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، وصلاة الجماعة".
فلو جالست هؤلاء وحرصت على مرافقتهم وأنت كئيب حزين سلَّوك وآنسوك بعد ثقل الأحزان ووحشتها، وهدوك إلى طريق السعادة والراحة بعد ضلال الهموم وشدتها، ولا سيما إن كانوا على علم بشرع الله ودينه؛ لأن العلم سعادة وإسعاد: سعادة للنفس، وراحة للبال والعقل، وسبب أصيل لجلب الراحة والاطمئنان للإنسان وللآخرين.
معشر المسلمين: شقي الظالمون -والله- وما سعدوا، وما وجدوا الراحة ولا طعموا. كيف يسعدون وهم يتعدون على حقوق خلق الله: سفكاً أو هتكاً أو ضرباً أو نهباً؟! فما أشقى الظالم وأتعسه، وأرداه وأبأسه!.
ألا وإن من الظلم -يا عباد الله- الحقد على الآخرين وحسدهم، فقد تعتصر قلوب بعض الناس كرهاً وبغضاً على أناس لا يستوجبون الكره، في أشياء لا تستحق البغض! فيظل الحقود في ليل بهيم من الكآبة والضيق، لا يرى راحة ونوراً إلا بمصيبة تنزل على من يكرهه بفعله أو بفعل غيره! أفبهذا أمر الإسلام؟ أم لهذا دعا الخلق الكريم المبني على سلامة الصدر للآخرين، والعفو عنهم، وإرادة الخير لهم؟!.
وقد يحمله حقده إلى حسد من يكره، متمنياً زوال نعمة ينعم بها، ومن العجب أن محسوده في نعماء، وهو في شقاء، عينه أو سمعه في نعيم، ولكن قلبه وصدره في جحيم.
فمن أراد السعادة -يا عباد الله- فليترك الظلم والحقد والحسد؛ فإنها مغارم لا مغانم، ووصائل داء لا أسباب شفاء.
إن الفرق شاسع، والبون واسع، بين صاحب تلك الأدواء الماضية: الظلم والحقد والحسد، وبين من يحسن إلى الناس، بل إلى كل خلق الله ناطقه وبهيمه، يبذل المعروف وينجد الملهوف، يحنو على الضعيف ويعطف على الأرملة واليتيم والمسكين، يفرج كُرَبَ المكروبين، ويقضي الدين عن المدينين، ويساعد المحتاجين والسائلين، إن وجد خيراً أعان عليه، وإن وجد شراً نأى عنه وحذّر منه، يعيش همَّ الجماعة لا همَّ نفسه، عظيم الإحساس بالآخرين، سليما من الإيذاء لهم، كثير التعاون معهم، لم يقتصر إحسانه على أفراد جنسه، بل يعطف على الحيوان ويحسن إليه ويمد يده لبذل الخير له، حتى الشجر لم يقطعه لغير الحاجة، فإن رأى منه ما يؤذي طريق الآخرين أزاله ونحاه.
إن هذا الإنسان الخيّر ليحيا في بحبوحة من العيش بإحسانه وبذله الخير بين الخلق، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على مُعْسِرٍ يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" رواه مسلم. وقال -عليه الصلاة والسلام-: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء" رواه الطبراني وهو حسن.
إخوتي الكرام: إن الفراغ يصنع المشكلات، ويخلق الأزمات، ومن أعظم مشكلاته: جلب الهموم والأحزان، والقلق والأكدار؛ وإن الانشغال بالعمل المباح المحبوب للنفس مشغلة عن ذلك، ومسلاة عما يطرأ منه، وملهاة عن كتائب الأمراض النفسية التي تعشعش في قلوب الفارغين وعقولهم.
ولهذا حث الإسلام على العمل، ونبذ الفراغ والكسل، سواء كان هذا العمل جسدياً أم ذهنياً؛ فإنه يقضي على الفراغ القاتل الذي يولِّد الكآبة والغم.
ويكفي المنشغلَ بعمل من الأعمال أن يذهب عن نفسه أمراض الفراغ، وأن يقوت نفسه ومن يعول، فإن رأى من هو أعلى منه في الدنيا فلا يحزن ولا يهتم، بل ينظر إلى من هو أدنى منه؛ لئلا يزدري نعمة الله عليه، فإن مَن نظر إلى من هو فوقه في الدنيا بعين التطلع إلى نيل ما نال، ولم يكن عنده نصيب من الإيمان بالقضاء والقدر، ومعرفة تقلبات الدنيا، ومعرفة الحياة الحقيقية، فإنه سيعيش في شقاء وهم وغم.
وليكن المرء المسلم -عباد الله- ابن يومه الحاضر، لا يحزن على أمسه الفائت، ولا يهتم اهتماماً مضراً بغده الآتي.
ما فات مات والمؤمل غيبٌ *** ولك اليوم الذي أنت فيه
ولأجل هذا استعاذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الهم والحزن؛ لعظم جنايتهما على سعادة الإنسان وراحته. والهمّ يكون على المستقبل، والحزن على الماضي. وما أصدقَ لسان الشافعي يوم قال منشرحَ الصدر:
إذا ما كان عندي قوتُ يومي *** طرحتُ الهمَّ عني يا سعيدُ
ولم تخطر هموم غدٍ ببالي *** فإن غداً له رزق جديد
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى.
أما بعد: عباد الله، إن الناظر إلى حياة أسلافنا الصالحين ليرى أنهم كانوا يعيشون في سعادة وطيب حياة، لا يكدرها الهم، ولا ينقصها الحزن، وكثير من الناس في هذه الأيام غارق في القلق والهموم والأحزان والأمراض النفسية، ففتحت لأجلها مَشَافٍ وعيادات خاصة، وما كان أولئك السعداء السابقون بأحسن دنيا منا بوسائلها الحديثة، وأنظمتها السريعة، وسهولة لقمة العيش، فنحن اليوم في عصر التكنولوجيا الحديثة التي قربت البعيد، وأنطقت الحديد، وسهل الله بها كثيراً مما صعب على من قبلنا، فلماذا ضاق عيشنا أكثر منهم، وتكدرت حياتنا، ورغدت حياتهم؟!.
إن من وراء ذلك أنهم عاشوا مؤمنين بالله وقضائه وقدره، واكتفوا من عيشهم بما قُسم لهم، وعملوا ولم يعرفوا فراغ حضارتنا الحديثة، وحيوا متحابين متآلفين، معتزين بهذا الدين، حاملين له ومبلغين غيرهم، ومدافعين عنه أعداءهم بالجهاد في سبيل الله -تعالى-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بالجهاد في سبيل الله -تبارك وتعالى-؛ فإنه باب من أبواب الجنة يذهب الله به الهم والغم" رواه أحمد وابن حبان.
عباد الله: لا يمكن أن يعيش الإنسان في هذه الحياة دون أن يمرّ به يوم شرور، كما مرَّ به يوم سرور، لكن ما يميز المؤمنَ أنه يعرف طبيعة هذه الدنيا: بأنه لا راحةَ تامةً، ولا سعادة مكتملة فيها، فهي سجن في حقيقتها عما ينتظره في دار البقاء، ويصيب الكافرَ من الشقاء والعناء أعظم مما يصيب المؤمن، وإن رئي بين الناس أنه في نعيم، لكن ذلك الشقاء يعتبر جنة له أمام ما ينتظره من العذاب، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" رواه مسلم.
فلا يستريح المؤمن راحة تامة إلا بإطلاق أسره من قيد الدنيا، كما جاء في الحديث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مُرّ عليه بجنازة فقال: "مستريح ومستراح منه". قالوا: يا رسول الله، ما المستريح والمستراح منه؟ قال: "العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب" متفق عليه. فالراحة والسعادة التي لا كدر ولا حزن فيها هناك، هناك في جنة عرضها الأرض والسموات.
أيها الناس: إن أردتم السعادة والحياة الطيبة فما أقرب طريقها! ولكن؛ أين السالكون؟ فمن أراد السعادة فليلزم طاعة الله، ولينبذ معصيته، وليفهم الإسلام فهماً شمولياً، وليكن على علم وبصيرة ودراية لا يمرضها الجهل بدين الله وقلة الإيمان بالله وضعف التسليم لقدره وقضائه، ولينتزع من نفسه حزازاتها ووسائل تقاطعها مع الآخرين، وليغرس حب الآخرين وإرادة الخير لهم.
فالسعيد من انتصر على نفسه فصارت رهن أمره، والشقي من تسلطت عليه نفسه فصار رهن أمرها؛ فهذه السعادة بين حناياك كامنة، وبيدك جلبها أو دفعها، فلا تهرب من بين يديك.
يا باحثين عن السعادة إنها *** لتطل من بين النفوس وتعجبُ
أنت الذي تسطيع رسم حدودها *** ولأنت من جعل الشقاوة تغلب
هذا وصلوا وسلموا على النبي المختار، وآله الأطهار، وصحابته الأبرار...
التعليقات