اقتباس
فقد قام صلاح الدين بإغلاق الجامع الأزهر ، ونقل صلاة الجمعة إلى جامع أحمد بن طولون ، وإغلاق الأزهر جاء بصورة كاملة ، فلا جمعة ولا جماعات ، ولا تدريس ولا طلبة ، وظل الأزهر مغلقا طوال مدة الدولة الأيوبية وصدر الدولة المملوكية ولم يعاد افتتاحه إلا..
فقد قام صلاح الدين بإغلاق الجامع الأزهر ، ونقل صلاة الجمعة إلى جامع أحمد بن طولون ، وإغلاق الأزهر جاء بصورة كاملة ، فلا جمعة ولا جماعات ، ولا تدريس ولا طلبة ، وظل الأزهر مغلقا طوال مدة الدولة الأيوبية وصدر الدولة المملوكية ولم يعاد افتتاحه إلا..
تكلمنا في الجزء الأول عن طبيعة المراحل الانتقالية والتوترات التي تقع بها نتيجة الصراعات السياسية بين الساسة الجدد ، وبسبب محاولات الدولة القديمة استجماع قواها وترتيب صفوفها من أجل استرجاع مجدها البائد وحكمها الساقط ، وكلما زادت التوترات والاضطرابات في الفترات الانتقالية كلما زادت مدة هذه الفترات ، وقويت فرص الدولة القديمة للعودة مرة أخرى ، أو على الأقل بقاء النخب الحاكمة في أماكنها ومناصبها ، وبالتالي تفقد الدولة الجديدة طابعها المميز وخصوصياتها التي تختلف بها عن سابقتها .
وفي هذا الجزء سنتكلم عن أهم الجهود والإجراءات التي اتخذها صلاح الدين الأيوبي من أجل إدارة المرحلة الانتقالية بسلام وأمن حتى وصل بدولته الجديدة لمرحلة الاستقرار والثبات ومن ثم النهوض والقيام بدورها المنوط بها من جهاد العدو الأصلي ؛ الاحتلال الصليبي في الشام .
جهود صلاح الدين في إدارة المرحلة الانتقالية بعد الدولة الفاطمية
******************************************************
صلاح الدين لم يكن مجرد قائدا عسكريا فقد حقق ما لم يحققه غيره من القادة والزعماء العسكريين ، بل كان رجل دولة من الطراز الأول استطاع أن يدير المرحلة الانتقالية بكفاءة منقطعة النظير وصمد أمام المحاولات المحمومة من جانب أولياء وأنصار الدولة الفاطمية المنهارة لاستعادة ملكهم ودولتهم ، ولقد انتهج صلاح الدين عدة خطوات ومسارات متنوعة من أجل تثبت حكمه الوليد وتوطيد ملكه لقطع الطريق على محاولات استعادة الفاطميين لنفوذهم ودولتهم ، من أهم هذه الأساليب
أولا : تفكيك مراكز القوة في الدولة الفاطمية
وذلك بتفكيك مؤسسة القضاء الفاطمي ، والمؤسسة الإعلامية والتعليمية والثقافية للدولة الفاطمية ، فقد كانت مؤسسة القضاء قوية نافذة تتولى بجانب القضاء بين الناس مسألة التعليم والتدريس ، وكان لهم نفوذ كبير وواسع داخل الدولة الفاطمية خاصة في أواخر عهدها عندما ضعفت قبضة الخلفاء الفاطميين ، فقام صلاح الدين بعزل كل قضاة الشيعة الفاطمية ومن كان يسايرهم من أهل السنة ، وأعلن وقف التحاكم إلى القوانين الشيعية التي كان يتحاكم إليها المصريون جبرا من الدولة ، وقام بتعيين صدر الدين عبد الملك بن درباس المارداني الشافعي رئيسا للقضاة ، فحاول بعض قضاة الفاطميين الاعتراض والثورة وإثارة الاضطرابات ، فواجههم صلاح الدين بمنتهى الشدة فقتل بعضهم وسجن الآخرين .
أما بالنسبة للمؤسسات التربوية والثقافية والإعلامية للدولة الفاطمية ، فقد قام صلاح الدين بإغلاق الجامع الأزهر ، ونقل صلاة الجمعة إلى جامع أحمد بن طولون ، وإغلاق الأزهر جاء بصورة كاملة ، فلا جمعة ولا جماعات ، ولا تدريس ولا طلبة ، وظل الأزهر مغلقا طوال مدة الدولة الأيوبية وصدر الدولة المملوكية ولم يعاد افتتاحه إلا في عهد الظاهر بيبرس أي بعد مائة سنة من إغلاقه على يد صلاح الدين ، وبإغلاق الأزهر تم إغلاق المركز الأول لترويج الفكر الشيعي عامة والفاطمي خاصة في أنحاء العالم الإسلامي كله ,
ثانيا : بسط الأمن والأمان بين المصريين
فقد اتصف العهد الفاطمي خاصة في مرحلته الأخيرة بكثرة المفاسد وشيوع الجريمة والانحراف الأخلاقي خاصة بين قيادات الدولة ، وانتشرت السرقة جهارا نهارا وقطعت الطرق وأخيف السبيل وتوقفت حركة التجارة بين المدن والقرى بسبب غارات البدو والأعراب ، فلما تولى صلاح الدين عمل على بسط الأمن والاستقرار في البلاد ، وضرب بيد من حديد على المفسدين والمجرمين ، فأعدم الكثير منهم ونفي وسجن كل مسئول يتهم بالتربح من منصبه ، كما عمل على إقامة سوق العدل بين الناس ، وهدم سجون الدولة الفاطمية التي كانت تسجن وتعذب معارضي الدولة فيها ، وأخرج من كان معتقلا فيها بغير حق ، وبنى مكانها دارا للعدل ومدرسة للشافعية ، وجلس في دار العدل بنفسه كل يوم اثنين وخميس للاستماع إلى مظالم الناس وقضاياهم ، ليتابع بنفسه كيفية أداء القضاة لأعمالهم للتأكد على انتظام سير العدالة .
أيضا سيّر صلاح الدين حملات تأديبية لبلاد النوبة لردع الغارات التي يقوم بها ملك النوبة النصراني على حدود مصر والتي بدأها في أواخر عهد الدولة الفاطمية مستغلا حالة الصراع السياسي في مصر بين الوزراء والقادة العسكريين .
ثالثا : الاهتمام بالاقتصاد
منذ بداية الشدة المستنصرية التي وقعت بمصر سنة 450 هـ والبلاد تعاني من تدهور مستمر في الاقتصاد والتجارة والصناعة ، دفع البلاد لأزمات ومجاعات متتالية ، ثم جاءت أحداث الصراع السياسي الذي وقع بين القادة العسكريين والوزراء لتفاقم من معاناة البلاد وانهيار اقتصادياتها ، ثم جاء الغزو الصليبي من الشام وحادث حريق القاهرة ليوجه ضربة قاصمة لما تبقى من اقتصاديات البلاد ، فلما تولى صلاح الدين جعل جلّ جهده في النهوض بالاقتصاد ، وأعاد العمل في موانئ الإسكندرية ودمياط بعد تعطل الملاحة فيهما ، وقام بإصلاحات وتوسعات كبيرة فيهما ، وسمح للتجار الأجانب بالدخول والتجارة وعرض منتجاتهم ، وبنى أسواقا جديدة ، كما قام بناء عدة مستشفيات في القاهرة والإسكندرية وغيرهما ، كما قام صلاح الدين ببيع محتويات قصور الخلفاء الفاطميين وكان فيهما من التحف والكنوز والذخائر ما يفوق الوصف ويخرج عن الحصر ، وقد ذهل صلاح الدين ومن معه من كمية الذهب واللؤلؤ في القصور الملكية ، في الوقت الذي كان المصريون يعانون من قحط ومجاعة وتخلف ، فانتعشت الخزانة المصرية انتعاشا كبيرا من جراء هذا البيع .
رابعا : بناء مجتمع المعرفة
المجتمع المصري كان يعاني خلال فترة الحكم الفاطمي من غياب منظومة الثقافة والمعرفة الصحيحة ، فقد كان المصريون في حالة جهل شديد بسبب استيلاء الفاطميين على المنابر الإعلامية وفرضهم للعقائد الضالة والأفكار المنحرفة التي تتماشى مع عقيدة الدولة على الناس ، فعمل صلاح الدين على رفع المستوى العلمي للشعب المصري بمسارين متوازيين ؛ أولهما : قطع دابر الثقافة المنحرفة والعقائد الضالة للفاطميين بإحراق كل الكتب الخاصة بعقيدتهم ومنع التدريس بها نهائيا ، وعاقب المخالف أشد المعاقبة ، وقام بحصر المكتبات الضخمة الموجودة في القصور الملكية والتي كانت تحوى درر الكتب من كل فن وعلم ، فانتخب النافع منها وأحرزه ، وأعدم الضار منها وأحرقه . ثانيهما : توسع في بناء المدارس والكتاتيب لتعليم الكبار والصغار ووضع لها نظاما دراسيا متقدما ، ووصل به الاهتمام بالعقيدة لئن يأمر المؤذنون كل ليلة في السحر من على منارات المساجد بمتن من متون العقيدة حتى يحفظها الناس من كثرة التكرار ، ويقضي تماما على أثر العقيدة الفاطمية . أيضا قام صلاح الدين الأيوبي بوقف سائر الاحتفالات البدعية ، وقصر الاحتفال على الأعياد الإسلامية المعروفة .
خامسا : استعمال الأكفاء وذوي الصلاح في أعمال الدولة
فقد كان أحد أهم أسباب سقوط الدولة الفاطمية هو استعمال الوزراء الفاسدين والقادة غير المؤهلين ، فتفرغوا لجمع الأموال وظلم العباد ولصراعاتهم الجانبية على النفوذ والسلطة ، أيضا توسعت الدولة الفاطمية في استعمال أهل الذمة من اليهود والنصارى في أهم المناصب ، خاصة عهد العزيز بالله الفاطمي الذي استوزر منشا اليهودي وعيسى بن نسطورس النصراني ، فنال اليهود والنصارى خلال ولايتهما عز كبير ومنافع كثيرة ، في حين تفنن الرجلان في إذلال المسلمين ، فلما تولى صلاح الدين عمل على استخدام ذوي الصلاح والكفاية والكفاءة من المصريين وغيرهم ، فقد استعمل عبد الرحيم البيساني الملقب بالقاضي الفاضل وكان بمثابة وزيره ومشيره وموضع سره وذراعه اليمنى ، واستعمل شيخ القضاة ابن درباس ، وشهاب الدين قراقوش الذي يضرب به الأمثال في الشدة والضبط والحزم ، والأمير تقي الدين بن عمر القائد العسكري الشهير ، أيضا استعمل صلاح الدين ذوي الكفاءات من أقربائه دون محاباة مثل خاله شهاب الدين الحارمي ، وأبوه نجم الدين أيوب وأخوه أبو بكر محمد العادل .
سادسا : توجيه طاقات الشعب لقضية كلية وهدف واحد
وذلك بأن شغل المصريون بقضية الجهاد في سبيل الله واستعادة المقدسات الأسيرة في الشام ، فصلاح الدين كان يعرف أن المصريين هم خير أجناد الأرض ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوصى فاتحي مصر أن يتخذوا منها جندا كثيفا ، فلما استقرت الأوضاع الداخلية في مصر ومهدت الأجواء بالقضاء على مؤامرات الدولة الفاطمية ، قرر صلاح الدين تنفيذ الوصية النبوية الشريفة بالاعتماد على الجنود المصريين في خطته الرامية لتحرير بيت المقدس وسائر البلاد المحتلة في سواحل الشام ، وابتداء من سنة 575 هـ أطلق صلاح الدين صيحة الجهاد في مصر والشام واتحدت الجبهتين المصرية والشامية لتنطلق الجيوش والأساطيل المسلمة بقيادة صلاح الدين الأيوبي في سلسلة متواصلة من الجهاد والغزو حتى فتح الله عز وجل على يديه كل هذه الفتوحات التاريخية الكبرى ، وكان لهذا الاستخدام للمصريين من جانب صلاح الدين في مشاريعه الجهادية أثر بالغ في تغيير العقلية النفسية والإيمانية للمصريين ، وتركيبة الطموحات وترتيب الأولويات لديهم ، فأصبح الجهاد وعدته هو شغلهم الشاغل وهدفهم الأسمى أن ينالوا شرف تحرير بيت المقدس ، وكان لهم دور رائع في تحقيق انتصارات حاسمة على الصليبيين ، وثبتوا وحدهم دون غيرهم مع صلاح الدين في مواطن عديدة ومواقف صعبة عسيرة .
بالجملة فإن صلاح الدين قد استطاع اجتياز هذه المرحلة الدقيقة والحساسة من حياة سائر الدول الجديدة بحنكة وعزم وبصيرة وسرعة تعاطي مع المستجدات والأحداث الراهنة ، وكان كلما وجد تهديدا صريحا تحرك بسرعة ولم يركن للهدوء ولم يدع إلى حوار أو غض الطرف عن هذه المؤامرات ، بل سرعة في التحرك وقوة في الانقضاض وحسم في المعالجة ، لذلك استطاع وأد كل الفتن في مهدها ، ولم تستطع الدولة الفاطمية العريقة صاحبة القرنين من الزمان في مصر أن تعود مرة أخرى للحياة ، وأصبحت أثرا بعد عين .
إدارة المراحل الانتقالية من منظور تاريخي ـ صلاح الدين والدولة الفاطمية نموذجا ـ ( 1 ـ 2 )
التعليقات