عناصر الخطبة
1/النوم سنة كونية 2/حال الناس والسهر 3/آفات السهر 4/من أسباب السهر 5/مقارنة بين حال الكفار وحالنا مع السهر 6/دعوة للنوم المبكراقتباس
وكان السلف -رحمهم الله تعالى- يرونه أعظم مطية إلى الجنة العلية، أما اليوم فقد أصبح الليل لدى كثير من الناس لحظات طيش وضلال عيش، وصار السهر اليوم في الأعم الأغلب منبعًا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله يعلم سرنا ونجوانا، وعلانيتنا وسرنا وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو الذي يسمعنا ويرانا وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرشدنا إلى ما فيه خيرنا ودعانا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وما كانوا على الخير أعوانا وسلم تسليما.
أما بعد: فاتقوا الله ربكم الذي لا تخفى عليه خافيه ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
سنة كونية ورحمة إلهية، حينما نسير على خطاها يستريح الفؤاد وتصح الأجساد، ويصلح حال البلاد والعباد.
سنة كونية مضمونها (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا)[الفرقان:47].
إن مننَ الله على عباده لا تُحصى، ونعمَه عليهم لا تستقصى، وإن من نعمه وآياته ومننه وأُعطياته أن جعل النوم سباتًا للناس، وجعل الليل لهم خير سكن ولباس، يقول الملك المنان في معرض الامتنان: (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا)[النبأ:9-11]، ويقول في ذكر الإنعام في سورة الأنْعَام: (وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَناً). ليلٌ تهدأ به الأنفاس، وتسكن فيه الأعضاء والحواس، وتحصل فيه الراحة والإيناس، جعله الله برحمته وفضله وقت منام ودعة وإجمام وهدوء عام، (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[القَصَص:73].
حينما كنا نسير على هدي هذه السنة والرحمة كان الليل ميدانَ سَبْق ومطيةَ مجد ومضمار صدق وجد، لا ترى فيه إلا مصليًا أو باكيًا أو تاليًا أو داعيًا أو مرابطا على ثغر أو للوطن حارسا وحاميا، وكان السلف -رحمهم الله تعالى- يرونه أعظم مطية إلى الجنة العلية، أما اليوم فقد أصبح الليل لدى كثير من الناس لحظات طيش وضلال عيش، وصار السهر اليوم في الأعم الأغلب منبعًا للمعار ومجمعًا للأخطار وطريقًا للمهالك والمضار ومسرحًا للمواد المتلفة والبرامج المحرمة، بعد أن شحنه الشيطان بأوكار حزبه وأفكار جنده. سهرٌ على الجيَف وسمرٌ على المعاطب والتلف، سهرٌ دخيل وغريب، وسمر مخيف مريب، مرتع لكل فاسق وموبوء، ومجلبة لكل شر وسوء.
حينما تخلفت هذه الفطرة صار النوم المبكر مستنكرا، وصار السهر إلى السحر مألوفا..
صرنا نرى من يتهكم بالسائرين على الفطرة السوية والسالكين خير منهاج ويشبهونهم بالدجاج..
صرنا لا نستغرب حينما نستيقظ فجرا أن نرى مشاركات لدعاة وأفاضل في مواقع التواصل كتبت في الهزيز الأخير من الليل..
حينما تركنا هدي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وقعنا في آفة السهر وصرنا نرى الليل وقد تحول إلى نهار، وأسراب الغادين والرائحين لا يوقفها إلا بزوغ الشمس..
صرنا نرى حفلات الزواج تتواصل ولا يوقف ضجيجها وصخبها ألا الفجر وربما مع انبلاج الصبح..
صرنا نرى قوافل الشباب والفتيات تسرح وتمرح في ساعات السهر في المقاهي والمطاعم..
صرنا نرى الاستراحات تعج بروادها في سهر وسمر ضاعت معه الصلوات وارتكبت الشهوات..
صار السهر الطويل اليوم ثقافة وعادة، صار هذا المنكر معروفا ومألوفا، بل صار من يجافيه منكرا وثقيلا..
لقد ألفت الأمة السهر فكان نتاجه تضييعا للصلوات ووقوعا في الشهوات، وإهدارا للحقوق والواجبات، وتشتيتا للأسر والبيوت، وإهمالا للأهل والذرية، وكسلا عن العمل وهجرا للدراسة وضعفا في التحصيل..
صلاة الفجر تئن من سياط السهر، وأماكن العمل تشكو من المتأخرين والذين لا يأتون عملهم إلا كسالى..
آفة السهر ولدت جيلا هزيلا في اهتماماته، ضعيفا في صحته، متخلفا عن مسؤولياته وواجباته، معرضا عن عباداته، متساهلا في حدود ربه ومنهياته.. جيلا ضعيف الهمة يرى الحياة لعبا ولهوا وإداما ومناما..
آفة السهر خلفت داء الأرق والقلق، وأوقعت في الذنوب والمعاصي وجرأت على التساهل بحدود الله ومنهياته..
آفة السهر خلفت أمة متخلفة لا تبدع في اختراع، ولا تنجح في صناعة ولا تنافس في تجارة ولا تسابق لترقى وإنما تسهر لتشقى.
لقد ابتلي أفراد الأمة بالسهر نتيجة حياة اللهو والترف، وعدم الشعور بقيمة الوقت ومرور الأيام، والغفلة عن غوائل المستقبل ومفاجآته، ونتيجة لتغير نمط الحياة وتعقيدات المدنية، ومن أسبابها مجاراة الواقع والتأثر بوسائل الإعلام والانهزامية ومحاولة التشبه بالتائهين والتافهين، والتهرب من لمز اللامزين وسخرية الساخرين.
إنه لا بد للأمة أفرادا وجهات أن تعيد النظر في تعاملها مع فطرة ربها، فتجعل الليل سكنا، والنهار معاشا.. لابد من تربية جادة على الالتزام بالهدي النبوي فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها.. لابد من تغيير هذه الثقافة الهزيلة وهذا المفهوم الناشز للتطور والمدنية والذي فهمه البعض أن يعني السهر ليلا والنوم نهارا وتعطيل الحياة.. لابد أن نربي أجيالنا على الاقتداء بسيد البشر وسلف هذه الأمة في ترتيب الأولويات وتنظيم الأوقات، لابد أن نلقي في روع أجيالنا أن النوم المبكر يعني راحة الجسد وسلامة العقول وصلاح الحال والمآل وسلامة الأبدان والقيام بحقوق الخلق والخالق.
لابد من تربية النفس والناس على التخلي التدريجي عن آفة السهر بتذكيرهم بآفاته وأضراره على دين الإنسان وبدنه ومصالحه الدنيوية ومستقبله الأخروي، فكم كان سببا في تضييع عبادة وفقدان لخشوع، وتفريط في أجر، وخسارة دنيوية، ومن أعرض عن ذكر الله فإن له معيشة ضنكا.
أقول هذا القول ...
الخطبة الثانية:
أما بعد: إنه لمؤلم -والله- أن تشرق الشمس على من هم كالأنعام بل هم أضل وهم في متاجرهم ومصانعهم ومكاتبهم وأعمالهم يعملون بجد ونشاط وحيوية، بينما تشرق الشمس على فئام من أهل التوحيد وهم في فرشهم يتقلبون بعد ليلة ضاعت بسهر عابث، أو تراهم يساقون إلى مدارسهم ووظائفهم كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون.
مؤلم -والله- أن يكون من لا يرجون لله وقارا ليلهم سكنا وليل أهل التوحيد سهرا وعبثا.
مؤلم أن تغيب الشمس عندهم فتغيب معها الحركة وتقفل المحلات وتسكن الطرقات بينما يتحول ليل أهل التوحيد إلى مهرجان للدوران والسهر والسمر بل ربما في أمور يُستغضب فيها الجبار من تبرج واختلاط وغثاء وغناء حتى في وقت النزول الإلهي.
مؤلم أن يصبح السهر سلوكا حتى عند المتدينين وطلاب الحلقات فأصبحت ترى فئاما منهم لا يأتون بيوتهم إلا في آخر الليل، والمساجد في الفجر تشكو هجرهم.
مؤلم والله أن تتحول ساعات الأسحار ووقت الاستغفار وساعة نزول الجبار إلى أوقات طبل ومزمار، واستخفاف بالأخلاق والقيم وتجاوز لحدود الله فهل هذا لائق بمن يخافون يوما كان شره مستطيرا.
إن دين الإسلام دين التوازن والواقعية لا يمنع المسلم من سهر يسير يصل فيه رحما أو يسامر فيه أهلا أو يحادث فيه صاحبا أو يقضيه بمدارسة ومطالعة أو تفكير بعمل مثمر ومشروع ينفع فيه نفسه أو يخدم فيه وطنه وأمته.. لكن الشريعة تأبى أن يكون السهر ثقافة، وأن يكون السهر عبثا وفوضوية وتضييعا لأوقات سوف يسأل عنها الإنسان.
الشريعة تأبى أن يسهر الإنسان حتى في أمر حسن إذا كان سيؤدي إلى ضياع فريضة.
الشريعة تأبى سهرا ينتج عنه عبث بالأخلاق وتمييع للحياء وارتكابا للمنكرات وتضييعا للصلوات واتباعا للشهوات وتأبى سهرا نتاجه تعطل مصالح البلاد، وضعف الإنتاجية وقلة العطاء، وسوء التعامل مع الآخرين.
الشريعة تأبى سهرا يحول دون علو الهمة في العبادة والعمل الصالح والعلم النافع، فكم أورث السهر العابث من دنو في الهمة وتراخ في العبادة وتكاسل عن المسارعة في الخيرات.
ألا بوركت تلك النفوس الأبية التي تسامت على العادات التافهة وارتقت إلى سلم الهمم العالية فسلكت هدي نبيها في النوم واليقظة فتراهم مع تباشير الصباح يعملون مع العاملين ويجدون مع المجدين وينافسون مع المتنافسين.
بوركت همم شباب تراهم في الأسواق والمتاجر مع خيوط الفجر يعملون بهمة وعزيمة وإصرار.
بوركت أمة جعلت سهرها طاعة لله، ووسيلة إلى مرضاته فسهرت قليلا على مباح، وانشغلت في سهرها بما يوصل للفلاح والصلاح.
لله در أقوام ناموا مبكرين، واستيقظوا في الثلث الأخير يناجون ربهم ويدعونه خوفا وطمعا (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ)[الزمر:9].لله در أقوام نومهم عبادة وسهرهم سعادة، وغايتهم الحسنى وزيادة ..
يا عباد الله: إنها دعوة لإعادة النظر في سلوكنا في ليلنا ونهارنا .. دعوة للرقي إلى مصافي المتحضرين حقا والذين ساروا على سنة الله فكان الليل لهم ليسكنوا فيه والنهار ليبتغوا من فضله.
دعوة لأن نتذكر أننا مسؤولون عن عمرنا فيم قضيناه وشبابنا فيم أبليناه فماذا أنتم قائلون لربكم ايها الساهرون عبثا ولهوا ولعبا.
إنها دعوة لتوعية أجيالنا بأنه لا ينال العلا من جعل ليله سهرا وعبثا ونهاره نوما وكسلا، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
اللهم صل وسلم ...
التعليقات