عناصر الخطبة
1/عظم ذنب من تبرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- منهم 2/تبرؤ النبي -صلى الله عليه وسلم- من المتسخطين على أقدار الله 3/تبرؤ النبي -صلى الله عليه وسلم- من الحاملين للسلاح ضد المسلمين 4/بعض مظاهر الفرقة بين المسلمين 5/سيادة الأمن في المملكة العربية السعودية 6/تبرؤ النبي -صلى الله عليه وسلم- من الغشاشين 7/بعض صور الغش في المعاملات التجارية 8/البركة الحقيقة في الالتزام بأمر الله ورسولهاهداف الخطبة
اقتباس
ما ظنكم -أيها المسلمون- لو أن ابنًا من الأبناء سمع من والده عبارة التبرؤ منه إلى يوم الدين, وأنه ليس منه في شيء, وأنه ليس مرغوبًا فيه ولا محبوباً! ما ظنكم بمشاعر الإنسان وهو يتلقى مثل هذا الأمر؟ إنه لأمر عظيم وجلل, لكن ما الظن لو كان المتبرئ هو...
الخطبة الأولى:
الحمد لله ...
أما بعد:
فما ظنكم -أيها المسلمون- لو أن ابنًا من الأبناء سمع من والده عبارة التبرؤ منه إلى يوم الدين, وأنه ليس منه في شيء, وأنه ليس مرغوبًا فيه ولا محبوباً! ما ظنكم بمشاعر الإنسان وهو يتلقى مثل هذا الأمر؟
إنه لأمر عظيم وجلل, لكن ما الظن لو كان المتبرئ هو محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-, من ذلك الإنسان الذي يرتكب فعلًا من الأفعال التي يعظم ضررها ويشتد خطرها؟! والتي قد يكون القدح فيها عائدًا إلى اعتقاد الإنسان, أو إلى علاقته بغيره من إخوانه المسلمين!.
لقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه تبرأ من أُناس ومن جماعاتٍ في مواضع شتى بقوله: من عمل كذا وكذا، فليس منا.
نبه بها على خطورة ذلك العمل, وأنه بريء مِن صاحبه, وأنه -والعياذ بالله- أتى منكرًا من القول أو العمل, بل قال بعض أهل العلم: إن أقل دلالات هذا القول أنه من كبائر الذنوب, وأن الإنسان على خطرٍ عظيم بفعله ذاك؛ إذ يتعرض لسخط الله -جل جلاله وتقدست أسماؤه-.
1- من ذلك -يا عباد الله-: ما رواه الشيخان من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس منا من لطم الخدود, وشق الجيوب, ودعا بدعوى الجاهلية" [صحيح البخاري ح(1294)، صحيح مسلم ح(103)].
إنها أفعالٌ تُنبئ عن قلة في الصبر على قضاء الله، وقدره المؤلم, ومن ذلك: ما كان يفعله أهل الجاهلية حينما يُصاب أحدهم بمصيبة، فيظهر أثر ذلك الجزع عليه في أقواله وأفعاله، يظهر في لطمه لخدٍ أو شقه لجيبٍ أو نواحٍ وصراخٍ كله يُنبأ عن ضجر وجزع وعدم صبر على قضاء الله -تعالى- وقدَره, لذا كان من أركان الإيمان الستة التي لا يصح الإيمان إلا بها: "وأن تؤمن بالقدر خيره وشره" [صحيح مسلم ح(8)].
وفي سبيل ذلك أغلق الشرعُ المنافذ التي قد تهيّج على مثل هذه الأفعال؛ فنهى النساء عن زيارة القبور؛ لأن المرأة ضعيفةٌ لا تصمد في الغالب أمام تلك المشاهد, بل رأى الناسُ من بعض النساء من تشق جيبها وتلطم خدها، وتدعو بدعاء الجاهلية، بمجرد ورود الخبر! فكيف لو رأت مصابها في ولدها أو في حبيبها أو في قريبٍ لها؟!
2- ومن ذلك -يا عباد الله-: ما رواه الشيخان من حديث ابن عمر وأبي موسى -رضوان الله عليهم أجمعين- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من حمل علينا السلاح فليس منا" [صحيح البخاري ح(6874)، صحيح مسلم ح(98)].
وروى مسلم من حديث سلمة: "من سل علينا السلاح فليس منا" [صحيح مسلم ح(99)].
إن الشرع المُطهر -يا عباد الله- حريصٌ كل الحرص على وأد بذور الفتن, وتحريم إثارتها بأي قولٍ أو فعل، ومن ذلك -وهو عجبٌ من العجب-: ما روه مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا مر أحدُكم في مجلسٍ أو سوقٍ وبيده نبلٌ، فليأخذ بنصالها بأطرافها، ثم ليأخذ بنصالها، ثم ليأخذ بنصالها" [صحيح مسلم ح(2615)].
قال أبو موسى -رضي الله عنه -وهو الراوي لهذا الحديث والذي أدرك الفتنة التي وقعت-: والله ما متنا حتى سددناها".
"سددناها" أي قومناها إلى وجوههم، مِن السداد وهو القصد والاستقامة.
بعضنا في وجود بعض.
ويروي مسلم أيضًا في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أشار إلى أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه" [صحيح مسلم ح(2616)].
ويزيد النبي -صلى الله عليه وسلم- من الترهيب في هذا الموضوع الخطير الذي حرص على وأد شرره منذ بدايته، بل قبل أن يبدأ؛ فيقول - فيما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات؛ مات ميتةً جاهلية, ومن قاتل تحت رايةٌ عُمية، يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبه فقُتل؛ فقتلة جاهلية, ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده؛ فليس منيّ ولست منه" [صحيح مسلم ح(1848)].
اللهم صلِ وسلم على الناصح الأمين, الذي دل أمته على كل خير, وحذّرها من كل شر.
انظروا -يا عباد الله- بعين العقل والبصيرة إلى ما حولنا من الساحات المتلهبة، بل انظروا أيضًا إلى ما اُبتليت به بلادُنا كما اُبتليت به بلادٌ كثيرة من أُناسٍ وقع عليهم هذا الوصف بدقة، خرجوا يضربون الأمة، لا يرعون لذي حقٍ حقه, ولا لذي عهدٍ عهده, سلّوا السيف، وحملوا السلاح، ضربوا بر الأمة وفاجرها, وأولئك يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وذلك والله هو الضلال المبين, فإن من أعظم الضلال: أن يفعل الإنسان فعلًا والنبي -صلى الله عليه وسلم- يتبرأ من فاعله -فليس مني ولست منه-
إن هذه الأحاديث -أيها الأحبة- على ما فيها من تفاصيل دقيقة من حملٍ للنصال, ومن إشارة بحديدة ولو لم تكن سلاحًا في ذاتها، فضلًا عن سل السلاح؛ إنها كلها تجتمع في قاعدةٍ وأصل عظيم من أصول الشرع المرعية، وهي: رعاية الجماعة, ووحدة الصف, واجتماع الكلمة على جماعة المسلمين وإمامهم، ومن ولاهم الله -تعالى- أمرهم.
ويزداد هذا الأمر حينما تمر الأمة بمنعطفات خطيرة، وبأوقات أحوج ما تكون فيها إلى الاجتماع، ونبذ الفرقة.
إننا اليوم نسمع ونشاهد -كما يشاهد كثيرٌ من الناس- أناسًا ربما دخلوا بمعرفات مجهولة عبر مواقع التواصل ليثيروا الفتنة، وليؤججوا أوارها، وليثيروا نارها؛ فأولئك لهم نصيبٌ عظيمٌ من هذا التبرؤ النبوي الذي أعلنه صلى الله عليه وسلم.
إذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- تبرأ من رجلٍ واحدٍ يشير بحديدةٍ صغيرة بيده لرجلٍ واحدٍ فقط؛ فما الظن بمن يشهر سلاح الفتنة في مواقع التواصل وقد يتابعه آلاف أو مئات من الآلاف؟! يريد أن يفرق الصف، ويشق الجماعة؟
إن أولئك لأحق وأجدى وأحرى بالتبرؤ منهم ومن أفعالهم, وإن أولئك قد لا يستغرب منهم؛ لأنهم قد يكونون يحملون أجندةً معينة, أو مدفوعين من جهات حاقدة على البلد وأهله, لكن المصيبة: أن يكون بعض الناس اليوم أحد الوقود الذين توقد بهم هذه الفتنة، فيسعى لترويج تلك المقولات أو تلك الأقوال، أو تسريب بعض المعلومات التي تؤثر في تحقيق الوحدة واجتماع الكلمة.
أيها المسلمون: إن الإنسان عليه أن ينظر بعين البصر والبصيرة إلى ما أحدثته الفُرقة والتشتت، لا أقول في قرون ماضية ولا في بلادٍ بعيدة؛ بل في بلادٍ حولنا يجاوروننا ونجاورهم.
فانظروا -يا عباد الله- إلى ذلك، واحمدوا الله -سبحانه وتعالى- على ما نحن فيه من اجتماع الكلمة على إمامٍ، ومن اجتماع الكلمة، وحصول الأمن والأمان, وادعوا لإخوانكم المسلمين في كل مكان أن يرزقهم الله -تعالى- الأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، وإننا حينما نقول ذلك لا ندّعي العصمة ولا ندّعي الكمال, بل عندنا أخطاء وأخطاء، كما يُصرح بذلك أعلى رأس في الهرم, لكن علاج الأمور لا يأتي إلا من أبوابها، كما قال الله -تبارك وتعالى-: (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) [البقرة:189].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه, وسُنة خير أنبيائه.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم ليّ ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين ...
أما بعد:
3- فإن ممن تبرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- منهم ومن أفعالهم: أولئك النفر الذين يتحايلون على عباد الله في ترويج سلعهم, أو شهاداتهم, أو غير ذلك من صور التزوير والتدليس.
يوضح ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم دخل السوق مرةً فمر على رجل وعنده صُبْرة من الطعام، فأدخل النبي -عليه الصلاة والسلام- يده في الصبرة فوجد بللًا في أسفلها؛ فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟" قال: أصابته السماء يا رسول الله -يعني مُطِر-, فقال عليه الصلاة والسلام: "أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس! من غش فليس منيّ" [صحيح مسلم ح(102)].
"من غش فليس منيّ" قالها عليه الصلاة والسلام في وجهه محذرًا له، ولكل من يسلك سبيله, ولئن كان هذا الوعيد الشديد المرعب يقوله عليه الصلاة والسلام لمن غش في كوْمة من الطعام، وفي دكيكين صغير من دكاكين المدينة؛ فماذا سيكون الوعيد في حق أولئك الذي يسوقون آلافَ بل ملايينَ السلَع تحت مظلة الغش؟!
إنهم لبهذا الوعيد أولى وأحرى!.
وكيف يكون الأمر في حق أُناسٍ يشترون الشهادات ليزوّروا بها على المسئول، فيرتقوا به سلمًا ليسوا في محلّه وليسوا أهلًا له.
والله إني لأتعجب -أيها الأحبة- من صور كثيرة لم أكن أتوقع أن يصل الحال ببعض الناس إليها، تردني صورٌ عرفتُها من خلال أسئلة الناس, وإليكم نماذج منها:
هذا شخص يقول: أريد أن أشتري شهادةً من معهدٍ للتدريب مدتها ستة أشهر, وأنا في الحقيقة لم أحضر إلا أسبوعين أو ثلاثة, لماذا؟ قال: من أجل أن أُقدّم بها على الوظيفة, ثم ماذا؟ تأخذ مكانًا لشخصٍ قد يكون أحق منك, ثم ماذا؟ تتوظف بهذه الوظيفة التي بُنيت على زور وباطل, ثم ماذا يكون راتبك بعد ذلك؟!
ومن الأسئلة التي كشفت أنواعًا من الغش والتدليس: أن أُناسًا من الذين يدرسون خارج المملكة ويظنون أن التعامل مع الكافر يبيح لهم الغش، فيتفنّنون في شيء من ذلك, لا على سبيل الشهادات في الدورات, أو حتى على سبيل البيع والشراء في السلع!.
شخص ثالث يقول: أريد أن أبيع سيارتي, ولكنني أخشى إن كشفتُ جميع ما فيها من العيوب أن ينقص سعرُها, فقلت له: يا هذا! قبل أن أُجيبك: ما ظنك لو أن هذا الشخص باع عليك سيارته، وقال لك: أولِّك ما توليت، انظر إلى السيارة، فإن وجدت فيها عيوبًا وإلا فهي لك بذلك السعر الفلاني؛ أترضى أن تعامَل بمثل هذه المعاملة؟ قال: لا, قلت له: أين أنت من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" [صحيح البخاري ح(13)، صحيح مسلم ح(45)].
أيها المؤمنون: إن الأخبار التي تنشرها الجهةُ المسئولة عن الغش التجاري وأمثاله لهي أخبار مفجعة ومروعة، تدل على استيلاء حب الدنيا في قلوب كثيرٍ ممن يمارسون التجارة، حتى آثروا العاجل على الآجل, وظنوا أن كسب المال بأمثال هذه الطرق ذكاء واحتراف! وأن هذا يزيد من أرصدتهم! لا والله؛ لئن زادت أرصدتهم بالأرقام والله لتُمحقن بركتها إن عاجلًا أو آجلًا.
إن العبرة ليست بكثرة الأرقام التي يمتلئ بها رصيدك في البنك, بل العبرة بما قاله صلى الله عليه وسلم عن البيِّعَين: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بُورك لهما في بيعهما, وإن كذبا وكتما مُحقت بركت بيعهما" [صحيح البخاري ح(2079)، صحيح مسلم ح(1532)].
وحدثني بعضُ من تاب ممن كان يمارس الغشَ بأنواعه: أنه لا يكاد يجمع قرشًا على قرش حتى يُبتلى بمصيبة أو فاجعة تُذهب -لا أقول أرباحه بل- رأسَ ماله الذي جمعه من وراء هذه التجارة والتقليب.
فاتقوا الله -يا عباد الله- وثقوا وأيقنوا بأن البركة هي بتحقيق أمر الله ورسوله, وثقوا أن العبرة قبل تحصيل المال هي برضا الله -عز وجل-, وبالانضواء تحت لواء محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-.
ماذا ينفعك أن يكون في رصيدك مليون أو عشرة ملايين حصّلتها من الغش أو التحايل في بيع سلعة, أو أرضٍ أو شهادةٍ أو غير ذلك من صور الغش؟
ومن تعلّق قلبُه بالآخرة لم يأس على شيء فاته من الدنيا, ومن تعلق بالدنيا، ونسي الآخرة، تقطع قلبُه حسراتٍ على ما يفوته منها، ولم يصله ولم ينله إلا ما كُتب له.
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام ارزقنا تقواك وخشيتك في الغيب والشهادة ...
التعليقات