عناصر الخطبة
1/ شهر محرم وفضل صيامه 2/محاسبة النفس ليس لها وقت محدد 3/انقضاء الآجال سريعاً 4/أقوال السلف في أهمية محاسبة النفس 5/معنى المحاسبة وفوائدها 6/حكم التهنئة بالعام الهجرياهداف الخطبة
اقتباس
وهكذا الأعوام تتجدّد على الإنسان عامًا بعد عام، فإذا دخَل العام الجديد نظر الإنسان إلى آخره نظرَ البعيد، ثم تمرّ به الأيام سِراعًا فينصرم العامُ كلمح البصر فإذا هو في آخر العام، وهكذا عُمر الإنسان يتطلّع إلى آخره تطلُّع البعيد، فإذا به قد هجم عليه الموت وصار خبر بعد عين...
الخطبة الأولى:
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].
أيها الإخوة: هذه الجمعة أول جمعة من شهر الله المحرم، وهو أول شهور العام، سمِّي بذلك لأن العرب في الجاهلية كانوا يحرِّمون فيه القتال مع ما كونوا عليه من الضلال والكفر، وسماه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شهر الله المحرم ولم يثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه سمى شهراً غيره بذلك، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ, وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ". [رواه مسلم]. قال النووي: "وقوله -صلى الله عليه وسلم- هذا تصريح بأنه أفضل الشهور للصوم.. وسماه شهر الله لتشريفه وتعظيمه وكل معظم ينسب إليه -سبحانه".
فأكثروا فيه من الصيام اغتناماً لهذا الفضل, قال بعضهم: "إنما هو غداء وعشاء, فإن أخرت غداءك إلى عشائك أمسيت وقد كتبت في ديوان الصائمين ومن غُلب على إكثار الصيام فيه, فلا يغلبن على صيام عاشوراء ويوما قبله أو يوماً بعده"، فعَنْ أَبِي قَتَادَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ". وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ" [رواهما مسلم]. أي مع العاشر. وقد أعلنت المحكمة العليا أن غرة محرم يوم الثلاثاء الماضي فاليوم يكون الرابع من محرم.
أيها الإخوة: محاسبة النفس ليست مقصورة على نهاية العام كما يتناقله الناس هذه الأيام. بل الواجب على المسلم أن يقف مع نفسه كل يوم يحاسبها على ما قدمت وأخرت والأيام خزائن الأعمال, ومحاسبة النفس يجب أن تكون مستمرة, ولذلك كان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ: تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ". [رواه مسلم] وما التوبة والاستغفار إلا جزء من المحاسبة ونتيجة لها, وعلى هذا فقصرها على نهاية العام خطأ.
أيها الإخوة: لقد أوجد الله -تعالى- لنا في هذه الكون ما يتذكر به من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فالشمسُ تطلع كلَّ يوم من مشرقها وتغرب في مغربها وفي هذا أعظمَ الاعتبار، فطلوعُها ثم غيابُها إيذان بأنّ هذه الدنيا ليست دارَ قرار، وإنما هي طلوعٌ وزوال.
انظر إلى هذه الشهور، تهلّ فيها الأهلّة صغيرةً كما يولَد الأطفال, ثم تنمو رويدًا، رويدًا كما تنمو الأجسام, حتى إذا تكامل نموُّها أخذت في النقص والاضمحلال.
وهكذا الأعوام تتجدّد على الإنسان عامًا بعد عام، فإذا دخَل العام الجديد نظر الإنسان إلى آخره نظرَ البعيد، ثم تمرّ به الأيام سِراعًا فينصرم العامُ كلمح البصر فإذا هو في آخر العام، وهكذا عُمر الإنسان يتطلّع إلى آخره تطلُّع البعيد، فإذا به قد هجم عليه الموت وصار خبر بعد عين.
يؤمّل الإنسان بطولِ العمر ويتسلَّى بالأماني فإذا بحبلِ الأماني قد انصرم، وبناء الآمال قد انهدَم. قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "يا ابنَ آدم: إنما أنتَ أيّامٌ، فإذا ذهب منك يومٌ ذهبَ بعضُك". وقال أبو حازم: "عَجبًا لقومٍ يعملون لدارٍ يرحلون عنها كلَّ يوم مرحلة، ويدَعون أن يعمَلوا لدارٍ يرحلون إليها كلَّ يوم مرحلة".
أيها الإخوة: إذا كانت الأيام كذلك؛ فينبغي لكل واحد منا أن يقف مع نفسه ويحاسبها محاسبة جادة قبل أن تحاسب, قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر:18،19] قال ابن كثير أي: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم".
وقال عمر -رضي الله عنه-: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا" وقال أبو حامد الغزالي: "اعلم أن العبد كما ينبغي أن يكون له وقت في أوّل النهار يشارط فيه نفسه على سبيل التوصية بالحق، فينبغي أن يكون له في آخر النهار ساعة يطالب فيها النفس ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها، كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كلّ سنة أو شهر أو يوم، حرصاً منهم على الدنيا، وخوفاً من أن يفوتهم منها ما لو فاتهم لكانت الخيـرة لهم في فواته. فكيف لا يحاسب العاقل نفسه فيما يتعلق به خطر الشقاوة والسعادة أبد الآباد؟! ما هذه المساهلة إلا ناتجة عن الغفلةِ والخذلان وقلةِ التوفيق نعوذ بالله من ذلك".
ومعنى المحاسبة كما قال الماوردي: "أن يتصفح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محمودًا أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذمومًا استدركه وانتهى عن عمل مثله". اهـ.
أيها الإخوة: وللمحاسبة فوائد متعدّدة ومنافع متكاثرة، منها:
الاطلاع على عيوب النفس ومثالِبها ونقائِصها، فمن اطلع على عيب نفسه أنزلها منـزلها وبادر في إصلاحها.
ومنها: أن يتعرف العبد على عظيم فضل الله ومنته عليه, عندما يقارن عظيم فضل الله عليه بكبير تفريطه وتقصيره في جنب الله، فيكون ذلك معينًا لنفسه على ردعها، فيزكيها، ويطهرها من كل عمل يهلكها، قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات:40،41] قال أحد السلف: "رحم الله عبدًا قال لنفسه كل ليلة: ألست صاحبة كذا.؟ ألست صاحبة كذا.؟ ثم ألزمها كتاب الله وكان لها قائدًا".
ومن فوائد المحاسبة: أنها تربي الضمير الحيّ، عند الإنسان وتنمي الشعور بالمسؤولية ووزن الأعمال بميزان دقيق هو ميزان الشرع، قال ابن القيم: "أضرّ الأمور على المكلّف إهمال المحاسبة والاسترسال، وتسهيل الأمور وتمشيتها؛ فإنه يؤول بذلك إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور، يغمضون أعينهم عن العواقب، ويتكلون على العفو، ولم يستطيعوا فطم أنفسهم عن مواقعة الذنوب". اهـ.
ولقد كان السلف -رحمهم الله- يحاسبون أنفسهم كثيرًا، وضربوا لنا أروع الأمثلة من ذلك ما رواه أنس -رضي الله عنه- أنه سمع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يومًا في حائط يكلم نفسه قائلا: "عمر! أمير المؤمنين! بخٍ بخٍ، والله يا بُنيَّ الخطاب لتتقينَّ الله أو ليعذبنَّك". وكان الأحنف بن قيس قد كبر سنه، فلاموه على الصوم لأنه يضعفه، فقال: "إني أعده لسفر طويل" وكان يقول لنفسه: "لم صنعتَ كذا يوم كذا؟!". وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: "نَهَارُك ضَيْفُك, فَأَحْسِنْ إلَيْهِ فَإِنَّك إنْ أَحْسَنْت إلَيْهِ ارْتَحَلَ بِحَمْدِك، وَإِنْ أَسَأْت إلَيْهِ ارْتَحَلَ بِذَمِّك، وَكَذَلِكَ لَيْلُك".
وقال حاتم الأصم: تعاهد نفسك في ثلاث: "إذا عملت فاذكر نظر الله إليك، وإذا تكلمت فاذكر سمع الله منك، وإذا سكتّ فاذكر علم الله فيك"، وقال بلال بن سعد: "لا تكن وليًا لله في العلانية وعدوَّه في السر". وَقَالَ آخَرُ: "اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ يَعْمَلانِ فِيك فَاعْمَلْ فِيهِمَا". وَقَالَ آخَرُ: "اعْمَلُوا لآخِرَتِكُمْ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الَّتِي تَسِيرُ كَأَنَّهَا تَطِيرُ" وَقَالَ آخَرُ: "الأَيَّامُ صَحَائِفُ أَعْمَالِكُمْ، فَخَلِّدُوهَا أَجْمَلَ أَفْعَالِكُمْ", وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: "اِقْبَلْ نُصْحَ الْمَشِيبِ وَإِنْ عَجَّلَ", وَقِيلَ: "مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ، إلا وَعَظَتْ بِأَمْسٍ".
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشِيرٍ:
مَضَى أَمْسُك الأَدْنَى شَهِيدًا مُعَدَّلاً *** وَيَوْمُك هَذَا بِالْفِعَالِ شَهِيدُ
فَإِنْ تَكُ بِالأَمْـسِ اقْتَرَفَتْ إسَاءَةً *** فَثَنِّ بِإِحْسَـانٍ وَأَنْتَ حَمِيدُ
وَلا تُرْجِ فِعْلَ الْخَيْرِ مِنْك إلَى غَدٍ *** لَعَلَّ غَدًا يَأْتِي وَأَنْتَ فَقِيـدُ
وقال الأخر:
نسيرُ إلى الآجال فِي كل لحظة *** وأعمارنا تطوى وهن مراحل
ترحل من الدنيا بزاد من التقـى *** فعمــرك أيـام وهن قلائـل
أيها الإخوة: لننظر في صحائف أيامنا التي خلت ماذا ادخرنا فيها لآخرتنا؟! لنخلوا بأنفسنا ونتأمل أعمالنا: ماذا تكلم به اللسان؟! وماذا رأت العينان؟! وماذا سمعت الأذنان؟! وأين مشت القدمان.؟! وبماذا بطشت هذه اليدان.؟! ولنحاسب أنفسنا على الفرائض ماذا أدينا منها، والمنهيات ماذا تركنا منها، ولنحاسب أنفسنا على الغفلات، فنحن نمتطي عربة الليالي والأيام، وهي تحثّ بنا السير إلى الآخرة.
سمع أبو الدرداء -رضي الله عنه- رجلاً يسأل عن جنازة مرت فسأل: "من هذا؟" فقال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "هذا أنت" يعني أن الجميع إلى هذا المصيرِ صائر فاستعدّ لذلك. ولما سئل أبو حازم: "كيف القدوم على الله؟" قال: "أما المطيع فكقدوم الغائب على أهله، وأما العاصي فكقدوم العبد الآبق على سيده".
أيها الإخوة: اعلموا -رحمني الله وإياكم- أن الليل والنهار مطيتان، يباعدانك من الدنيا، ويقربانك من الآخرة، فطوبى لعبد انتفع بعمره. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خيركم من طال عمره وحسن عمله". وكان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم اجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر". [حديث صحيح].
فنسأل الله العظيم أن يبارك لنا في أعمارِنا وأعمالِنا، وأن يختم بالصالحات آجالَنا، إنه بر رحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد: من الأمور التي يتبادلها الناس في هذه الأيام التهنئة بالعام الهجري, فما حكم ذلك؟ الأصل فيها الإباحة، فليست مشروعة وليست بدعة, ومن أهل العلم من يرى أن الأولى أن لا يبدأ بها الإنسان، ولكن إن هنئ فلا ينبغي له أن ينكر بل يجعل الرد بالدعاء, ومنهم من بدأ بالتهنئة مثل الشيخ عبد الرحمن السعدي فقد بعث كتابا لأحد طلابه وكان في ديباجة رسالته: "ونهنئكم بالعام الجديد، جدد الله علينا وعليكم النعم ودفع عنا وعنكم النقم". والأمر فيه سعة.
أما ربط طي الصحائف بنهاية العام الهجري فهذا لا أصل له. ذلك أن ابتداء العام الهجري كما هو معروف إنما اصطلح عليه في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه.
والثابت أن الأعمال تعرض على الله كل اثنين وخميس، كما جاء ذلك في صحيح مسلم، عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "تُعْرَضُ الأَعْمَالُ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ؛ فَيَغْفِرُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِكُلِّ امْرِئٍ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلا امْرَأً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ, فَيُقَالُ: ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا". وفي جامع الترمذي وصححه الألباني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ, فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ".
أسأل الله أن يوفقنا لإتباع هدي رسولنا إنه جواد كريم...
التعليقات