عناصر الخطبة
1/في رحاب نعمة الأمن والأمان 2/أسباب نعمة الأمن ومقوماتها 3/وسائل الحفاظ على نعمة الأمن بمفهومه الشامل 4/حماية المجتمع من دعوات التغريب ودعايات الفساد.اقتباس
إن الأمن الوطني لا يتحقق إلا بوجود الأمن الفكري؛ وذلك بحماية الأجيال الناشئة وشباب الأمة من دعوات التغريب ودعايات الفساد والإفساد. لكي يتحقق الأمن لا بد من حماية شباب الأمة وتحصين أفكارهم من الهجمات الدخيلة التي...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الولي الحميد؛ أمر بالشكر ووعد بالمزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد العبيد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم المزيد.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته.
يا ساكني بلاد الحرمين: ما ظنكم بالسماء إذا فقدت نجومها، والأرض إذا زالت جبالها الراسيات، والسهول إذا فقدت أنهارها وغارت عيونها وذوى نباتها ويبست أشجارها. والشجرة إذا يبست غصونها وتساقطت أوراقها؟!
ما ظنكم بالحياة إذا تكدّر صفاؤها؟، ما ظنكم بالأجساد إذا سلبت منها أرواحها؟ أظنكم توحدون الرأي أن بطن الأرض حينئذ خير من ظاهرها؟
كذلك الحال إذا فقدت البلاد أمنها، وساد فيها القلق والخوف واضطربت فيها الأحوال وصار الناس لا يأمنون على الأنفس والأعراض والأموال.
إنه الأمن مع العافية والرزق يشكل الملك الحقيقي، فمن أصبح آمنًا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها. إنه دعوة أبينا إبراهيم (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ)[البقرة:126]، ومنة الله على هذه الأمة (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[الأنفال:26].
إن الديار التي يُفْقَد فيها الأمن تُعدّ صحراء قاحلة، وإن كانت ذات جنان وارفة الظلال تجري من تحتها الأنهار، والبلاد التي تنعم بالأمن تهدأ فيها النفوس، وتطمئن فيها القلوب، وإن كانت قاحلة جرداء ليس فيها من الغذاء ما يسد الرمق، ومن الماء ما يروي الظمأ.
إنه الأمن؛ لا غَنَاء لأي مخلوق أو لأي نفس رطبة عنه مهما عزت في الأرض أو كسبت مالاً أو شرفًا أو رفعةً، ولن يتمتع معافى بعافيته وهو غير آمِن، وكيف يلذ أكل بدون أمن؟! وكيف تنام عين غير آمنة؟! وكيف يستريح أو يستقر ضمير خائف أو بال مزعزع؟! ففي رحاب الأمن وظله يأمن الناس على أموالهم ومحارمهم وأعراضهم، وفي ظلال الأمن يعبدون ربهم ويقيمون شريعته.
لو انفرط عقد الأمن ساعة لرأيت كيف تعمّ الفوضى، وتتعطل المصالح ويكثر الهرج، وتأمل فيمن حولك ستجد الواقع ناطقًا (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ)[العنكبوت:67].
أيها المسلمون: إن أمرًا هذا شأنه، ونعمة هذا أثرها لجدير بنا أن نبذل في سبيلها كل رخيص وغالٍ، وأن تُستثمر الطاقات وتُسخر الجهود والإمكانات في سبيل الحفاظ عليها وتعزيزها.
إنه الأمن لم تَستطع قوى الشرق أن تستجلبه بالبطش والجبروت، ولم تجده قوى الغرب بالتفلت والانفتاح والتساهل، وكان قدَر الله أن تناله أمة الإسلام بإيمان رعيتها ثم حزم وعزم رعاتها.
لا بد أن ندرك أن الأمن الذي نعيشه ونتفيؤ ظلاله إنما هو منحة ربانية ومنة إلهية مربوطة بأسبابها ومقوماتها، والتي من أعظمها إقامة شرع الله، وتنفيذ حدوده، والاعتزاز بعقيدة التوحيد ومناصرتها والدعوة إليها، وبدون ذلك لا سبيل إلى الأمن مهما قويت الأسباب.
إن قدرنا أن ننعم في هذه الحياة بنعمة الأمن والتلاحم والتآلف والتفاهم بين الراعي والرعية متى استقمنا على شريعة الله، وأن نُحْرَمه متى انحرف بنا المسار عن الله ومنهجه القويم.
الإيمان هو الذي يحقّق الأمن للمجتمع، ويقيه من الأخطار؛ فإذا تخلى أبناء ذلك المجتمع عن دينهم، وكفروا نعمة ربهم حفَّت بهم المخاوف من كل جانب، وانتشرت بينهم الجرائم، وهذه هي سُنّة ربانية فيمن يعرضون عن طاعة ربهم -سبحانه-: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[النحل:112].
إن أمن البلاد مسؤولية، ونعمة الأمن جديرة بأن يتكاتف الجميع للمحافظة عليها والتضحية من أجلها، وبذل أسبابها والتي من أعظمها عبادة الله بمفهومها الشامل (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[النور:55]، وتوحيد الله والإيمان به، والتخلص من خوارم العقيدة، ومحاربة البدع والخرافات عامل من عوامل حصول الأمن (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)[الأنعام:82].
أمن بلادنا نستبقيه بتربية الأمة رجالها ونسائها على طاعة الله، والاستقامة على شرعه، والبعد عن معصيته ومراقبته والخوف منه، وعندما تستقيم النفوس على طاعة الله -سبحانه-، ويعرف كل إنسان حقوقه وواجباته، وتعمر قلوب المؤمنين المحبة الله ورسوله والشفقة على العباد، ويسود التكافل والتراحم بين أبناء المجتمع؛ فما أسعد هذا المجتمع وأهنأه!
الأمن غاية تحفظه الأمة بإقامة الصلاة، وتربية الناشئة عليها؛ فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي حصن عن كل شرور وحاجز عن كل جريمة.
الأمن هدف نصل إليه بمعالجة كل ظواهر الانحراف لدى الشباب من منطلق إيماني ومفهوم إسلامي. وحينما تصح العزائم وتتوفر الهمم، ويقوم كلّ منا بدوره ويؤدي الذي اؤتمن أمانته في هذا الأمر.. حينها سيسود -بإذن الله- الأمن، ويستمر الرخاء ويزداد العطاء..
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
أما بعد: إن الأمن الوطني لا يتحقق إلا بوجود الأمن الفكري؛ وذلك بحماية الأجيال الناشئة وشباب الأمة من دعوات التغريب ودعايات الفساد والإفساد.
لكي يتحقق الأمن لا بد من حماية شباب الأمة وتحصين أفكارهم من الهجمات الدخيلة التي تسمم العقول وتحرف السلوك، وتسيء إلى الدين، وتقضي على الأصالة وتشكك في الولاء وصدق الانتماء.
لكي يتحقق الأمن لا بد من القضاء على مغذيات الجريمة وقطع عروق الانحراف من قنوات ساقطة ووسائل اتصال هابطة وأغان ماجنة.
أمننا ووحدة صفنا ستبقى راسخة متى ما ارتفعت راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسادت ثقافة الاحتساب، وقام كلٌّ بدوره في محاربة كل فساد ومنكر، فالرجل مع بناته وأهل بيته، والمعلم مع طلابه، والمسؤول مع من تحت يده، وإمام الحي مع أهل حيه، وكل يعمل على شاكلته باليد أو اللسان أو بالقلب وذلك أضعف الإيمان.
سيبقى أمننا مادام فينا مَن يساهم في حماية سفينة المجتمع من طوفان الشهوات والشبهات، فإذا ما رأى أو سمع منكرًا نهى عنه، ونأى بنفسه وأهله عن أماكنه، مؤمنًا أن عباد الرحمن لا يشهدون الزور، وإذا مروا باللغو مروا كرامًا، وحذرًا من التخويف الرباني (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا)[الأنعام:140].
لوحة الأمن الجميلة ترسمها نحن بأيدينا ونصنعها بقلوبنا حينما نتخلق بالوعي ونستشعر عظم هذه النعمة وخطورة فقدها .. نصنعها حينما نتعامل مع الواقع بميزان الشرع والعقل بعيدا عن الأهواء والعواطف والرغبات الشخصية.
نعمة الأمن نحفظها حينما نحفظ حدود الله "احفظ الله يحفظك". نعمة الأمن نحفظها حينما نكف أيدي المنافقين وألسنتهم الذين يوقدون نار الفتنة ويلمزون المؤمنين ويشعلون فتيل القلاقل باستفزازاتهم لمشاعر الناس وتعرضهم لثوابت الأمة وشعائر دينها.
نعمة الأمن نستبقيها بغرس بذور التدين في قلوب الأجيال؛ فالدين وحده وليس غيره، هو الذي يوحد بين القلوب المتنافرة ويجمع الشعوب المتخالفة.
إن العقيدة هي العروة الكبرى التي تلتقي فيها سائر الأواصر البشرية والعلاقات الإنسانية، فإذا انبتت وشيجة العقيدة انبتت الأواصر الأخرى من جذورها، فلا لقاء بعد ذلك في نسب ولا لقاء بعد ذلك في صهر ولا قوم ولا وطن ولا تراب.
إن الذي يبني جدار تلاحمنا وتراحمنا وتآلفنا هو الدين الذي تربينا على مبادئه وأحكامه؛ إنه الدين الذي يأمر بطاعة ولاة الأمر في غير معصية الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)[النساء: 59].
إنه الدين الذي يشدد في الخروج على الولاة، ويرتب العقوبات على فاعليه؛ ما أقاموا فينا الصلاة، وحكموا فينا شرع الله؛ فـ"من فارق الجماعة شبرا فمات فميتة جاهلية".
إنه الدين الذي يرفع شعار "على المرء المسلم السمع والطاعة، فيما أحب أو كره؛ إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"؛ إنه الدين وحده (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[المائدة:50].
اللهم صلِّ وسَلِّم...
التعليقات