عناصر الخطبة
1/المسجد ملجأ كل مهموم ومحزون 2/مكانة المساجد في الإسلام 3/من مظاهر إكرام بيوت الله 4/وجوب تعظيم الله وتعظيم شعائره 5/مما ينبغي أن تنزه عنه المساجداقتباس
إنه واجب على قاصد بيت الله أن يراعي آدابه وأن يتعلم أحكامه؛ ليفهم ما يوافق قدسيتها وما يعد مناقضا لمكانتها، فلا يصح فيها رفع الصوت ولو في قراءة القرآن، فكيف بالنغمات الموسيقية والرنات الغنائية؟!...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله نعمُه علينا تترى، وآلاؤه لا نقدر لها حصرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً أرجو بها ذخرا وأجرا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أعظم الخلق شرفا وقدرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، والحمد لله الذي جعل بعد العسر يسرا، أما بعد:
فيا أهل الإسلام: اتقوا الله؛ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا)[الطلاق: 5].
إذا اعترى المسلم هم وغم، وكدر سعادته وأنسه هم الدين، لجأ إليها، وإذا ابتغى رفع الدرجات وتكفير السيئات مشى إليها، وإن أراد القرب من الله عكف فيها، ومن رام السلامة من الفتن، وابتغى العصمة من الشكوك والظنون أطال البقاء فيها، ومن كان ينشد ظل الله يوم لا ظل إلا ظله علق قلبه فيها.
إذا جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من سفره بدأ بها، وضايق أبا أمامة -رضي الله عنه- الدين فأوى إليها، وتخاصم علي مع فاطمة -رضي الله عنهما- فبات فيها؛ إنها بيوت الله وأحب البقاع إلى الله، وأطهر ساحات الدنيا، النفوس تتطهر فيها، والمؤمن يجد راحته ويناجي مولاه، ويتوجه إليه بالعبادة فيها؛ (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)[الجن: 18].
المساجد بيوت الله، فيها يتعبد المتعبدون، ويصلي المصلون ويعتكف المعتكفون، ويتعلم المتعلمون، ويتلاقى فيه أهل الحي ويتعارفون، يأتي إليها العبد فتهدأ نفسه ويطمئن قلبه، ويتسلل النور إلى فؤاده؛ فيخرج من بيت الله منشرح الصدر، باسم الثغر، نشيطا طيب النفس.
إنها بيوت الله يستضيف فيها عباده؛ ليؤدوا شعيرة من أعظم الشعائر وفريضة من أهم الفرائض وهي الصلاة، حيث الاتصال بالخالق ووقوف العبد بين يدي ملك الملوك، يدعوه ويناجيه ويسأله ويمجده ويثني عليه ويحمده، يسجد له فيها ويركع ويذل لجلال ربه ويخضع، إنها الصلاة الفارقة بين الإسلام والكفر، والفاصلة بين الإيمان والنفاق، إنها الصلاة التي لا يقبل في تركها عذر معتذر، ولا تسقط في أية حال حتى في أوقات الحرب والنزال
إنها بيوت الله التي أذن أن ترفع ويذكر فيها اسمه، يسبح له فيها بالغدو والآصال، رجال أغيار أطهار، لا تلهيهم تجارة ولا بيع ولا مناصب ولا اجتماعات ولا مباريات ولا أعذار عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[النور: 37 - 38].
إنها بيوت الله التي من غدا إليها أو راح، أعد الله له نزلا في الجنة كلما غدا أو راح، وخطواته إليها إحداهن ترفع درجة، والأخرى تحط خطيئة، والماكث فيها تستغفر له الملائكة، وتدعو له بالمغفرة والرحمة.
إنها المساجد كانت تضج بالبكاء، وتزدحم فيها حلق العلم والعلماء، وتتعالى فيها أصوات التكبير والتسبيح والثناء، وتلهج فيها الألسنة الصادقة بالدعاء، يدخل إليها الداخل فيزداد إيمانه، ويشتد في الحق بنيانه، فأخرجت قادة الدنيا الذين غيروا وجه التاريخ ممن كانوا عبادا للحجر فأصبحوا قادة للبشر، وكانوا رعاة للغنم فأصبحوا سادة للأمم.
كانت المساجد جامعة للعلم، ومحكمة للحق، ومركزا للتجمع، ونقطة للانطلاقة، ومكانا للعبادة، ومركزا للقيادة، وبرلمانا للسياسة، تعقد فيه ألوية الجيوش، وتستقبل فيه الوفود، وتبرم فيه المعاهدات، وتقام فيه الاجتماعات والمشاورات؛ ولذا فلا عجب أن كان أول عمل قام به المصطفى -صلى الله عليه وسلم- عندما وصل طيبة مهاجرا أن بدأ ببناء المسجد.
إنها بيوت الله وهي التي تؤاخي بيننا، وتوحد شملنا، وفيها تزول أضغاننا، وتصفو قلوبنا، يقول الحسن البصري: "أيها المؤمن، لن تعدم من المسجد إحدى خمس فوائد: أولها: مغفرة من الله تكفر ما سلف من الخطيئة، وثانيها: اكتساب رجل صالح تحبه في الله، وثالثها: أن تعرف جيرانك الذين تقابلهم في المسجد، فتتفقد مريضهم وفقيرهم، ورابعها: أن يكف سمعك وبصرك عن الحرام، وخامسها: أن تسمع آية تهديك".
إنها بيوت الله فعظموها تعظيما لله ولشعائره، عظموها بعمارتها حسيا؛ فـ"مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة"، واعمروها معنويا بالصلاة والذكر والدعاء، وتلاوة القرآن وتشجيع حلقاته، وإكرام أهله وإطالة المكوث فيه.
أكرموا بيوت الله بتعليق القلوب بها، فمِمَّن يستظل بعرش الله يوم الآزفة رجال قلوبهم معلقة بالمساجد؛ حبا لها وشوقا إليها، وترددا عليها تأسيا بخير البشر، حيث كان في آخر حياته يأتي إلى الصلاة يهادى بين رجلين، واقتداء بسلف الأمة والذين كان لهم في الشوق للصلاة قصص عجيبة، وأمور غريبة تشبه الخيال، لكنها ليست بغريبة على قوم أحبوا الله فأحبوا لقاءه، واشتاقت نفوسهم لجنة عرضها السموات والأرض فسلكوا سبيلها، ورحم الله إبراهيم التيمي حيث يقول: "إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يدك منه"، فياليتك يا إبراهيم ترى جيلا يناديهم المؤذن بالأذان وبالإقامة، ويناديهم الإمام بالصلاة والقراءة، فلا يستجيبون، رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وقالوا بلسان الحال: (ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ)[التوبة: 86].
ليتك يا إبراهيم ترى جيلا تقام الصلاة وهم يتضاحكون، وتفوتهم التكبيرة وهم لا يبالون، وتفوتهم الصلاة وهم لا يحزنون، وربما وجدت من يجلس في سيارته يقلب جواله والإمام يخطب، فإلى الله المشتكى من قوم (رَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ)[يونس: 7]، كلا سوف يعلمون، ثم كلا سوف يعلمون، ولكن حينما (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا)[الأنعام: 158]، ولا يجدي حينها نداء: رب ارجعون.
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فيا عباد الله: أكرموا بيوت الله بأخذ زينتكم في أبدانكم بالاغتسال والوضوء والتطيب، وبأن يكون اللباس ساترا نظيفا لائقا؛ فإن الله جميل يحب الجمال.
أكرموا مساجدكم بالهدوء والسكينة والرائحة والنظافة، رَأَى -صلى الله عليه وسلم- نُخَامَةً فِي حَائِطِ المَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَصَاةً، فَحَتَّهَا، ثُمَّ قَالَ: "إِذَا تَنَخَّمَ أَحَدُكُمْ، فَلاَ يَتَنَخَّمْ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَبْصقْ عنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ اليُسْرَى".
أكرموا بيوت الله بكف كل أنواع الأذى، أذى بأطفال صغار لا يدركون وإنما يشغلون ويزعجون، أذى بالروائح الكريهة التي تَنبَعِثُ مِنَ الثِّيابِ والأَفواهِ والأبدان، ثُومٌ وبَصلٌ وعَرَقٌ ودُخَانٌ، وجوارب منتنة؛ فَيَنشَغِلَ القَلبُ عَنِ الخُشوعِ والاطمِئنانِ، وَقَد قَالَ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا، فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا، وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ؛ فَإِنَّ الملائكة تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الإنس"، فكيفَ يُؤذى ضيوفُ ذِي الجَلالِ والإكرامِ؟!.
أذى بالخلافات والنزاعات والشقاق لأتفه الأمور، فبيوت الله محل للتآلف لا للتخالف، ومكان للصفاء لا للجفاء.
أكرموا بيوت الله بالتعاون على صيانتها ونظافتها وطيب رائحتها، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي، حَتَّى الْقَذَاةِ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ الْمَسْجِدِ".
عظموا بيوت الله بتجنب الاعتداء عليها أو على شيء من محتوياتها؛ فإنما هي أماكن أوقف كل ما فيها لعبادة الله وطاعته، فمن أخذ شيئا منها لمصالحه فإنما اقترف الغلول؛ (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[آل عمران: 161]، "وَلا يَسْرِقُ حينَ يَسْرِقُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ".
يا شباب الأمة: عظموا الله ولقاءه واحترموا بيوته، فمن سوء الأدب مع الله أن تقابله بسراويلات قصيرة، أو ملابس شفافة تظهر العورات؛ فتبطل الصلاة، أو بدلات حوت صورا وكتابات، أو ثياب متسخة، أو روائح كريهة، وما كرهت أن تقابل به الخلق فلا تقابل به الخالق؛ فالله أحق بالتعظيم والإجلال إن كنتم مؤمنين.
إنه واجب على قاصد بيت الله أن يراعي آدابه وأن يتعلم أحكامه؛ ليفهم ما يوافق قدسيتها وما يعد مناقضا لمكانتها، فلا يصح فيها رفع الصوت ولو في قراءة القرآن، فكيف بالنغمات الموسيقية والرنات الغنائية؟!.
علموا صغاركم وربوا ناشئتكم على أن للمسجد حرمته، وللقاء الله هيبته، وأن للصلاة قدسيتها، واغرسوا فيهم تعظيم شعائر الله وبيوته.
يا أيها المسلمون جميعا: اتقوا الله ولا تجعلوا الله وبيوته أهون من تلاقونه، ومن عظم الله وشعائره عظم قدره، والجزاء من جنس العمل.
التعليقات