عناصر الخطبة
1/أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 2/أيسر طرق النهي عن المنكرات 3/تقصير كثير من المسلمين في إنكار المنكرات 4/الهجر والإعراض سلاح المسلم ضد المنكر وأهلهاقتباس
فإن من آيات أو ثمرات كره المنكرات الإعراضَ عنها، وعن أصحابها واجتنابَهم، والاعتصامَ من الاختلاط بهم، ووجوبَ إظهار بغض أفعالهم ما داموا على منكرهم، ووجوبَ قطيعتهم في شتى حركات الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ولا سيما المجاهرين منهم بمنكراتهم...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله الذي هدانا وعافانا وكفانا وآوانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أنعم علينا واجتبانا، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أحسن الناس خلقاً وأصدقهم بياناً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، ومن كانوا للحق أنصاراً وأعواناً، وسلم تسليماً، أما بعد:
فيا عباد: الله اتقوا الله ربكم؛ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[البقرة: 281].
سنة الله تقرر أنه: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)[هود: 117]، وأن بني إسرائيل حلت عليهم لعنة الله على لسان أنبيائه لأنهم؛ (عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)[المائدة: 78 - 79]، وسنة رسول الله أعلنت الحقيقة: "أنهلك وفينا الصالحون؟"، قال: "نعم إذا كثر الخبث".
شريعة الله قررت أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لصلاح الدنيا والدين، وبتجاهله والتقصير فيه الهلاك المبين، والتواطؤ على تركه نذير شؤم على العالمين؛ حيث ينتج عنه العذاب المهين، وحجب دعاء الداعين، وهلاك الصالحين والطالحين، بحكم رسول رب العالمين، حيث يقول: "والذي نفسي بيده لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهوُنَّ عن المنكر؛ أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم".
حينما يجرف سيل المنكرات، ويرى المسلم جلد الفاجر وعجز الثقات، وحينما يستشعر المسلم مسؤوليته أمام الله عن هذا الدين وتلك العقيدة، ويجد نفسه عاجزا عن التغيير باليد واللسان، وهو يوقن أن الاحتساب هو عبادة تعبد الله بها جميع الأمة حسب الطاقة، ومسؤولية ينوء بحملها الجميع، وحينما يعلم أن العدالة ليست شرطاً في الآمر الناهي، كما قال الحسن لمطرِّف بن عبد الله: "عِظ أصحابك"، فقال: إني أخاف أن أقول ما لا أفعل، قال: "يرحمك الله! وأينا يفعل ما يقول؟! ود الشيطان أنه قد ظفر بهذا، فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينهَ عن منكر".
حينها يجب أن يعلم أنه لن يعفى من المسؤولية، ولن تلقى عنه التبعة، وأن أمامه سلاحا لن يلام أبدا على استخدامه، إنه نار بلا دخان، وجهاد بلا دماء، وبذل بأيسر التكاليف، إنه وسيلة الضعفاء أمثالنا للتعبير عن ولائهم للدين، وغيرتهم على شعائر الله وحرمات المسلمين،
سمه إن شئت سلاح الهجر والإعراض، وإن شئت فسمه أضعف الإيمان.
إن من فضل الله على هذه الأمة المرحومة أن الله رفع عنها كثيراً من الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، من ذلك عدم التكليف بما لا يطاق؛ لهذا قال رسولها الرؤوف الرحيم، والناصح الأمين: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
غير أن قطاعاً من المسلمين لم تسعه هذه الرحمة الواسعة، فقصَّر حتى في أضعف درجات الإيمان، وأمسى وأصبح وليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فهو من أموات الأحياء، ومن المنتكسين التعساء، وبعضهم الآخر لم يحقق هذه الدرجة الدنيا كما ينبغي، وإن تلبّس بها بعض التلبس، حيث لم يفِ بشروطها، ولم يتجنب نواقضها ومفسداتها.
إن كثيرا من الناس يخطئون حين يتنصلون من مسؤولياتهم في الأمر والنهي، ويلقون باللائمة على المسؤولين، بينما هناك منكرات مسؤوليتها على الآباء، والأمهات، والأساتذة، والمربين، ونحوهم، أكبر من مسؤولية المسؤولين؛ حيث إنها ربما ظهرت لهؤلاء وخفيت على المسؤول، والتقصير في هذا الجانب من أي شريحة من شرائح المجتمع له خطره المتعدي على الأمة جمعاء.
أيها الأخ المسلم: مهما تكن منزلتك فأنت على ثغرة من ثغور الإسلام، بل ينبغي لكل مسلم أن يختزل مسؤولية حماية هذا الدين والذب عنه في شخصه، كما قال خليفة رسول الله أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- عندما لم يوافقه أحد في أول الأمر على حرب المرتدين وردع المارقين: "أَيُنتقص الدين وأنا حي؟".
وإذا عز عليك الاحتساب على المنكرات بيدك وبلسانك فإن أمامك سبلا لن تعذر أمام الله بتركها، تستطيع أن تواجه المنكرات وتعبر عن نصرتك لدينك باستخدام سلاح الهجر للمفسدين، لمنتجاتهم وأفكارهم، ومجامعهم ومنتدياتهم، وصحفهم وإعلامهم.
إنه سلاح المسلم الذي لن تستطيع أي قوة أن تمنعه من استخدامه، فإن كان هناك من يمنعك من إن تقول كلمة إنكارا لمنكر فإنك لن تجد من يجبرك على ورود أماكن المنكرات وتجمعات الذنوب، أوليس ربنا يقول: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ)[الأنعام: 68]، وهو القائل: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ)[النساء: 140].
الهجر سلاح بيدك يؤدب به العصاة والمتمردون، هجر بالسلام وبالكلام وبالتواصل، الهجر والإعراض والمقاطعة سلاح مارسه النبي وأصحابه تأديبا وتربية وتعليما، فقد هجر الثلاثة الذين خلفوا، وهجر بعضا من أصحابه وزوجاته حينما وقعوا في مخالفات، وسار على ذلك صحابته الكرام.
الهجر والإعراض والمقاطعة سلاح المسلمة الغيورة حينما تدعى إلى قصور حوت قصورا، وأعراس تضمنت ما يسخط الله، من عري وتفسخ ومعازف وغناء، وهو سلاحها ضد أسواق عصي الله فيها، باختلاط وتبرج ومعاكسات وقلة حياء، فماذا يضير المسلمة إذا هجرتها ديانة وغيرة واحتسابا؟!.
الإعراض سلاح المسلمة تقتل به العابثين بالمكالمات، والتافهين الباغين للعفيفات العنت بالمعاكسات، فلا شيء يقتل هؤلاء مثل الصد والإعراض والتجاهل، أما مجاراتهم والرد عليهم ولو بأقذع الأساليب فإنه لا يزيدهم إلا عنادا وإيذاء.
الهجر والإعراض والتجاهل سلاح نقتل به نكرات تتطاول بالصعود على أكناف العظماء، والباحثين عن الشهرة من أوسخ أبوابها، وهو سلاح نئد به كتابات سامجة تستهدف الرموز والثوابت، فبالإعراض نميتها وبالاهتمام والنشر والإشاعة والردود ننشرها وننفخ في أصحابها، وحينما نتسلح بالغيرة، ونتدرع بحصن الاحتساب، ونستشعر المسؤولية؛ فلن نجد عذرا لمعتذر في أن يعبر عن إسلامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والغيرة على الدين، ولو بأضعف الإيمان، والتخاذل وبرود المشاعر يعني استجلاب الغضب وحلول العقوبة، نسأل الله أن يقينا عقابه وأن يصرف عنا عذابه.
أقول هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد: من ضعفت همته أو عَدِم الوسيلة للإنكار باليد أو اللسان فأمامه وسيلة الإنكار بالقلب، إنه لا يحل لأحد أن يدع الإنكار باليد وهو قادر على ذلك، فإن عجز عنه وجب عليه الإنكار باللسان، فإن لم يقوَ عليه وجب عليه وجوباً عينياً الإنكار بالقلب، وإلا فقد ذهب إيمانه بالكلية كما أخبر سيد البرية؛ لأن القلب لا يملكه إلا الله، ولا يحول بينه وبين صاحبه أحد، قال القرطبي في تفسير الإنكار بالقلب: "أن يكره ذلك الفعل بقلبه، ويعزم على أن لو قدَر على التغيير لغيّره، وهذا آخر خصلة من الخصال المتعينة على المؤمن في تغيير المنكر".
إذا كان كره المنكرات وأصحابها فعلاً قلبيَّاً، فإن له واقعاً سلوكياً في حياة صاحبه يصدق ذلك الكره أو يكذبه، فإن من آيات أو ثمرات كره المنكرات الإعراضَ عنها، وعن أصحابها واجتنابَهم، والاعتصامَ من الاختلاط بهم، ووجوبَ إظهار بغض أفعالهم ما داموا على منكرهم، ووجوبَ قطيعتهم في شتى حركات الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ولا سيما المجاهرين منهم بمنكراتهم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل، فيقول: يا هذا، اتَّق الله، ودع ما تصنع؛ فإنه لا يحلُّ لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم".
إن الإنكار بالقلب لابد أن يتضمن تمعر الوجه على أصحاب المنكرات، فالظاهر عنوان الباطن، فمن كره المنكر بقلبه عليه أن يبدي ذلك في وجهه، فيمعِّره ويقطبه في وجوه أصحاب المنكر إن لم يخشَ بأسهم إن كانوا من ذوي السلطان والجبروت، وهذه العلامة من أقوى المؤشرات على كراهية القلب لهذا المنكر، وقد يكون لها أثرها في إزالته بالكلية أو التقليل منه، وليس هذا موقفاً سلبياً من المنكر كما يلوح في بادئ الأمر، وتعبير الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأنه تغيير دليلٌ على أنه عمل إيجابي في طبيعته.
فإنكار المنكر بالقلب معناه احتفاظ هذا القلب بإيجابيته تجاه المنكر، أنه ينكره ويكرهه ولا يستسلم له، ولا يعتبره الوضع الشرعي الذي يخضع له ويعترف به، وهذا كله عمل إيجابي في التغيير، وهو على كل حال أضعف الإيمان، فلا أقل أن يحتفظ المسلم بأضعف الإيمان.
نسأل الله أن يوفقنا لفعل الخيرات وإنكار المنكرات، وأن يدفع عنا أسباب العذاب والعقوبات.
التعليقات